الذكرى 12 لإحتلال العراق المُتغيرات والمُعطيات

لم يختلف الوضع العام في العراق عما كان عليه بُعيد الغزو الإحتلالي الأمريكي الذي دخل بغداد في التاسع من نيسان 2003، إلا المزيد المتصاعد من القتل والتشريد والإعتقالات والإغتيالات على أُسس طائفية بغيضة، والتدهور المتفاقم في مختلف المناحي الحياتية والإجتماعية والخدمية والعلمية والثقافية الخ، والدمار الممنهج للإقتصاد والمال والأعمال جراء تبدبد ثروات البلد وسرقات قوت الشعب من قِبَل إمعات الإحتلال. ورغم أن هذا الواقع الحقيقي الذي يعيشه أغلب أبناء الشعب العراقي طيلة هذه الفترة، لكن جرت فيه أيضاً أحداث ووقائع فرضتها القوى الوطنية المسلحة من فصائل المقاومة الباسلة والجبهات الجهادية المقاتلة وصولاً إلى فجر ثوار العشائر الأبطال. علاوة على تعاظم الدور الإيراني الذي إنتقل من ظل المُحتل ليكون الإحتلال نفسه المسيطر على مقاليد الدولة بحذافيرها. ناهيك بالتطرق إلى الأدوار المشبوهة التي تمثلت بتنظيم القاعدة سابقاً، ودولة الإسلام في العراق والشام حالياً.

وعندما يشير نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، في مؤتمر صحفي عقده بكلية الدفاع الوطني في واشنطن يوم الخميس المصادف 9-4-2015 بمناسبة الذكرى 12 لغزو العراق، قائلاً: “إننا ملتزمون بالوقوف مع العراقيين، لأن مليون أميركي قضوا وقتاً في العراق بما فيهم أبني”. إلا أن بايدن لم يتناول عدد القتلى والجرحى والمعاقين والمرضى النفسيين جراء إحتلالهم العسكري للعراق، ولا الخسائر المادية والإقتصادية والسياسية التي منيت بها بلاده داخلياً وخارجياً بسبب ذلك الإحتلال الذي نسج خيوطه السرية زمرة المُحافظين الجُدد الذين خسروا وسقطوا بوحل مخططاتهم. وبدلاً من أن يكون بايدن شجاعاً وصادقاً في طرحه ويعترف بدور المقاومة العراقية من ناحية، والأسباب التي أدت إلى تفجير ثورة العشائر العربية من ناحية أخرى؛ نراهُ يُحَرِف البوصلة عنوة نحو حديث قد فرغت قيمته من على أرض الواقع تماماً، حيث حث السياسيين العراقيين على مواصلة التوافق في مواجهة الإنقسامات الطائفية المعقدة والإقتتال المرير. وقال: أن “الأمر صعب، لكن بوسعهم التغلب عليه”.  ولا ندري كيف يعترف بايدن بهذه الصعوبة ويتناسى أن سياسة بلاده الخارجية هي التي قد خلقتها أصلا. بل ومن السذاجة أن يطلب بايدن من أذناب الإحتلال “التغلب” على هذا الأمر وهم أصغر من هذا التحدي من جهة، ومن جهة أخرى جميعهم ملتزمون بهذا النهج الطائفي والعرقي منذ لقائهم بواشنطن مع وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر في 1992.

وإذا نص بايدن على أن: زخم داعش في العراق توقف، وفي كثير من الأماكن انحسر، لكن تنتظرنا معركة طويلة. وإن “اليوم تُرفع راية العراق بتكريت وليست راية الدولة الإسلامية”. فإنه يتكلم بلغة المماحكة والمواربة التي تحجب عمداً عن إظهار الحقيقة الميدانية التي جرت في تكريت. فما جرى في آمرلي وجرف الصخر والمقدادية وجلولاء وبروانة وغيرها من المُدن في محافظات بابل وديالى وصلاح الدين من قتل وإختطاف وتشريد وسرقات للبيوتات ثم حرقها، وتفجير للمساجد وتجريف للمزارع والبساتين على يد الميليشيات والحشد الطائفي، فقد جرى في تكريت الأمر نفسه وبطريقةٍ أشدُّ بشاعةً، لأن تكريت فيها الرمزية من القائد صلاح الدين الأيوبي إلى القائد صدام حسين، فالأول أذاق الإفرنجة مرارة الهزيمة في “معركة حطين” 1187؛ والثاني جرّع الخميني السّم الزعاف وهو يعترف بهزيمة بلاده ضد العراق بمعارك القادسية الثانية ما بين (1980-1988).

أما كلام بايدن عن “داعش” وإن “المعركة طويلة”، فهو ليس أكثر من إجترار سقيم إلى رئيسه باراك أوباما. كما وأن علامات الإستفهام كثيرة وكبيرة عن تمتد داعش من شرق سوريا إلى غرب العراق بالسرعة الفائقة، ليتلاشى أمامها أربعة فِرق عسكرية مع منظومة أمنية وشرطية وميليشية تُعدّ بعشرات الآلآف، إنما تنم عن قوة دولية تقف خلف هذا التنظيم الداعشي. وإلا على بايدن وغيره من أقطاب الإدارة الأمريكية أن يوضحوا ويكشفوا عن إمكانية إنتقال داعش من قوة محلية محدودة في شمال شرق سوريا إلى قوة أقليمية واسعة إجتاحت نصف مساحتي العراق وسوريا تقريباً؛ ولتشكل تهديداً، حسب قولهم، إلى الأمن القومي الأمريكي والدولي والعالمي. والأنكى من ذلك، أن تحشد أميركا أكثر من 60 دولة لمحاربة هذا التنظيم الذي حدد أوباما زمنية قتاله إلى 36 شهراً على ثلاثة مراحل، ثم سرعان ما تحول العنصر الزمني إلى وقت مفتوح لا أحد يتكهن نهايته!

إن النظرة الإجمالية للسنوات الماضية تدل على أن المستقبل يتجه أكثر فأكثر لصالح القوى الوطنية العراقية بشقيها المُسلح والمدني. فما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية من غزو وإحتلال عسكري مباشر للعراق، فإنه لم يستمر لأكثر من ثمان سنوات ما بين (2003-2008)، حيث ألحقت المقاومة العراقية المظفرة هزيمة ميدانية جلية بالجيش الأمريكي، وأجبرت إدارة جورج بوش (2001-2009) على وضع جدول زمني لإنسحاب تلك القوات الغازية قبل نهاية 31-12-2011. ولكن ما لم تفلح فيه أعتى قوة في العالم، فإنه من الطبيعي والمنطقي أن لا تنجح فيه قوة أقليمية متمثلة بالنظام الطائفي العنصري الإيراني.

وبذا فإن سياسة البطش والتنكيل الطائفي التي مارسها نوري المالكي على مدى دورتين من رئاسته لمجلس الوزراء (2006-2014)، قد أجبرت العشائر العربية الأبية بالثورة المسلحة، حيث عيل صبرها ونفذ حلمها وهي ترى أبنائها يتظاهرون ويعتصمون بطريقة سلمية وحضارية ضد سياسة الجور والظلم والحيف التي يتبعها المالكي، ثم يواجههم بقواته الطائفية بمجازر دموية بشعة في الحويجة بمحافظة كركوك، وجامع سارية بمحافظة ديالى، وغيرها من المجازر في محافظات نينوى والأنبار وبغداد، إذ لم تبقي لأولئك العشائر إلا رفع السلاح دفاعاً عن نفسها وكرامتها ومناطقها ضد حكومة الظل الإيرانية في بغداد.

إن الذكرى 12 للغزو الأمريكي للعراق بالقدر الذي كشفت فيه عن الكثير من الحقائق، وعلى رأسها خفايا التقارب الأمريكي الإيراني في العراق وإنعكاساته على الساحة العربية، فإنه قد كشف للأمة العربية أيضاً مدى الخطورة السياسية والتحديات التاريخية التي يجب التصدي لها والإنتصار عليها، لكي تستعيد الأمة ثقلها ودورها إقليمياً ودولياً. وهكذا جاءت “عاصفة الحزم” لقوى التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية لمجابهة الذراع الصفوي الإيراني المتمثل بالحوثيين في اليمن، فإن تداعيات هذه العملية العسكرية ترتبط إرتباطاً عضوياً بالمشروع الإيراني في العراق وسوريا ولبنان. كما وأن الجانب السياسي لعملية “عاصفة الحزم” يجب أن تقترن بالدرجة الأساس في القوى الوطنية العراقية التي جابهت الإحتلال الأمريكي، وما زالت تجابه كل ما تمخض عن المحتل، وفي مقدمتها الأذرع الإيرانية المتمددة كالسرطان داخل الجسد العراقي. إن تحالف القوى العربية مطلوب منها اليوم قبل الغد أن تمد يد العون والمساعدة للقوى الوطنية العراقية الرافضة للمشروع الصفوي الإيراني، حيث أن عودة العراق كونه “البوابة الشرقية” للأمة العربية ضد المد الصفوي الفارسي، يعني تجفيف إن لم يكن قطع الأذرع الإيرانية في سوريا ولبنان بشكل أسرع وأمتن.

أن فصائل المقاومة العراقية المتظافرة مع المجالس العسكرية العشائرية الثائرة، ومنها “المجلس العسكري العام لثوار العراق” الذي يمثل 45 مجلساً عسكرياً عشائرياً موزعاً في أثنتي عشرة محافظة من البصرة جنوباً حتى نينوى شمالاً، قادرة كل الإقتدار على منازلة الحشد الطائفي وقوات الحرس الثوري الإيراني، وما جرى في تكريت على مدى 23 يوماً من الهجومات التي كلفت الميليشيات الطائفية أكثر من 6400 قتيلاً بحسب ما ذكرت بعض وسائل الإعلام الأمريكية، ومنها “أميركان كرستين مونتير”. ولولا القصف الجوي الأمريكي المكثف، لا سيما في الجانب الجنوبي المطل على “وادي شيشن” كون تضاريسها منبسطة، لبقيت تلك الحشودات الطائفية متوقفة عن مواصلة هجوماتها الفادحة الخسارة.

ومن هنا فإن المتغيرات التي يصنعها ثوار العراق، وما يقدمونه من المعطيات المتوالية هي اليوم بحاجة ماسة إلى الإعتراف السياسي بثورتهم المسلحة ضد الوجود الإيراني على أرض الرافدين، وضد حكومة بغداد الموالية والتابعة إلى الطغمة الصفوية الحاكمة في إيران، وكذلك ضد إرهاب “داعش” الذي لا يقل دمويةً عن إرهاب الميليشيات الطائفية. وعليه فإن الدعم الذي توجهه “عاصفة الحزم” إلى المقاومة الشعبية في اليمن ضد أذناب إيران، فعلى الدول العربية الضاربة للتمدد الصفوي الإيراني في البلدان العربية، أن تقدم دعماً للقوى الوطنية العراقية التي تجابه أذناب إيران أيضاً، وإن الإعتراف السياسي يأتي على رأس هذا الدعم، لتكون الذكرى 12 للإحتلال الأمريكي للعراق آخر سنوات الذكريات، حيث عام التحرير بعونه الله تعالى أولاً، وبعون الأشقاء العرب ثانياً.

د. عماد الدين الجبوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق