الدور الوظيفي للدولة والمجتمع في سورية (1): لمحة تاريخية

مقدمة:

شكلت الثورة السورية، فعلاً سياسياً مجتمعياً، يسعى لاستعادة أدواره في تشكيل السلطة وبناء الدولة، بعد عقود من الاستلاب والاستبداد، أُلغيت فيها وظائف المجتمع كافة، لصالح استملاك الدولة من قبل العائلة الأسدية ومن والاها.عبر تفكيك الدولة وإعادة بنائها وفق المصلحة الأسدية، بآليات قمعية استمرت منذ عام 1970، كامتداد لما تمّ منذ عام 1963.

ونسعى من خلال لهذه الدراسة –في الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة السورية- إلى تناول وظائف السلطة والمجتمع معاً، من خلال دراسة بِنيَة السلطة والمجتمع، ودراسة وظائفهما، في مرحلة الدولة الأسدية، والرؤى المطروحة في المرحلة الثورية، والتغيرات التي نجمت عن الفعل الثوري.

ولا يمكن الفصل فصلاً تاماً بين الدولتين الأسديتين الأولى والثانية، باعتبارهما امتداداً عضوياً لنظام سياسي استبدادي واحد، إنّما الفصل بينهما في هذه الدراسة أتى لتبيان ما طرأ على الدولة الثانية منهما من تغييرات في بِنى الدولة ووظائفها، دون تغير عقائدها الأساسية.

فهي ليست مجرد دراسة تاريخية لمرحلة من تاريخ سورية، بقدر ما هي تحليل لمقدمات وأسباب اندلاع الفعل الثوري عام 2011، مبنياً على فعل مستمر يؤكد حيوية الشعب السوري، وإن اضطر في مراحل إلى تجميد هذا الفعل نتيجة ضخامة القبضة السلطوية القمعية، وخاصة العسكرية.

 

القسم الأول

أدوار السلطة

أولاً- لمحة تاريخية:

لم تكن الدولة لحظة نشوئها، قادرة على القيام بوظائفها المناطة بها كما يجب، لذا كانت الدولة -أو بالأصح السلطة- أضعف من المجتمع المتحرر حديثاً والمتحصّل على هوية خاصة به. ويمكن إيعاز الضعف الوظيفي للسلطة إلى عدة أبعاد منها:

–      عدم ترسُّخها بَعدُ كجهاز تنظيمي سياسي وإداري.

–      عدم خضوع فئات مجتمعية (أقلوية) للدولة، بل رفضها لشكل الدولة بحد ذاته، محاوِلةً إحياء خرائط فرنسية أكثر تقسيمية للتركة العثمانية.

–      حالة الاستشكاف المجتمعي للأدوات السياسية، وللهُويّة.

–      الاضطرابات الإقليمية، والدفع الإقليمي- الدولي لإزالة الكيان السوري، وتذويبه في كيانات إقليمية كبرى. عدا عن ضغط الاقتطاعات الجغرافية من الدولة لصالح الجوار.

لعلّ ذلك من أهمّ مبررات عدم استقرار السلطة التنفيذية، التي شهدت انقلابات عدة، ضمن أدوار محدودة، في جمهورية هي بالأصل برلمانية. لتبقى الوظائف الأساسية بيد النخب المجتمعية التقليدية والحداثية على السواء.

لا يعني ذلك بالمطلق، أنّ المجتمع والدولة، كانا خاليين من أزمات هُويّة تهدد وجودهما، بل بالأصح إنّ المرحلة تلك كانت مرحلة بلورة هُويّة جمعية، في تصادم مع الهُويّات الفرعية من ناحية، وبين الهُويّة التقليدية وتحديثها من ناحية أخرى. ورغم كل أشكال الصراعات تلك، إلا أنّ الفعل السياسي الديمقراطي الناشئ، كان مفتوحاً على المجتمع أفقياً بطبقاته التقليدية والحداثية، وعمودياً بتقسيماته العرقية والدينية والمذهبية. حيث أنتج المجتمع قيادات سياسية وحزبية في مروحة طبقية وهُويّاتية فرعية واضحة التنوع، كان لها دور كبير في إدارة الدولة.

استمرّت فترة التأصيل الدولتي حتى قيام الوحدة مع مصر، ومع نظام عبد الناصر قُضِي على الدور الاقتصادي للمجتمع أولاً، عبر مفهوم اشتراكي تأميمي على النمط المصري، حيث قُضِي على النخبة الصناعية الناشئة ودورها السياسي، دافعاً إياها إلى خارج الحدود. عدا عن أنّ سياسة الإصلاح الزراعي مهّدت السبيل لانهيار الإنتاج الزراعي واسع المدى.

كانت التجربة الوحدوية مريرة بالنسبة للمجتمع السوري، فمع الإصلاحات الأولى كالإصلاح الزراعي عام 1958 وتأميم الصناعات عام 1961 اضطر المُلّاك ورجال الأعمال إلى اللجوء إلى لبنان حيث اكتشفوا الوصاية البوليسية التي كانت استخبارات عبد الناصر تفرضها على بلادهم.

وعبر حلّ الأحزاب وتسلط النخب العسكرية المصرية على الحياة السياسية السورية، تمّ إقالة المجتمع السوري من وظيفته السياسية في إنتاج السلطة ومراقبتها. وأنتج الحكم الناصري الحالة الأمنية الضابطة للمجتمع والدولة، بغية إحكام السيطرة على المجتمع المدني والسياسي الناشط. بمعنى آخر، كانت كلّ الوظائف محصورة في السلطة المركزية المصرية، أو عبر امتداداتها في سورية، مع اختفاء كليّ لوظائف المجتمع السوري. ولعلّ ذلك ما كان سبباً في مرور مشروع الانفصال رغم التعاطف الشعبوي الواسع مع الحالة الوحدوية.

ورغم أنّ المجتمع حاول استعادة الحياة البرلمانية والاقتصادية والسياسية في سنوات الانفصال، إلا أنّ الحالة السلطوية كانت قد تمأسست فاتحة المجال لسلطوية البعث التي ستستمر لعقود قادمة.

حيث لم تكن ثورة 1963 سوى ثورة على كبار الملاك وبرجوازية التجار، وثورة أرياف على المدن، وانتقام أقليات الأقاليم من النخب السياسية السُنيّة في المدن. ولم يكن في الدولة البعثية الأولى، للسوري حقوق لكونه سورياً، بل لأنه من أصدقاء الثورة من العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين المدنيين والعسكريين والبرجوازية الصغيرة، وبالمقابل كان هناك أعداء الثورة من الرجوازيين والمحافظين.

ومعها بدأ العنف منذ عام 1963 بالقضاء على الشركاء “الثوريين” أولاً، واعتماد النهج الناصري الأمني في إدارة الدولة، لتتحوّل وظيفة الدولة إلى جهاز قمعي يصادر وظائف المجتمع، تمهيداً لإلغائها. بعد إعادة تفعيل حركة التأميمات، بغية إعادة توزيع الثروة بما يصب في صالح الدولة (السلطة)، ويقوّض مراكز النفوذ السياسية والاجتماعية.

ما تمّ في هذه المرحلة، كان القضاء على مركز المدينة في سورية، كحاضن للفعل الاجتماعي المدني والسياسي، واستجلاب النمط الريفي إليها، عوضاً عن تطوير الريف بغية الارتقاء به للفعل المديني. وهو ما تمّ كذلك على مستوى الجيش ومؤسسات الدولة في معظمها.

لقد اصطدم بناء الدولة “العربية الاشتراكية” بالمجتمع السوري الذي كان يعرب عن غضبه بعنف عند تنفيذ أيّة إصلاحات جديدة. فكان أول ضحايا هذا الوضع المقاولون وكبار التجار وملاك الأراضي والمصارف الذين هربوا من البلاد ومعهم رؤوس أموالهم. وازداد الخطر الذي يحدق بالنظام مع انتفاضة الطبقات الوسطى وصغار التجار المنتمين إلى الأغلبية السنية. وقد أدت موجة التأميم في 1964 و 1965 و 1966 إلى اندلاع أعمال شغب في حماة وحلب كانت تعكس مخاوف اقتصادية واجتماعية وكان لها أيضاً طابع طائفي، إذ إنّ بعض السكان لم يتقبلوا علمانية الدولة، وكانوا يتخوفون من صعود العلويين وازديادهم نفوذاً، فأصبح بعض رجال الدين يستغلون الغضب الشعبي لينددوا بإلحاد الحكام الجدد. وفي عام 1967 عندما قرر البعثيون تأميم المدارس الخاصة التي كانت ملكاً لمؤسسات دينية بلغت الأوضاع نقطة اللاعودة، وفي غضون أربع سنوات فقدت السلطة دعم المحافظين الإسلاميين والطوائف المسيحية وبرجوازية المدن والنقابات وجزءاً كبيراً من العمال، وأصبح النظام قائماً بفضل أجهزة أمنية صارمة. ولم تستطع السلطة أداء أدوار خارجية حقيقية في هذه المرحلة نتيجة هشاشتها وضخامة العبء الخارجي.

ثانياً- سورية في عهد الأسد الأب (1970-2000):

أ‌-    بنية السلطة:

عمد حافظ الأسد قبيل انقلابه على رفاقه البعثيين عام 1970 من خلال “حركته التصحيحية”، إلى التغلغل في بنيات الجيش السوري، وعبر علاقات التحالف الطائفية استطاع تشكيل كيان طائفي داخل الجيش، من خلاله استبعد كثيراً من الضباط من خارج طائفته أولاً، ثمّ عمل على إعادة صياغة العلاقات داخل هذا الكيان وفق منطوق الولاء الطائفي/العشائري، قبل أن يتوجه به إلى السيطرة على قطاعات بعينها داخل الجيش تُسهِّل عملية الانقلاب تلك.

ويعتبر الجيش إحدى الأذرع الأساسية التي استند إليها الأسد الأب في بناء دولته، مستخدماً في تشكيله نفس المنهج الذي اعتمده في السيطرة على الجيش قبيل انقلابه. إذ تمّ تسليم إداراته العليا للضباط العلويين الذي أثبتوا ولاءهم للأسد خلال الصراع قبل عام 1970، داخل مؤسسات الجيش والحزب. دون أن يكون لهم منفردين أو مجتمعين القدرة على مواجهة الأسد أو الإطاحة به.

استمر الجيش طيلة العقود اللاحقة في أداء دور رئيس في بنية الدولة، وإن كان قد تحول دوره من مؤسسة إلى أفراد يختارهم الأسد، وتحويل عقيدته العسكرية نحو حماية نظام الفرد، عبر إيديولوجية قومية ظاهرية، وبنيان طائفي بيني.

واستطاع الأسد ضبط الحراك العسكري عبر توسيع سيطرته على الطائفة العلوية تدريجياً، حتى حلول أحداث ثمانينيات القرن الماضي، والتي عمل من خلالها على تعزيز فكرة استهداف الطائفة من قبل محيطها بعد انخراطها الواسع في المجازر الطائفية، وتوظيف ذلك لتحويل الطائفة إلى أحد أهم أذرع الأسد الأب في تسيير شؤون البلاد، مع تصفية كافة معارضيه داخل الطائفة ذاتها خشية من استنهاضهم للوعي الوطني. لتتحول لاحقاً إلى مرتكز بنيوي في تشكّل الدولة الأسدية.

أما اللبنة الثالثة في دولة الأسد الأب، فكان استجلاب البناء الأمني المرسخ خلال العقد الفائت لحكمه، والدفع به كأساس في إدارة الدولة. حيث استطاع الجهاز الأمني الاستيلاء على عديد من أدوار الجيش في مراحل لاحقة، وخاصة أن تركيبة الجهاز الأمني كانت أكثر طائفية وولائية من الجيش ذاته، في حين اضطر لتشكيل وحدات داخل الجيش لمراقبة سلوك كبار الضباط من ناحية، ولأداء المهام الرئيسة في صيانة النظام من ناحية أخرى. كما أنّ التعداد الكبير للجيش أعاق تحويله إلى حالة ولائية طائفية بالمطلق، لذا اعتمد الأسد على آليات الثواب/العقاب وآلية الاستيعاب/الإقصاء لضمان الولاءات داخل الجيش.

أما المؤسسة الرابعة في تشكيل دولة الأسد، فكانت حزب البعث، حيث ترافقت هيمنة الأسد الأب على الجيش قُبيل انقلابه مع هيمنته على الفاعل السياسي الأبرز حينها (الحزب). ليشكل محوراً رئيساً في حالة التعبئة الجماهيرية الشعبوية، ومكاناً لتبادل المصالح وتوزيعها في نظام محسوبية يراعي الولاءات، ويمكن اعتباره مجالاً لاستيعاب القوى السياسية، وإعادة تأهيليها على النمط السوفييتي. وخاصة مع ردفه بكيان سياسي آخر (الجبهة الوطنية التقدمية) كمستَوعَب لما تبقى من حراك سياسي.

وشكّلت العائلة رافعة خامسة لبنيان هذه الدولة، لكنها ظلّت رافعة أمنية واقتصادية وعسكرية، أكثر منها رافعة سياسية، حيث لم يسمح لها بتجاوز شخص الأسد الأب، حتى حين تضخمت طموحات شقيقه رفعت في الثمانينيات تم استبعاده إلى خارج سورية، وإعادة توزيع الأدوار فيما بينهما.

وقد عملت هذه المؤسسات الخمس على ضبط الحراك الإداري والسياسي والاقتصادي والأمني والعسكري في البلاد، يردفها من الخلف مجموعة مؤسسات عديدة تخدم الغرض الأساس من إنشائها، وهو توطيد الحكم الاستبدادي، وتأطير طاقات الدولة في هذا المنحى، وتخضع للتوازنات التي خلقها الأسد، في عملية انتقام من الدولة والمجتمع.

حيث إنّ ما قام به الأسد الأب هو إعادة تعريف مفهوم الدولة ووظائفها، عبر تفكيكها أولاً، بإخراج كافة المكوِّنات الحاملة للفعل السياسي منها بعدة طرق (التصفية، النفي، الاعتقال، الانتقام العائلي، المحاصرة المعاشية). وتهديم المرتكزات المؤسساتية التي كانت قد ترسخت في العقود السابقة. عدا عن مصادرة الفعل الاقتصادي بإلحاق حامله بالحامل السياسي. بذلك أقال الأسد المجتمع من كافة وظائفه التي أصّلها في خمسينيات القرن الماضي، لصالح تغوّل دولته بشكل شموليّ مطلق.

تلى عملية التفكيك تلك، عملية بناء جديد وعلى مرتكزات جديدة، تقوم على أساس الولاء العائلي للأسد في مرحلة الإعداد، لتتوسع قاعدة البناء لترتكز على الولاء الطائفي في مرحلة إتمام البنيان الجديد واستحكامه، قبل أن ينفتح أولاً على بعض الولاءات الطائفية الأخرى ومن ثم على فئات بعينها موالية “للحركة التصحيحية” موضوعة تحت رقابة الولاءات السابقة.

إذ حوّل الأسد السلطة العامة إلى ملكية خاصة له ومن ثم لولاءاته، وحول الفضاء الخاص بالمواطن والمجتمع إلى ملكية دولة عامة على النمط الاشتراكي، تحت الطلب الأمني “فالكل مدان تحت الطلب- طيب تيزيني”.

ولعل أبرز ما قام به الأسد الأب، هو مأسسة هذا التركيب عبر دستور فُصِّل ليمنحه في النهاية كافة الصلاحيات، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويجعل من الجيش أداة طيعة بنص دستوري، وحصر النشاط السياسي ككل في حزب البعث. إضافة لتحويل مفهوم فصل السلطات إلى التفريق بينها دون فصلها، بل تمّ الفصل بين الوظيفة السياسية التي تتولاها القيادة وبين الوظيفة الإدارية التي تتولاها الحكومة بإشراف القيادة. رادفاً ذلك بالحكم عبر قانون الطوارئ.

ب‌-                   وظائف السلطة وأدواتها:

بذلك التركيب الجديد، أصبحت وظائف الدولة هي وظائف السلطة الأسدية، تهدف إلى جملة محددة من الأهداف:

  • تثبيت الحكم الأسدي وآلياته.
  • الضبط الأمني للمجتمع كافة.
  • إعادة صياغات العلاقات الاجتماعية البينية، وأدواتها الفعالة.
  • إضافة إلى وظيفة خارجية أناطتها القوى الكبرى له، من الشرق والغرب معاً.

ففيما تراجع –بشكل نسبي- دور حزب البعث تدريجياً، نتيجة عدة عوامل، من أهمها تآكل دوره الوظيفي لدى السلطة، وتضخم عضويته غير المنتجة، وتلاشي التهديدات الداخلية بعد إحكام السيطرة على البلاد عام 1982. دون أن يسقط دور الحزب في هيكلية الدولة. إلاّ أنّ حزب البعث احتفظ بوظائف جمة استمرت طيلة حكم الأسد الأب، تمثل أهمها في:

  • استعياب المجتمع سياسياً وتنظيمياً.
  • استخدام الحزب كوسيلة للارتقاء في هيكل السلطة.
  • تحويل الحزب إلى شبكة مافيا عبر المحسوبية والزبائنية السياسية.
  • أدلجة المجتمع بما يخدم استمرارية السلطة.
  • تحويله لأداة رقابة أمنية على المجتمع.

لكن تبقى المؤسسات الأمنية والعسكرية والطائفية، هي الأكثر فاعلية في تسيير الشأن السياسي والأمني. على أنّ عملها جميعاً كان ينبع في الأساس من رأس السلطة (الأسد الأب)، فهي بمثابة أذرعه القيادية للدولة. وأنيط بجميع تلك المؤسسات وظيفة لاحقة، وهي إعادة هيكلة الحامل الاجتماعي في الدولة، بالقضاء على دوره وإعادة تعريف هذا الدور، مستخدماً آليتين رئيستين في ذلك:

  • آلية الطرد، سواء أكانت تهجيراً أم تصفية أم سواها.
  • آلية الجذب، عبر إعادة تشكيل الطبيعة الديمغرافية لسكان المناطق، بجذب مجموعات سكانية إلى مناطق أخرى، فتمّ توطين الولاءات الطائفية في دمشق بعد طرد كثير من سكانها تجاه الريف، وهو ما تكرر في حمص كذلك. أو بتوطين العشائر الموالية في المناطق الكردية.

لم يكتفِ الأسد بتكليف تلك الأجهزة فحسب في تولي وظائف السلطة/الدولة، إذ أردفها بإعادة هيكلة شاملة لكل ما احتوته الدولة من مؤسسات. فنقل نمط الهيكلية التي تمت في الجيش والأمن والحزب إلى النقابات والوزارات وإدارات الدولة. التي اتخذت شكلاً متطوراً من الإقطاع، وهو الإقطاع المؤسساتي، وفق درجة الولاء والانتماء للنظام.

حيث مُنِحت كثير من مؤسسات الدولة الإدارية لموالين، مع غضِّ الطرف عن انهيار عوائد تلك المؤسسات، وعن حجم الفساد في الإدارات العليا في الدولة، كمنحة من الأسد ونظامه مقابل ضمان استمرار ولاء تابعيه من جهة، وتكريس حالة لا أخلاقية في التعاطي بين الدولة والمجتمع من ناحية أخرى، إلا أنّ الفساد كآلية إدارة للدولة، ظلّ مضبوطاً أمنياً ومحصوراً بفئات بعينها. وسيتم تناول الآثار السلبية لبنية السلطة ووظائفها وأدواتها على المجتمع في قسم آخر من هذه الدراسة.

في المقابل، كانت أبرز آلية استطاع الأسد الأب حكم الدولة السورية بها، هي أداة التسلّط الأمني على كل مفاصل الحياة الاجتماعية، عبر أجهزة الواسعة.

كان التسلّط قائماً على مزيج بين القمع والمحسوبية، إذ قام حافظ الأسد ومجموعة من الجنرالات الذين خصخصوا الدولة المركزية بالسيطرة على المجتمع، ليس من خلال المؤسسات، بقدر ما فعلوا ذلك عن طريق شبكات المحسوبية التي كوَّنوها.

وحتى يتسنى للأسد صيانة هذا الكيان، استهدف تبني الاشتراكية كفكرٍ وفعلٍ لإتمام الحيازة على الطاقة الاقتصادية للبلاد وإعادة توزيعها على الأتباع القادمين من القرى، حتى يضمن ولاءهم، كما تمّ توزيع المهام الأمنية والبرلمانية والإدارية على هؤلاء الأتباع كمكافئات لولائهم. وكان بإمكان محاكم الأمن الاقتصادي إنهاء الحياة المهنية لأي رجل أعمال يحظى بشعبية كبيرة أو يظهر طموحاً زائداً عن الحد الذي تجيزه السلطة الأسدية.

لكن الثروة الأساس (النفط) كانت تصب مباشرة في صالح الأسد، والتي استغلها هو وابنه لاحقاً، في إعادة إنتاج نخبة برجوازية مشوهة، تستند إلى رجالات العائلة، تكون بديلاً عن النخبة التي تمّ استكمال القضاء عليها أو أدلجتها. ولم يشهد اقتصاده –على خلاف ابنه- تنويعاً في مصادر الدخل المخصصة للأتباع، فكان ما يمنحه لهم من عائدات النفط، أو من عائدات المنح العربية، ومن إطلاق أيديهم في عملية نهب منتظم للمجتمع اللبناني إبان احتلاله، إذ شكل تهريب السلع من لبنان إلى سورية في تلك الفترة ما نسبته 10%من الناتج المحلي الإجمالي السوري.

عدا عن السيطرة على الاقتصاد اللبناني لصالح القيادات العليا، فوفقاً للأرقام التي حصلت عليها وكالة الأنباء الفرنسية في عام 2005، فإن كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين السوريين، كانوا يتحصلون على 750 مليون دولار سنوياً من خلال السيطرة على الاقتصاد اللبناني.

كما موّل الأسد دولته، عبر ابتزاز المجتمع الدولي من خلال المتاجرة بقضية الجولان المحتل، إذ قبل توقيع اتفاقية سحب القوات عام 1974 بشهر واحد، وافق البنك الدولي على منح الحكومة السورية قرضاً بـ 100 مليون دولار. بعدها بسنتين حصلت هذه الحكومة على مساعدات عربية بلغت مليار دولار سنوياً، منها 700 مليون دولار من دول الخليج من أجل “المجهود الحربي”. إذن كان لتلك الحرب وظيفة تمويل النظام ومواليه، بغية استمراريته في ظل الضغط الذي يتعرض له. فيما صبّت عدة مليارات من الدولارات في خزينة الأسد، إثر مشاركة القوات السورية في حرب الخليج الثانية.

رغم ذلك، احتفظت السلطة بشيء من الوظائف الاجتماعية، لناحية دعم السلع الأساسية، وتوفير فرص عمل هي أقرب إلى بطالة مقنعة تستوعب العمالة المتزايدة سنوياً، إضافة إلى دعم الأرياف والمزارعين بما يضمن تأمين حاجياتهم الأساسية فحسب. لكن ذلك ترافق في سنوات الثمانينيات بحملة عقاب جماعي للمجتمع، عبر فرض حصار بلغ حد الحصار المعاشي، لاستعادة السيطرة المطلقة عليه.

وقد استطاع الأسد الأب أداء وظائف خارجية، أملتها عليه طبيعة العلاقات الدولية سواء فترة الحرب الباردة، أو في المرحلة التي تلتها، بتحويل سورية إلى دولة وظيفية في الحرب الباردة، كإحدى ساحات الصراع الدولي، أو بدعمها أطرافاً إقليمية تحافظ على تلك الوظائف، كما حصل معه إبان انخراطه في دعم إيران في حرب الخليج الأولى في مواجهة العراق، وهو فعل اتفق مع التوجه الإسرائيلي حينها وبالاشتراك معها، قبل أن يتمّ توزيع لبنان بين الاحتلالين الأسدي والإسرائيلي، ضمن ذات الفهم.

وانخرط الأسد سريعاً في النظام العالمي الجديد منذ عام 1991، بمشاركة قواته في حرب الخليج الثانية إلى جانب الولايات المتحدة. كما ساعد الأسد بصيانة الأمن الإسرائيلي، طيلة عقود حكمه، فلم تشهد جبهة الجولان أي حراك عسكري منذ عام 1973. مقابل الاحتفاظ بالسلطة والمحافظة على مصالحه داخل الدولة، والإبقاء على شكل نظامه.

ج- مصادر شرعية السلطة:

مثلت الشرعية إشكالية في نظام الأسد الأب، فهي لم تقم على حامل مجتمعي واسع، ولا على أسس ديمقراطية تبررها، ولا حتى على شرعية تقليدية وراثية على نمط الملكيات العربية. لذا عمل الأسد الأب على خلق شرعيات موازية متعددة، وهي ليست بشرعيات حقيقة بقدر ما هي آليات تسعى جميعها إلى تكريس سلطته، ومن أهمها:

  • الآلية الكارزمية الطغيانية، التي شكلت حالة ضبط لجميع منافسيه المحتملين.
  • الآلية الأمنية القمعية.
  • وشكلت الطائفية والعائلية شرعيةفي أوساط المجتمع العلوي، استطاع استخدامها في حشده الطائفة خلفه.
  • الشرعية القومية، عبر تبني الحالة القومية المجتمعية، واعتمادها كأساس في سلوكه الخارجي، وإن كانت في الأصل لتمرير مصالح نظامه الخاصة. ومعها تتقاطع آليات تبني القضية الفلسطينية. لكنها لم تكن حالة مبتكرة تعطي قيمة مضافة لهذا النظام.

                                                                                                                                  (يتبع)

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : سورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق