العداء الفارسي للعرب أساس تشكُّل الدولية الإيرانية

يشكل الحديث عن الأطماع الإيرانية في المنطقة العربية إحدى المسائل المتجددة واللصيقة بسياسة طهران في المنطقة، سواء اليوم أو بالعودة إلى سجلات التاريخ التي تصب جميعها في إطار رغبة بلاد الفرس في التمدد على حساب الدول العربية وتأسيس وهم الإمبراطورية. وما تزال الدراسات الحديثة تؤكد هذا التوجه الذي تتبعه إيران من حين لآخر، حتى أن بعضها ذهب إلى الكشف عن التلاعب بالتاريخ والأحداث بما يخدم الهدف المركزي لهذا البلد، والمتمثل أساساً في إيجاد مخارج لبسط نفوذه في المنطقة.

يرى المؤرخ والكاتب الإيراني الأرمني يراوند آبراهاميان: “أن الإيراني يرى الوصول للثروة والثراء من خلال تدمير جاره…”. هذا النوع من التفكير امتزج بالثقافة الفارسية الحالية، والمستمد من الأوهام التاريخية، فكلنا قد عانينا ومازلنا نعاني منه -شعوباً وحكومات- في منطقة الشرق الأوسط -أي العالم العربي-، وما نراه حالیاً هو نتیجة حتمية لهذه الأوهام.

وفي هذا السياق كان المؤرخ الإيراني أحمد كسروي (1890-1945) قد وصف إيران بـ “برميل من القذارة التي عمّت رائحتها العالم أجمع”. ما أراد كسروي إيصاله، هو حجم الكراهية والحقد الذي يضمره الفارسي تجاه الشعوب الأخرى القاطنة في جواره، خاصة العرب. وكسروي هو من أسس أول حركة سياسية اجتماعية في إيران تحت عنوان “پاک­دینی” -أي الدين الطاهر- في تلك الفترة، وكان هدفها إيجاد هوية إيرانية علمانية جديدة بالمطلق، مبنية على العرق الفارسي والأهام التاريخية.

إذاً، هذه أوهام الفرس التاريخية والثقافية التي أخذت في الكثير من الأحيان طابعاً قومياً سياسياً، انعكست أيضاً في بعض الأحيان سلباً على الشعوب القاطنة في جغرافية إيران السياسية الحالية، وأخرجتها من محيطها الطبيعي، وغالباً ما تكوّنت انتماءات هذه الشعوب -العرب والبلوش والأتراك والأكراد وغيرهم- خارج المركز الإيراني -طهران-.

البعد التاريخي والثقافي:

ولمعرفة الشخصية الفارسية الحالية ونمط تفكيرها، لابد من الخوض ولو جزئياً في البعد التاريخي والأدبي والثقافي والسياسي والاجتماعي لإيران، التي باتت عبئاً على الإقليم كله. ولفهم حيثيات العقلية الفارسية في التفكير والتخطيط والتنفيذ، لابدّ من توضيح آليات نشوء إيران السياسي، الذي جاء بفعل تدخل خارجي مصلحي سياسي في بداية القرن المنصرم.

تؤكّد الدراسات التاريخية أن بلاد الفرس -الهضبة الفارسية الحالية- خضعت لحكم عدّة سلالات ذات طابع وخصوصية سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية مختلفة عن بعضها البعض، وكان لها التأثير في بناء الشخصية الفارسية سلباً وإيجاباً. وتشير هذه الدراسات في مجملها، إلى أن الحقبة القاجارية هي من أهم الحقب في هذه البقعة التي عُرِفت قديماً بـ “بلاد فارس”، ويطلق عليها اليوم أبناء الشعوب القاطنه فيها “جغرافية إيران السياسية”. وعليه، بعد ما اكتشف البريطانيون النفط في شمال الأحواز بين عامي 1906-1909، تغيّر وجه المنطقة كلياً، بالتزامن مع صعود البلاشفة إلى السلطة في روسيا عام 1917، متطلِّعين إلى الوصول للمياه الدافئة في الخليج العربي، استناداً إلى وصية القيصر بطرس الأكبر: “توغلوا حتى تبلغوا سواحل الخليج العربي، ومن ثم واصلوا السير نحو الهند لأن الهند عالم الكنوز والثروات”. ومن هنا أتت الضرورة البريطانية آنذاك لإيجاد سد منيع يقف أمام دخول الروس للمستعمرات الإنجليزية، والذين تجمعهم مع الفرس القدامى والذين جاؤوا للهضبة الإيرانية الحالية -أي وسط جغرافيا إيران الحالية بالتحديد- من منطقة القوقاز (2500 ق­م)، مشتركات تاريخية وحدودية قد تُسهِّل وصولهم لمنطقة الخليج العربي.

وكان على بريطانيا العظمى وقادتها آنذاك (بدايات القرن العشرين)، إيجاد دولة تؤمِّن لهم مصالحهم في المنطقة، رغم علاقاتهم الجيدة مع المحمرة عاصمة الأحواز، ومع عاصمة البلوش في تلك الفترة، والتي كانت تعرف بـ “پهره” وحالیاً بـ “إيرانشهر”. حيث قدّم الدبلوماسي والمؤرخ “السير جان ملكم” أول سفير لبريطانيا في زمن حكومة “فتحعلي القاجار”، في كتابه “تاريخ إيران” عام 1813، نظرية جديدة للمرة الأولى عن إيران القديمة، حول “مركزية العرق الآري”، حتى يبرهن أن “الشعب الفارسي” شعب يختلف عن شعوب الشرق الأوسط، بل أفضلها، وكأنه “شعب الله المختار”. فيما سخّر البريطانيون الكثير من الموارد المادية والبشرية لإنشاء السلالة البهلوية، وكلفوا اردشيرجي ريبورتر الزرادشتي الهندي الأصل والعميل السري للمخابرات البريطانية في إيران تنفيذ هذه المهمة، من خلال إعداد وتأهيل رضا ميربنج الذي أصبح شاه إيران فيما بعد.

ونلحظ هنا، التقاء المطامع الفارسية مع المصلحة البريطانية وربما اليهودية أيضاً في آن واحد، حيث حتّمت الضرورة على هذه الأطراف إيجاد بديل للواقع التاريخي والاجتماعي والثقافي والديني السائد في جغرافية إيران آنذاك. فاحتُلت الأقاليم ذات الطابع التاريخي والقومي والثقافي والديني المختلف كلياً عن بلاد فارس، الواحد تلو الآخر، وآخرها احتلال الأحواز وضمها لبلاد فارس، لتكون خاتمة الاحتلالات الفارسية-البريطانية في النصف الأول من القرن المنصرم.

وللدلالة على هذا الواقع أعتقدُ ولستُ جازماً، ولنترك التدقيق والتفحص للمختصين في علوم التاريخ، بأنه يجب النظر في الأمرين التاليين كمدخل لفهم العلاقة الفارسية-اليهودية في تلك الحقبة والأهداف المرجوة منها، لاسيما تأثير مخرجاتها في العقلية الفارسية الحالية والتي باتت مزعجة جداً:

 أولاً: فكرة أرض المعياد -أي موطن اليهود- والتي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث كانت فلسطين الخيار الأمثل لتمرير مخطط هرتزل لإيجاد الدولة اليهودية، التي سوّق لها في المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عقد في بازل السويسرية في أغسطس عام 1897، وكان من الضروري للصهاينة في تلك الحقبة تسويق بعض أفكارهم التاريخية المزورة، وربطها بتاريخ المنطقة العربية، ليجدوا في الفرس القدامى ضالتهم، حيث كان لهم موطئ قدم في منطقتنا بدءً من احتلالهم لبابل على يد «قوروش» ملك الأخمينيين الفرس عام 538 قبل الميلاد، وانتهاءً بالمزاعم التاريخية عن علاقة هذا الأخير باليهود ومساعدتهم في التخلص من “ظلم” البابليين آنذاك -أي فكرة السبي البابلي لليهود-.

ثانياً: ضرورة تغيير الواقع التاريخي والاجتماعي والديني والسياسي السائد للأقاليم التي ضُمَّت حديثاً لجغرافية بلاد فارس، بواسطة احتلال عسكري قام به رضا مير بنج في الربع الأول من القرن المنصرم.

تغيير التاريخ:

ونتيجة لهذا الواقع الذي فرضته الظروف السياسية والمصلحية لصالح القومية الفارسية بدايات القرن المنصرم، كان من الضروري بمكان أن يتم تغيير الواقع التاريخي للأقاليم المحتلة حديثاً. وتتمةً لإنشاء السلالة البهلوية وبناء الدولة الجديدة، التي من المفترض أن تأمن مصالح بريطانيا العظمى. حيث اعتمد الفرس توصيات مشروع العميل السري للمخابرات البريطانية الزرادشتي الهندي اردشير ريبورتر، لتحقيق الإنصهار القومي في الجغرافيا والدولة الحديثتين، والذي سُمِّي في ذلك الوقت «دولت-ملت»، وكان الهدف منه بناء دولة جديدة وثقافة جديدة بالمطلق أساسها العرق الآري (Aryan race).

ومن هنا كان لابد للقادة الفرس في تلك الحقبة إيجاد مبررات تاريخية مادية، يعتمد عليها في كتابة التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي الجديد، ويستند إليها في آن واحد. وعليه يبدو أنه وفي بداية الأمر، كُلّف المستشرق اليهودي والمختص بعلم الآثار إرسنت اميل هرتسفلد، للعمل فيما سُمِّي بـ «مجموعة پاسارگاد وتخت جمشید الأثرية»، الواقعة في محافظة شيراز وسط إيران بين الأعوام 1923 -1925، وبقي في طهران حتى عام 1934. إلا أنه رفض أن يساهم في تزوير المعطيات التي توصَّل إليها، فتمّ استبعاده عن المهمة، وأوكلت فيما بعد للمؤرخ والمختص بعلم الآثار اليهودي ديود أستروناخ (1961-1964) ليكمل مهمة التزوير المفترضة.

ودلالة على هذا التزوير الذي اعتُمِد كأساس في بناء الدولة والإنسان الفارسي، الدراسة التاريخية التي قام بها مكتب المرشد علي خامنئي، للبحث في جدلية الشخصية الأسطورية لـ «كوروش الكبير»، والتي تنظر في الحقائق التاريخية من خلال ما يُسمَّى بـ «مجموعة تخت جمشيد وپاسارگاد الأثرية». حيث جاءت هذه الفكرة للمرشد الإيراني عندما ذهب لمدينة همدان الفارسية واطَّلع على حجم الكذب والتزوير الذي اعتُمِد في بداية القرن المنصرم، لإظهار ملك الأخمينيين والبطل الذي لا يُقهَر أبداً -أي كوروش الكبير- والذي “فتح” بابل “وحرّر” اليهود من الظلم البابلي -أي “الهولوكوست البابلية”-.

ويبدو أن هذه الدراسة العلمية المحكمة التي نشرت (11/5/2011) في كبرى الصحف والمراكز البحثية الإيرانية، ومنها وكالة «فارس للأنباء» التابعة للحرس الثوري، وموقع «تابناك» الإخباري التابع لسكرتير مجلس تشخيص مصلحة النظام، تحت عنوان: «پاسارگاد ساخته یهودیان یا ایرانیان؟ -أي باسارغاد صناعة يهودية أم إيرانية؟»، قد توصلت إلى نتائج شكّكت في الكثير من المزاعم التاريخية التي نُسِبت للسلالة الإخمينية من حيث الأساس، وضربت بعرض الحائط كافة الادعاءات التاريخية التي تم تزويرها بمساعدة اليهود في العشرينيات من القرن المنصرم. ومن الجدير ذكره أيضاً أن الفريق الذي كُلِّف بإعادة النظر في مجموعة «پاسارگاد وتخت جمشید» تبین لهم أن معظم الآثار والحفريات، تعود في مجملها للحضارة العيلامية في الألف الثالث قبل الميلاد في إقليم الأحواز العربي -أي قبل نزوح الفرس من جبال القوقاز بمئات السنين-.

وسنسعى في المادة القادمة إلى تبيان حجم التزوير الذي لجأت إليه السلطات الفارسية المتعاقبة في عملية استكمال بناء الدولة الإيرانية، وترسيخ العداء الفارسي للعرب كآلية تنشئة سياسية للأجيال الجديدة.

جمال عبيدي

نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق