الشهداء، دلالات مضيئة في سياق القضية الأحوازية

شهدت القضية الأحوازية، سياساً وثقافياً، تقلبات تاريخية عدة، اجتذبت الأجيال نحو تبني خطابات ورؤى ذاتية وغير ذاتية -وذلك في ظل السرديات التي كانت ومازالت تعم المنطقة-، ما صنع منها، تاريخياً، قضية مركبة في طور النظرية والتطبيق، لا تستقيم على قاعدة واحدة، ولا تصب في منهج واحد. وهذا ما يثير قلق الفاعلين الوطنيين، خاصة في العقد الأخير -مع ازدياد الفاعلين السياسيين والثقافيين في الساحة الأحوازية-، في استحالة النهوض بمشروع وطني شامل يضم كل الفصائل والأحزاب السياسية، وكل المناهج الفكرية في بوتقة واحدة، ما يعيد إنتاج التصورات الوحدوية اللاتاريخية، تصورات بإمكانها الذهاب بالتجارب الوطنية نحو المزيد من الإقصاء والاستبعاد الفكري والسياسي. وذلك لطرح المشروع الوطني طرحاً عابراً للتاريخ والرؤى ومجرداً عن الواقع، وأيقونة للتقديس ويعيد إنتاج الماضي المجيد، ويحقق الحلم المستقبلي عبر آليات طقوسية ترسخ التصورات اللاهوتية في نهاية التأريخ والأفكار. وكل ذلك خلافاً للواقع الذي مازال يفاجئنا بالمزيد من التشظي، وفق الطبيعة البشرية الأبدية في الاختلاف والتفكير والتأسيس. أمور بات علينا تقبلها ودراستها في سياق القضية التي تعد من ضمن إنتاجاتنا التاريخية، وليس العكس.

ومن هذا المنظور، نسلط الضوء حول الانطباعات التي اتخذها مفهوم الشهيد ودلالته في سياق القضية الأحوازية، باعتبار الشهيد شاهداً على الحدث، ولحظة تاريخية تجمدت في إطار الموت/ الخلود، ومن المواضيع التي لم يتم دراستها مسبقاً، إلا عبر بيانات وخطابات طقوسية تحيي ذكرى الشهيد، وتعظم من شأنه، مجردة إياه من البعد التأريخي، والمنظومه الفكرية والإيديولوجية. وبعبارة أدق قد يتم (تصنيع/إعادة إنتاج الشهداء) وفق توقعاتنا من القضية والحياة، عبر تحويلهم إلى نماذج مفارقة لمثال القضية وما تترتب عليها من أمور مثالية أخرى.

 

الآخر/القاتل 

أحوازياً، تميزت علاقة التغاير، “الأنا” و”الآخر”، بضبابية لم يكن من السهل الكشف عن خطوط التماس والافتراق ضمن حدودها، معرفياً، وسياسياً، وسيكولوجياً. مما أثر مباشرة، وفي سياق القضية الوطنية، على مفهوم (الشهادة)، وتحديد مفهومها الوجودي.

منذ أن فرضت الدولة الإيرانية الحديثة، مؤسساتها الحكومية والمدنية على الشعب العربي الأحوازي، وذلك بعد أن كان يتميز هذا الشعب بخصوصية سياسية وثقافية طبيعية، مثل كل الشعوب التي لم تتعرض للاستعمار المباشر من قبل. تميزت علاقة الشعب/الدولة، بعلاقة غيرية/ صراع، حيث سعت هذه الدولة بمؤسساتها إلى إلغاء الوجود العربي، تاريخياً وثقافياً، أدت بالنهاية إلى المزيد من الصراع والمزيد من التشبث بالثقافة والهوية، لدى الإنسان العربي.

ووفقاً لقراءة الأحداث التاريخية التي تميزت بالصدام المباشر مع الدولة -قلما تم نعت الذين قتلوا في صراعات شخصية مع الفرس بالشهداء- نلحظ أن أبطال هذه المواجهات وإن كانوا ينعتون شعبياً بمصطلحات شعبية تدل على خروجهم عن القانون/المألوف، وغيرها من المصطلحات الدالة على تمردهم على الآخر/الدولة، تمتعوا بهالة من القدسية والبطولة، باعتبارهم أفرادا/أبطالاً عبّروا عن المسكوت عنه، الشعبي والتاريخي. ممهدين بذلك الطريق أمام إعادة إنتاجهم كـ(شهداء) ضحوا من أجل قضية وطنية، أوجبت عليهم التمرد والقتال في فترات متأخرة من الوعي الوطني والقومي المعاصر.

لحظة الإلتحام بالأفق العربي

_ثلاث نخلات وكلمة واحدة

يحتمي أحد الظلال بظل رفيقيه عن الحديد

يمتنع عن ارتداء الضوء

 باصقاً الرياح المتخثرة من فوهة المشنقة

تدلى الحبل

ضحك الظل

هزت الرياح مهد نعشين

وعلم

_ثلاث جزمات ونخلة واحدة

يمثل شهداء جبهة تحرير عربستان، محي الدين آل ناصر ورفيقاه: دهراب الناصري، وعيسى المذخور، اللذين تم إعدامهم رمياً بالرصاص من قبل الدولة الإيرانية عام 1964، نقطة تحول في الوعي الوطني الأحوازي، باعتبارها لحظة تاريخية عبرت عن عودة الأحواز إلى حاضنة الأمة العربية وذلك عبر تأسيس جبهة تسعى للتحرير وفق أيديولوجية قومية وحدوية متمثلة بشخصية الرمز جمال عبد الناصر، والتي كانت تثير بدورها الاهتمام نحو قضايا عربية مهملة سياسياً، كأجزاء غير منفصلة عن الوحدة العربية المنشودة من الخليج العربي حتى المحيط الأطلسي. وهذا ما لفت انتباه المؤرخين العرب الذين تناولوا تاريخ الأحواز الثقافي، والسياسي، في التركيز على هذه الحقبة بالذات، واعتبارها مرحلة حساسة في صياغة الوعي الوطني الأحوازي، معتبرين شهداء هذه المرحلة، شهداء وطنيين بامتياز، يمثلون أعلى مراتب التضحية والإخلاص.

أبطال فوق الصليب  

في العقود الأخيرة وخاصة بعد انتفاضة 15 نيسان/إبريل 2005، وما تلاها من أحداث وانتهاكات تعسفية قامت بها السلطات الإيرانية في سبيل القضاء على الغضب الذي اعترى كافة شرائح المجتمع، جراء تفشي سياساتها العنصرية الرامية إلى القضاء على الوجود العربي، ارتفعت وتيرة الإعدامات والاعتقالات، بحق الناشطين والفاعلين الثقافيين والسياسيين، لتمتلئ قائمة الشهداء من جديد، بينهم المعلم، والشاعر، والكاتب، والمناضل الذي تبنى العمل العسكري منهجاً نحو تحقيق الأهداف الوطنية. مما سهل الطريق أمام السلطات لإدانتهم، وتشويه صورتهم أمام الملأ. لكن في المقابل تم إعادة صياغة صورتهم كأفراد وقعوا ضحية سياسات الاحتلال ومخابراته، في تلفيق التهم والأحداث، وبالتالي كأبطال مازالوا يحيون فوق صليب المظلومية والاضطهاد.

 

شهداء خارج المعركة

مع صعود الحراك المدني في الداخل الأحوازي، خلال السنوات الأخيرة، الحراك المتمثل بالحلقات الشعرية والثقافية، ومجالات أخرى أهمها النشاطات المختصة بالبيئة -حيث أصبح النشاط الأخير في مراتب عالية من الأهمية، تزامنا مع ارتفاع نسبة الأخطار البيئية الناجمة عن التصرفات الحكومية، غير المدروسة تارة، والمتعمدة تارة أخرى، والتي تم تأويلها من قبل الناشطين كخطوات صريحة نحو التغيير الديمغرافي المنشود والذي تسعى نحوه السلطات عبر تطبيق برنامج السدود على الموارد المائية الرئيسية في الإقليم، ونقل ما تبقى منها نحو المدن الوسطى في نَجْد إيران. مما تسبب بأخطار بيئية جسيمة، منها التصحر والجفاف وشح المياه العذبة، وأخيراً العواصف الترابية والرملية التي باتت تهدد سلامة الإنسان العربي، جراء ارتفاع نسبة الاصابات بالامراض الرئوية القاتلة والسرطانات- دفعت نحو حالة من الترقب العام تجاه ضحايا هذه الكوارث البيئية والاقتصادية، وتحويلهم إلى دلالات صريحة في التعبير عن مدى وحشية سياسات الدولة/الآخر، وكذلك عن عمق الفاجعة التي يتعرض لها الشعب الأحوازي، في ظل عدم وجود مؤسسات حكومية وغير حكومية تتبنى التصدي لهذه السياسات.

ما نود التوصل إليه عبر التمعن في محطات قضيتنا التاريخية، أن الشهيد ومفهومه الإشكالي، وقع تحت تأثير الظروف المرحلية الموضوعية، كان الشهيد فيها دلالة مضيئة في إعادة قراءة القضية الأحوازية، قراءة تركز على الأبعاد المسكوت عنها ضمن منظومة الخطاب السياسي التقليدي. والتي توظف الشهيد ومفهومه كأداة للتطهير، حيث يصبح الشهيد مجرد عملة حمراء في سوق السياسة الأسود. فمن المناضل المسلح والمؤدلج إلى الناشط الثقافي حتى البائع المتجول في شوارع المحمرة كلهم شهداء حملوا في طيات أسمائهم عناوين هذه الأرض ومأساتها، معبرين بذلك عن ملامح قضية حية مازالت تتخذ أبعادها الإنسانية والثقافية والسياسية، وفق اللحظة الموضوعية، بعفوية الباحث عن الحرية والآفاق الرحبة.

 

يوسف الصرخي

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق