العجز الأمريكي الغربي في سوريا أدى إلى استدعاء الدور الروسي

في حقبة الستينات من القرن الماضي لم يكن هناك صدام بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، لكنه بدأ في الثمانينات، لذلك كان يطمح الاتحاد السوفيتي إلى بناء قواعد في البحر الأبيض للحفاظ على التوازن، ولكن اصطدمت هذه الرغبة بشروط سورية أن يتزامن مع إقامة القاعدة وضع صورايخ لحماية دمشق في عام 1981 لكنها فشلت.

روسيا كانت حريصة على الابتعاد عن حرب محتملة مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولا تريد التورط في حرب ثانية، ويكفيها تورطها في أفغانستان، لكن عندما توغلت إسرائيل في لبنان عام 1982، ورغم أن سوريا لم تشترك في القتال الدائر في لبنان، إلا أن السلاح الجوي الإسرائيلي قصف 14 بطارية للصواريخ من طراز سام 2،3،6 روسية الصنع، من أصل 19 بطارية، مع إعطاب أربع أخرى، كانت سوريا قد نصبتها في البقاع اللبناني، ولم تكتف إسرائيل بتدمير الصواريخ، بل دمر السلاح الجوي الإسرائيلي 40 طائرة سورية في الجو في يوم واحد، ما أمن السيطرة الجوية لإسرائيل، بعد معركتين أرضيتين سريعتين، اضطرت سوريا إلى توقيع هدنة في 11 يونيو 1982 معلنة فيه وقف القتال.

بعدما قضت إسرائيل على ثلثي الدفاع الجوي السوري، وصل حافظ الأسد فجأة إلى موسكو، وقابل ليونيد بريجنيف، وقال بريجنيف قولته المشهورة، يأتينا كل من هب ودب، وعليّ أن أودعهم واستقبلهم كل يوم مرتين.

وكان الرئيس حافظ الأسد يعرف اللغة الروسية، لأنه درس في موسكو، فرد عليه، أليس هذا في صالح حركات التحرر ضد الليبرالية، فعاد وطلب بريجنيف منه إقامة قاعدة بحرية، فوافق حافظ الأسد، ولكن تكون باختصارات PMT، لكن بريجنيف رفض مسمى قاعدة باختصارات، بل أرادها بمسماها الحقيقي، فسحبت سوريا موافقة منح السوفيت قاعدة بحرية.

اعتبر حافظ الأسد أن السوفيت خذلوا سوريا بعدما خسروا ثلثي دفاعاتهم الجوية، لكن أقنعهم السوفيت، بأن هناك خيانة من جاسوس، أعطى أمريكا أسرار هذه الأسلحة الروسية السرية، والتي بدورها أعطتها إسرائيل، فأصبحت مكشوفة للدفاعات الجوية الإسرائيلية.

الولايات المتحدة تتعاطى مع الملف السوري، من خلال ملفات أخرى كملف العراق، وملف الإرهاب، وملف النووي الإيراني، فبعد تهشيم الوزن الإقليمي للعراق، حصلت إسرائيل على تهشيم آخر للوزن الإقليمي لسوريا، وبعد تردد أوباما في قصف الأسد، شجع روسيا على التسلل إلى سوريا.

فرصة الدب الروسي أن يستثمر انشغال النسر الأمريكي بالتنين الصيني على صراع النفوذ والنمو، رغم أن علاقتهما تشمل تعاونا ومنافسة على المستوى العالمي، وهو ما يمثل نموذجا جديدا للعلاقات بين الدول الكبرى، خصوصا وأن الصين ترى أن العالم يدخل مرحلة من التعديلات والتغيرات الرئيسية، ولن تبقى الصين صامتة كما كانت من قبل، خصوصا بعدما نجحت الصين في الحصول على توقيع عشرات البلدان بينها الحليفتان المقربتان من الولايات المتحدة ألمانيا وبريطانيا، في البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية.

كافح شي رئيس الصين من أجل التأكيد على أن الصين لا تسعى إلى الهيمنة، بل هي تسعى إلى بناء الثقة، وتبديد الخوف الاستراتيجي، مع تجنب سوء التقدير الاستراتيجي، لأن الصين تود أن تتخلص أمريكا من العقلية الصفرية، ربح طرف على حساب الآخر، وأن الصين مصدر للمشكلات كلما ازداد نموها.

بينما ورث بوتين روسيا من القياصرة الحمر الذين خلفوا ستالين، ويريد أن يحقق مطامع القياصرة الحمر الذين فشلوا في الحصول على قاعدة عسكرية في البحر المتوسط، ولم يسمح لهم حافظ الأسد، ولكن الآن بشار الأسد الجريح، أكيد سيمنح بوتين القاعدة بلا شروط، بخلاف أبيه حافظ الأسد.

يعتقد البعض أن بوتين يرتكب غلطة ليونيد بريجنيف، الذي تدخل عسكريا في أفغانستان، فاختصر عمر النظام الشيوعي في روسيا وألمانيا الشرقية، لكن بوتين متألم نفسيا لسقوط النظام الشيوعي رغم أنه غير شيوعي، ولكنه يريد أن يجعل من روسيا ندا قويا لأميركا سياسيا وعلميا، لكن أمريكا لم تعطه فرصة ودفعت بحلف الناتو إلى محاصرة روسيا وصولا إلى أوكرانيا، بل الغرب يتدخل حتى في الداخل الروسي، خصوصا بعد فرضه عقوبات اقتصادية، التي أفلحت في تقليص الازدهار الاقتصادي في روسيا، الذي هو سر شعبية بوتين، الذي وضع حزبه في المقدمة.

وبعد وصف وليد المعلم وزير الخارجية السوري إقامة جيب تركي إنساني للنازحين بأنه اعتداء على السيادة، والكيان السوري، فيما يرحب بشار الأسد بالتدخل الروسي التي كشفت عن سذاجة بشار الأسد السياسية، خصوصا بعدما كشف علنا بأن مجيء القوات الروسية لمكافحة الإرهاب، وهي مقدمة على الاتفاق بين الحكومة والمعارضة التي تسرع بترحيل بشار الأسد.

إيران قلقة من الاتصال الذي أجراه بوتين عبر الهاتف بالملك سلمان، قبل إلقاء الخطاب في الأمم المتحدة، للبحث عن حل للوضع في سوريا، وحصول تنسيق دولي فعال من أجل التصدي لتنظيم داعش، بوتين لم يكن إلا ليرضي كافة الأطراف، فأقنعت إيران بأن يضم بوتين العراق إلى تحالفها الناشئ لمحاربة داعش، ليصبح حيدر العبادي حصان طروادة، لقطع علاقاته بالجوار العربي الذي تقوده السعودية بعد موافقتها على إرسال سفيرها إلى بغداد، ودعم الإصلاحات التي يقوم بها العبادي بدعم من المرجعية الدينية، والتي تعارضها إيران.

ومن أجل كسب بوتين ود أمريكا وأنها لا تود الضرر بحليفتها في الشرق الأوسط، فطلب بوتين التنسيق مع إسرائيل، فسارع نتنياهو إلى التجاوب، وجرى لقاء مع بوتين في موسكو، وهناك صفقة إسرائيلية روسية حول سوريا، من خلال تقديم معلومات عن الفصائل المسلحة، مقابل لجم إيران وحزب الله في الجولان.

وجرى اتفاق بينهما على آلية للتنسيق الأمني بين الجيشين وأذرعهما الجوية والبحرية والإلكترونية في كل مجال نشاطاتهما على الأرض وفي السماء السورية، وأهمها منع نقل أسلحة فتاكة من سوريا وإيران لحزب الله.

وافتتح بوتين أكبر مسجد في موسكو من أجل التقرب إلى السعودية وتركيا في 23/9/2015 بحضور أردوغان الرئيس التركي، واعتبر بوتين افتتاح المسجد، بالحدث التاريخي، مذكرا بان القوانين الروسية، تعتبر الإسلام دينا رئيسا في روسيا، الدولة متعددة الأديان والثقافات.

وأشار بوتين إلى أن الإسلام طالما كان في روسيا ومنذ القرون الوسطى، سبيلا إلى توحيد كل الطوائف، وتقارب ممثلي كل الأديان، وهذا ما تعكسه كل المؤسسات الدينية التي تنتشر في ربوع روسيا، ولا سيما في تتارستان وبشكيريا والشيشان، وما ساهم من انضمام روسيا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، فضل بوتين أن يستشهد بآيات قرآنية تحض على التسامح وفعل الخير.

بعد مرور سنة على انطلاق التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد داعش، وسط تساؤلات، عما حققه استهداف التنظيم المتطرف، والتقييمات الاستخباراتية الأمريكية حول داعش والتلاعب بها، بوتين يداهم أوباما في سوريا ويقول له الأمر لي.

وتدخل روسي بقوة في سورية، يكشف هشاشة وضع الأسد، رغم أن الأسد وداعميه من الروس والإيرانيين، لا يهاجمون هم أيضا داعش، لأنهم يرون في هذا التنظيم الإرهابي حليفا موضوعيا ضد قوى المعارضة السورية الأخرى.

لذلك رفضت تركيا هي الأخرى محاربته نيابة عنهم، ولم تمنع كذلك الهجرة إلى أوربا، التي هي الأخرى سببت أزمة لأوربا، التي أدت إلى تداخل أزمة اللاجئين مع المهاجرين في منظور أوربا.

بينما دخلت فرنسا على الخط، وفي تصريح لوزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في مؤتمر صحفي في نيويورك في 26/9/2015 قائلا الأسد لا يمكن أن يحكم سوريا إلى الأبد، ولكن المهم حاليا هو البدء بمحادثات حول عملية انتقالية سياسية، وهو يعكس وحدة رأي نظرائه الأوربيين مع تمايز في التعبير، لكنه لم يطرح شرط رحيل الأسد قبل المفاوضات، كما فعلت المستشارة الألمانية ميركل، التي أكدت أنه يجب التحاور مع الأسد.

ويجري فابيوس في نيويورك مع نظرائه الأميركي والروسي والإيراني والسعودي والإماراتي والتركي والعراقي مشاورات، ولكن بعد يوم واحد من تصريح وزير الخارجية الفرنسي، غيرت فرنسا مواقفها، وقال هولاند رئيس الوزراء الفرنسي لروحاني، بأنه لا يمكن أن يكون الأسد جزءا من الحل في سوريا، كما أكد هولاند بأن إيران لا يمكن أن تسهل أي حل في سوريا، تزامنت تصريحات هولاند بضربات جوية لداعش في سوريا من أجل الحفاظ على الأمن القومي الفرنسي، يبدو أن فرنسا لا تريد أن تترك الساحة لروسيا أو تود أن تحرج روسيا التي تواجدت في المناطق العلوية ولم تتواجد في المناطق التي يتواجد فيها داعش ولم تشارك لا بضربات جوية ولا برية في محاربة داعش.

فيما يقترح بوتين على الأمريكيين والعرب تحالفا جديدا في سوريا، بعد هجومه المكثف المسبق على المسار السوري، واتهام الولايات المتحدة بدعم الإرهاب للإطاحة بالأسد بشكل غير شرعي، قبل خطابه في الأمم المتحدة ال 70 للجمعية العامة يوم الاثنين 28/9/2015، واجتماعه بنظيره الأمريكي، واقترح تشكيل تحالف جديد في سوريا، وهي الاستراتيجية التي سيوضحها بوتين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن هولاند أعطى بوتين رسالة، بأن الغرب وأوباما والعرب وتركيا لن يقبلوا بالأسد كجزء من الحل، رغم أن بوتين التقط إشارات من عدة عواصم غربية بشأن استعدادها للقبول ببقاء الأسد في سياق حل سياسي وهو ما ضلله، وسيبلغ أوباما بوتين بأن رهانه على الأسد خاسر.

هدف بوتين النهائي جمع جهود جميع السوريين في الحرب على إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، من اجل مغازلة أمريكا، وكذلك أعقبه تصريح للرئيس روحاني، بأن القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية يسبق الحل السياسي في سوريا.

يود بوتين أن يعطي الغرب والدول العربية فرصة للمبادرة الروسية، لعلها تنجح في ما فشل فيه الآخرون، ولكن لا زالت الفجوة بين روسيا وحلفائه والغرب والدول العربية وتركيا واسعة، رغم اجتماع وزير الخارجية الروسي والأميركي الأحد 27/9/2015، أي قبل يوم واحد من اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل تنسيق الجهود.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق