السعودية تستعيد الدولة الوطنية من إيران على أنقاض المطحنة الطائفية

تحولت المعركة ما بين السعودية وإيران ووكلائها، الذين انتقلوا بعد عاصفة الحزم التي تقوم بها دول التحالف بقيادة السعودية من مرحلة الزهو إلى معركة الوجود، بحجة الدفاع عن الأقليات وعن مظلوميتهم بعدما انهار غطاء محور الممانعة والمقاومة، باعتراف حسن نصر الله عندما قال سنحارب في كل الأمكنة، وبدأ حزب الله في مواجهة خيارات المرحلة المقبلة، التي لم تكن واضحة، وغير محددة بعد عاصفة الحزم، التي غيرت كثيراً من المعطيات ومن حسابات إيران ووكلائها في المنطقة، بل وحتى حسابات أمريكا.

وكلاء إيران في العراق ولبنان واليمن يأخذون دولهم والعرب هم في الأساس رهائن لمشاريع خارج أوطانهم، يتعاملون مع دولهم كساحة، وليس كقوى مستقلة تأخذ قرارها بمعزل عن الدولة الأم إيران، التي استبدلت الشيوعية المنهارة والتي تلاشت إلى الأبد، بالمشروع القومي الفارسي التاريخي بثوب مذهبي شيعي.

بالطبع استفادت إيران من عاملين رئيسيين حدثا في المنطقة، هما غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، وتنسم حرية التعبير بعد ثورات الربيع العربي عام 2011، فبعد أن غزت الولايات المتحدة العراق حولت العراق إلى واقع أمني جديد، فبعد أن كانت اليد الطولى للسنة زمن صدام حسين، تسلم الشيعة الحكم، وأصبح السنة مهمشين وبالذات في عهد المالكي، وانقسمت المناطق العراقية إلى غالبية سنية وغالبية شيعية، بعدما أصبح التعايش مهدداً بين الطائفتين، بسبب العنف الدامي نتيجة تجييش طائفي لم يكن متواجداً زمن صدام حسين، بل كانت الأسر من الطائفتين مندمجتين، بينما أصبحت اليوم مهددة بالتشتت والاستهداف، نتيجة الفرز الطائفي السائد الذي يعانيه العراق، ساهم في تسهيل سيطرة داعش على مناطق واسعة من العراق، خصوصا في مناطق ذات الغالبية السنية العربية.

تحمِّل الطائفةُ الشيعيةُ السنةَ مسؤولية الإرهاب، في المقابل هناك قتل على الهوية من قبل المليشيات الشيعية التي أنشأتها إيران في العراق حتى تصبح على غرار الحرس الثوري الإيراني الذي هو نقيض الدولة، فقط من أجل حماية الطائفة الشيعية، بينما في إيران لحماية الثورة الخمينية من الاندثار التي يقودها الملالي المحافظون.

وهذا القتل الذي تقوم بعه المليشيات الشيعية ضد السنة العرب من دون أن يخضع لأي رقابة أو قانون، تغذيه قنوات طائفية تابعة للطائفتين تجاهر بمواقف شديدة الاستفزاز، لم تكن موجودة من قبل، تبث خطاب كراهية تحت مسميات كثيرة، منها جمعيات خيرية، حتى تحول إلى قنابل مدمرة، يستثير حماسة الشباب من قبل الطائفتين.

يحرك مجسات هذا الخطاب الديني، أصابع طائفية زادت من جرح العراق النازف، وهي تريد أن يمتد المشروع القومي الفارسي إلى بقية المناطق في سوريا ولبنان واليمن، بعد أن فشلت في مده إلى مصر والبحرين وشرق السعودية، رغم أنها لم تتوقف عن الاستهداف عن طريق خلاياها النائمة.

يرى البعض أن ما يدور في المنطقة، مقبل على خطة تقسيم جديدة، كتقسيم سايكس بيكو التي رسمت حدود الدول بعد الحرب العالمية الأولى قبل مائة عام، وأن هذه الحدود لم تكن حدودا لها خلفية تاريخية، ولكن، ما يحدث لم يكن تقسيما جديدا، بل تحويل المنطقة إلى كانتونات معزولة، تحمي نفسها من التهديد السائد في المنطقة نتيجة الانتقام المتبادل.

أضحت المليشيات التي أنشأتها إيران في العراق وفي بقية المناطق الأخرى، تلعب دورا بارزا وفاعلا في السياسات الأمنية الداخلية والدولية، بعيدا عن الدولة المركزية، حتى اغتصبت الجماعات المسلحة من غير الدولة وظائف استقرار الدولة.

ما يحدث يدور في سياق التحولات الأمنية، وتلك المليشيات المدعومة من إيران تضم مجرمين ومرتزقة ومتمردين وإرهابيين وأمراء حرب، كما في العراق ولبنان وسوريا واليمن، تحولوا إلى فاعلين برعاية إيرانية تحت ذرائع أنهم قوى مناهضة للدولة، من أجل السعي نحو تحقيق الأمن والاستقرار، ليس فقط المحلي بل وأيضا الدولي، من خلال مهمتها الجديدة في ادعاء قدرتها على محاربة الإرهاب نيابة عن الدولة العاجزة.

حتى أضحت هناك مفاهيم جديدة ظهرت، تبرز علاقة المليشيات الفاعلة من غير الدولة، خصوصا بعدما تمكنت الولايات المتحدة وإيران بالسماح بانهيار وتفكيك الدولة الوطنية، التي أصبحت عاجزة عن توفير الأمن والاستقرار، كما في العراق وسوريا واليمن، كون أن تلك المليشيات أصبحت تعتبر نفسها جزءا من الحكومة الرشيدة، مثلما تحاول إيران أن تثبت للمجتمع الدولي، بأن الحشد الشعبي بصيغته المذهبية، قادر على هزيمة داعش في العراق، بعدما فشل الجيش العراقي في استعادة الرمادي.

 ما يفرض واقع علاقة جديدة بين التحولات الأمنية والتنازع في القيم المجتمعية، مما تسبب في احتجاج سلطة عرف العشائر السنية والقبلية في محافظة الأنبار، الذين يرون أن ولاءهم للحكومة المركزية محدود، وأنها لا تعكس مطالبهم وهي التي ثارت على المالكي.

 نتيجة ضغط دول سنية كبيرة في المنطقة مثل السعودية وتركيا على أمريكا التي بدورها ضغطت على العبادي، الذي قام بدوره بإعادة هيكلة الحشد الشعبي، بإضافة سبعة آلاف من عشائر الأنبار إلى الحشد، أطلق على المقاتلين الجدد تسمية كتيبة النهروان، نسبة إلى المعركة الشهيرة التي جرت في القرن السابع الميلادي قرب بغداد، التي ينظر إليها كونها ذات رمزية توحيدية، وغير من مسمى استعادة الرمادي لبيك يا حسين إلى لبيك يا عراق.

لم يتمكن العراق ولا لبنان ولا سوريا ولا اليمن من وقف التدخل الخارجي، بينما مصر الوحيدة بعد تونس تغلبت على المؤامرة، وتجاوزت المشكلة، حين رفضت الخارج بكل مبادراته، وارتضت الحل الوطني، بتدخل الجيش وبدعم خليجي سعودي إماراتي.

تدرك السعودية أن أوباما يخلط بين السبب والنتيجة، ما يجعله يرفض أن الانقسام الطائفي الذي ترعاه إيران في المنطقة سبب في بروز ظاهرة الإرهاب، بينما ترى السعودية أن الإرهاب هو نتيجة للتوظيف الطائفي سياسيا من قبل إيران وميليشياتها، وحتى تحرك أوباما ضد داعش لم يأت إلا باسم مظلومية الأقليات، عندما حاصرت داعش الأقليات الأيزيدية في العراق، والكردية في مدينة عين العرب في سوريا.

 حيث يعاني أوباما عقدة بكافة المقاييس النفسية والسياسية في سوريا، مأساة تغاضى عنها من دون سبب مقنع، سيحاسبه التاريخ لمجرد أنه يحاول تقديم إيران كقوة صاعدة، وكشريك استراتيجي لا غنى عنها لحفظ التوازن الإقليمي.

أي أن أمريكا تراهن على إيران وحلفائها، وهو رهان على الطائفية، لذلك ترفض السعودية الجلوس والحوار مع تلك الجماعات، خصوصا المليشيات الحوثية، وترفض التفاهم معها كما يريد أوباما، وتعتبرها السعودية جماعات إرهابية.

وبدأت دول الخليج بقيادة السعودية بمشروع الرياض، بتشكيل جيش يمني بقيادات غير متورطة بالفساد، وإعادة صعدة إلى ما قبل 2004، لإنقاذ الدولة الوطنية اليمنية الاتحادية، وتحريرها من المليشيات الحوثية التابعة لإيران، والتي هي أهم أهداف عاصفة الحزم الحقيقية، التي بدأت باليمن، وستواصل مسيرتها في سوريا.

تدرك دول الخليج بقيادة السعودية أن اليمن بوابة دول الخليج، والخزان البشري، وأن موجات التطرف، ورفض الآخر، هي نتيجة أيديولوجيات مستحدثة في اليمن وفي المنطقة برعاية إيرانية، تهدد التعددية الحضارية والثقافية، وليست كل الصراعات في اليمن أساسها سياسي، فهناك صراعات نتجت عن عدم التكافؤ في الفرص، وانعدام التنمية، والحوكمة السيئة في زمن علي عبد الله صالح نتيجة استئثاره هو ومجموعة متنفذة بكافة الموارد والثروات داخل اليمن، مما تسبب في تهميش بقية المناطق والشعب بكافة فصائله حتى أصبح يعاني الفقر.

 تحمي السعودية الحوار الوطني الذي توصل إليه اليمنيون على طاولة الحوار قبل أن ينقلب عليه الحوثيون بدعم من علي عبد الله صالح وبرعاية إيرانية، من أجل تطبيق مخرجات الحوار التي توصلت إلى اتحاد فيدرالي، هي بمثابة علاقة مبتكرة، بدلا من الغرق في جدل المصطلح الاختزالي حول سياسة الهوية، خصوصا من قبل الجنوبيين الذي يهدد الحلول الفيدرالية التي توصل إليها اليمنيون وفق المبادرة الخليجية، كما أن العدل والإنصاف والحرية ينبغي أن تكون أمورا متلازمة، ولا ينبغي للشماليين إنكار حق الجنوبيين في التوق إلى الحرية ضمن حق المساواة بين جميع المناطق في اليمن.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق