الدور الوظيفي للدولة والمجتمع في سورية (6): سورية ما بعد الثورة

رابعاً- المعارضة كآلية نخبوية للتصدي لنظام الأسد:

عملت آليات مصادرة حرية الرأي والتفكير طيلة سنوات حكم نظام الأسد، على استلاب العقل النقدي المعرفي من المجتمع، لصالح العقل المدجّن المتلقي، عبر أقنية حزب البعث والسلطات الأمنية. وخاصة بعد تصفية النخب السياسية والفكرية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات.

ما أدى إلى فقر معرفي ترافق مع انهيار المنظومة التعليمية وتغلغل الفساد فيها، وجمودها، بحيث لم تتواكب آلياتها مع التطور العالمي، إذ من الطبيعي مصادفة كتب جامعية تعود لحقبة السبعينيات أو ما قبل بين المقررات الجامعية في القرن الحادي والعشرين، وخاصة في الكليات المنتجة للعمل الفكري.

ترافق ذلك، مع اعتكاف للنخب الفكرية عن الحياة العامة بلغت في بعض أوجهها استقالة تلك النخب من وظائفها التنويرية، سواء نتيجة القبضة الأمنية المشددة عليهم باعتقالهم وتصفيتهم، أو تهديدهم، أو محاصرتهم معاشياً، أو حتى عبر آلية الطرد بتهجيرهم نحو الدول العربية النفطية أو نحو الغرب. وخلّف ذلك بوناً بين النخب الفكرية وبين المجتمع، أعاق تطور تجربة جديدة للفعل المعارض ما بعد الثمانينيات. ولعل من أسباب ذلك:

  • يأس النخب من حراك اجتماعي تفاعلي يستعيد الدولة من السلطة الاستبدادية.
  • تحاشي المجتمع لتناول القضايا الفكرية التي تمس السلطة، خشية عقابها.
  • انخفاض قيمة العلم والفكر مجتمعياً، سواء على الصعيد المادي أو المعنوي.
  • عدم قدرة النخب على تشكيل كيانات فاعلة في الفترة التي سبقت القرن الحادي والعشرين.
  • لجوء النخب إلى لغة المواربة خشية من النظام، وهي لغة تصعب على العامة في المجتمع.
  • ضعف قدرة النخب التنظيمية فيما بينها. وخلافاتها البينية، وتباين مرجعياتها الفكرية.
  • اختراقها أمنياً، عدا عن حالة التوجس السائدة داخلها من نظام الأسد.
  • افتقارها إلى وسائل إعلام تعبر فيها عن ذاتها، وتصل النخب بالمجتمع السوري في الداخل.
  • افتقارها إلى رؤية متكاملة للانتقال السلمي بالدولة والمجتمع.

فيما احتفظ مجموعة صغيرة من النخب بوظيفتها المناهضة للحالة الاستبدادية، رغم حجم الأعباء والمهالك التي وقعت عليها، إلا أنها كانت تعوّل على قدرتها المستقبلية في إحداث شرخ تلج من خلاله إلى بنية السلطة دافعة إياها نحو التفكك وإعادة التشكل وفق منطوق ديمقراطي يراعي الحريات العامة، في عملية انتقال سلمي بالمجتمع والدولة.

استغلت هذه المجموعة لحظة وفاة الأسد الأب عام 2000، لتبادر إلى الفعل السياسي والمدني، مستغلة لحظة تخلخل السلطة قبل فواتها، وعبر عن ذاتها من خلال منتديات وصالونات سياسية وثقافية تجاوزت 250 تجمعاً في بداية العقد الأول من القرن الحالي، فيما أطلق عليه “ربيع دمشق” سرعان ما قمعت واعتقل كثير من أفرادها، ولم يصمد منها سوى “صالون الأتاسي” حينها.

لكنه كان فعلاً مؤسِساً لتحرك سيبدأ بالتوسع البطيء والتدريجي، نحو خلخلة هيبة السلطات الأمنية-البعثية أولاً، وفاتحاً المجال أمام وعي سياسي جديد، وإن كان نخبوياً حينها. وخاصة حين وجد منفذاً لآرائه عبر الصحافة اللبنانية. ومن ذلك بيان االـ 99 بتاريخ 27/9/2000، وبيان الـ 1000 بتاريخ 9/1/2001 اللذين حددا المطالب برفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإرساء التعددية السياسية والفكرية مع احترام الحريات العامة كافة.

لكنها في المقابل اتسمت بضعف وتشتت نتيجة ما مرت به في العقود السابقة، فوفقاً لرياض الترك “ضعف هذه المعارضة يعكس في الواقع ضعف النظام، ما يؤدي إلى حالة من الجمود العام، .. ، فالمعارضة عاجزة عن دفع السلطة الضعيفة نحو التصالح مع الشعب، كما أنها عاجزة عن جعل الشعب نفسه يقبل بها”.

“غير أن “ربيع دمشق” فتح ثغرة في جدار الخوف، ونجح في تحرير الكلمة المكبوتة منذ عام 1982، وجدّد طرق الاحتجاج السياسي. فبعد إغلاق المنتديات، خرج الناشطون من إطار الصالونات المغلقة من خلال تنظيم تجمعات أمام المباني الرسمية وفقاً لجدول زمني رمزي- كارولين دوناتي”.

خامساً- الأمراض الناشئة داخل المجتمع السوري:

أدت السياسات التي اتبعها نظام الأسد، إلى بروز جملة من الإشكاليات والأمراض المجتمعية داخل المجتمع السوري، هي ذاتها السائدة في كافة الأنظمة الديكتاتورية، وخاصة بعد إخراج الفاعلين السياسيين والمجتمعيين من الحياة العامة. ولا يمكن ضبط كل الأمراض الاجتماعية الناشئة داخل المجتمع في هذه الدراسة، لذا سيتم التطرق إلى أبرزها.

إذ شهد المجتمع السوري طيلة عقود نظام الأسد، نزيفاً في الكفاءات الوطنية باتجاه الخارج، فنتيجة لأبعاد سياسية أو أمنية أو اقتصادية، تم تفريغ المجتمع من كثير من طاقاته الشبابية القادرة على الإنتاج، وغدت سورية من أهم الدول الطاردة للكفاءات عالمياً، ويبرز بين المجموعات المهاجرة، مجموعات كبيرة من الأقليات وخاصة المسيحية التي تشكل جزءاً مهماً من البعد الحضاري لسورية.

أما على المستوى الداخلي، فقد حوّلت القبضة الأمنية العنيفة المجتمع، إلى مجتمع سلبي تجاه الشأن العام أولاً، ومن ثم دفعته إلى الانخراط في الآلة الأمنية، بتحول كثير إلى حالة “مخبر طوعي” لصالح أجهزة الأمن، عن أية شاردة قد تصيب البنيان السلطوي، خشية من العقاب في حال تكتمه عليها.

ترافق ذلك مع مجافاة أو محاربة لأي خروج على النسق الفكري-الأمني والبعثي في الدولة، باعتباره عنصراً مخرّباً عليهم التخلص منه قبل تضررهم، فكثيراً ما لوحق الأشخاص لمجرد سكوتهم عن تلك الحالات. كما أن حالة “المخبر الطوعي” وفرت لهم أبواب نفاذ إلى بعض المؤسسات الأمنية والحزبية، ومنه المصلحية، كتعويض عن محدودية الدخل المحاصر أصلاً من قبل السلطة لذات الأهداف، وأصبح مجالاً للاكتساب غير المشروع.

“كما اختفى الإحساس بالمصلحة العامة، ذلك أن النظام السياسي وآلية توزيع الموارد شجعا على المنافسة والنزاعات ومنعا ظهور أية حركات تضامنية. بذلك منع النظام تشكيل حركة موحدة لإسكات كل أشكال الخطاب الجماعي- ألكسي تادييه”.

لتنتقل الحالة السياسية، إلى المال العام، الذي عانى من تضخم الفساد فيه، عبر آليات الرشوة والمحسوبية والهدر والاختلاس، حتى باتت الأعراف الاجتماعية تشرعن تلك الممارسات، وتنتقد من يرفض التعاطي بها باعتباره متخلفاً عن القيم المجتمعية. بل غدا تقديم الرشى المالية والعينية إلى الشخصيات المتنفذة للحصول على وظيفة عامة، أمراً مفروغاً منه، حيث ستتعوض تلك الرشى من خلال الإثراء على حساب المال العام.

لذا فقد القانون أي معنى أو سلطة، خارج المنحى السياسي، فتجاوز القوانين مرتبط بقدرة الفرد على شراء القائمين على تطبيقها، أو عبر علاقات الرشى الأمنية، التي تفرض بدورها على تلك الجهات غضّ الطرف عن التجاوزات القانونية. بل إنّ القانون ذاته بات مجال إثراء للعاملين عليه، فكلما زادت شدة القوانين وصرامتها، زادت العوائد المالية المترتبة من علاقات الرشى. فانتقل بذلك الفساد إلى أروقة المحاكم ذاتها، وغاصت السلطة القضائية في آليات الفساد.

لم تتوقف حالة الفساد على المجالين السياسي والاقتصادي والقضائي فحسب، بل امتد إلى كافة مناحي المجتمع، إذ شهد التعليم مستوى من الانحطاط، نتيجة آليات الفساد، سواء بمحاباة أبناء المسؤولين، أو عبر تعيينات وإيفادات غير كفوءة، أو عبر منح شهادات وفق العلاقات الأمنية أو علاقات الرشى.

أدى حجم الفساد الكبير الذي استمر في الاتساع، مع تداخل السلطة الأمنية فيه، إلى تفكك الروابط المجتمعية الضابطة للسلوك، حيث بدأ انتشار الجريمة يأخذ منحى تصاعدياً، شهد ذروته في النصف الثاني من العقد المنصرم. إذ اتسعت الجريمة المنظمة، وعمليات القتل والسرقة والاغتصاب والاختطاف، عدا عن بداية انتشار المواد المخدرة وأبرزها الحشيش وحبوب الهلوسة.

حيث ارتبطت الجريمة بفاعلين رئيسين، الأول كان الطرف المهمش من المجتمع، الذي طالته آلة الإفقار مع حالة الانفتاح، وسلبته كل وسائل الاندماج والعمل. أما الفاعل الآخر، فكان أبناء كبار المسؤولين والضباط، حيث لا تجرأ أحد على محاسبتهم.

حالة التفكك الاجتماعي وانتشار الجريمة، ترافق مع بعد آخر مناقض لها، وهي انتشار حالة التدين المتشدد تدريجياً والتي اتخذت منحى نحو التطرف منذ عام 2001، مع الغزو الأمريكي لأفغانستان، و2003 للعراق. وتعود أصول هذه الحالة إلى تجذر السلفية المتطرفة بشكل محدود، وخاصة في المحافظات الشمالية، لكنها بدأت تأخذ بعداً جديداً، نامية بفعل المتغير الإقليمي والدولي من جهة، وبفعل سياسات الدولة “العلمانية-الطائفية” تجاه المجتمع من جهة أخرى، وثالثاً بعودة كثير من المغتربين في دول الخليج، وخاصة في السعودية، ناقلين معهم الثقافة السلفية والسلفية المتشددة، بالتزامن مع حالة تبشير وهابي مضاد للتبشير الشيعي، حيث أتاحت السلطة لهذا الأخير مجالاً واسعاً للعمل في البيئة السنية، كآلية للعبث الديموغرافي بهدف خلخلة التركيبة المجتمعية وإعادة إنتاجها بشكل أكثر أقلوية.

دفعت تلك العوامل، العديد من الشباب إلى حالة تطرف مترافقة بنقص وعي معرفي بالدين الإسلامي ذاته، فالحالة هي ردة فعل أكثر منها فعلاً منتجاً، وقد استغلت السلطات تلك المجموعات في توظيفها خارجياً في الضغط على الاحتلال الأمريكي في العراق، ومساومته على بقاء نظام الأسد مقابل رصد الحدود واعتقال تلك المجموعات، وهذا ما تمّ فعلاً. فبعد أن دفعت بهم عام 2003 نحو العراق ويسرت لهم سبل الدخول إليه، عادت عام 2004 و 2005 بحملة اعتقالات كبيرة لكل من عاد منهم من العراق، مع مراقبة صارمة للحدود.

لكن حالة التطرف تلك، سيكون لها أدوار سلبية في الثورة السورية، بدفعها قسراً نحو التيار القاعدي، باستخدام قوة السلاح، حيث أطلق النظام سراح كثير منهم في أواخر عام 2011، بغية دفعهم نحو الثورة وتصادمهم معها، لعلمه بالبون الشاسع بين مدنية الثورة، وتطرف تلك الجماعات.

بالمجمل، خلق نظام الأسد عوامل نزاع أهلي تتمثل في: إقصاء الآخر، الانتقام السياسي، الانتقام الطائفي، صراع القوميات، غياب الممارسة الديمقراطية، قلة الثقافة عن معتقدات ووضع الآخر، الصراع الطبقي، التقوقع على الهوية العربية.

سادساً- التغيرات البنيوية في مجتمع الثورة:

ربما كانت ثورتا تونس ومصر هي آلية اكتشاف المجتمع السوري لأدوات الثورة على الاستبداد، لكنها لم تشكل سبباً عابر للحدود بقدر ما اكتفت بأن تكون مثالاً، فالتراكمات الاستبدادية كانت قد أوغلت في النفوس وبات المجتمع على شفى انهيار إما باتجاه الداخل (المجتمع) والانحدار نحو القاع بتحطيم ذاته، أو باتجاه الخارج (السلطة) مرتفعاً إلى حالة ثورية تعيد تشكيل المشهد المجتمعي والسياسي معاً.

وخاصة أن العقد الأخير شهد آليتين متعاكستين متكاملتين، هما تخلخل السلطة الأمنية-البعثية، ولو كان التخلخل نسبياً، استطاع معظم أفراد المجتمع استدراكه، ومنه خرجت نخب معارضة علنية كآلية مضادة للسلطة، تحاول استعادة حقوق المواطنة.

وقد بلغ الطرفان، المجتمع والنظام، في عام 2010، نقطة تأزم عليا، ولم يعد بالإمكان استمرار العلاقة فيما بينهما بذات النهج السلطوي-الاحتكاري، فإما الانفتاح الديمقراطي ولو كان تدريجياً على أن يكون ملموساً ومؤطراً زمنياً، وإما العودة إلى حالة القمع القصوى السلطوية كما في عهد الثمانينيات، وإما انهيار أحدهما أو كليهما.

“فالثورة ديناميات اجتماعية “هائجة تنطوي بطبيعتها على منطق التقويض والفوضى وقابلية التحول إلى اضطرابات، وفيها فوضى ونظام، وشعارات نبيلة وأخرى وضيعة، ومعتدلون ومتطرفون، في آن معاً. وكل مجتمع يغضب يُنتِج هذه الحالات حسب ثقافته وتطوره ووضعه. وهذه الديناميات هي ديناميات التغيير الاجتماعي الكبرى التي تترك آثارها في المجتمع، وتهز أفراده جميعاً، ولهذا السبب هي “كبرى”، تختلف عن نمط الهزات الناتجة من ديناميات اجتماعية أصغر أو قطاعية- محمد جمال باروت”.

وقد شكلت حادثة (تظاهرة) الحريقة في 19/2/2011 أول حدث تضامني مجتمعي عفوي بأبعاد سياسية، ومنها عبرّ المحتجون عن عيهم لمسببات الخروج على السلطة (كمقدمات ثورية)، عبر شعار “الشعب السوري ما بينذل”، وهي تعبير جد واعٍ يختصر كافة الشعارات اللاحقة له، الشارحة لمبررات الحراك الثوري، وتعتبر هذه التظاهرة العفوية الآلية الأولى التي كسرت حاجز الخوف من السلطة.

فيما كانت شعارات تظاهرة الحميدية 15/3/2011: “وينك يا سوري وينك”، “الله .. سورية .. حرية وبس”، “سلمية سلمية”. معبراً بدورها عن الطموح في الحرية (الأهداف)، وعن الرغبة في التغيير السلمي (الآليات)، وعبر حال الاجتماع العام (الحامل الثوري).

وانقسمت حالة الخروج على السلطة في إطار ثوري باتجاهين سارا معاً، الأول كان نخبوياً مدينياً عُبِّر عنه عبر تظاهرة الحميدية 15/3/2011، وتظاهرات دمشق وحلب النخبوية. والآخر شعبي ريفي عُبِّر عنه عبر تظاهرة درعا 18/3/2011، وما تلاها من تظاهرات. في الحالتين معاً كان المجتمع يعيد اكتشاف ذاته وأدواته وأدواره، في ظلّ وعي لمفهوم التغيير، ويرسم نهجاً ثورياً أخلاقياً، غير متصل بنظام الأسد، وهو ما أربك النظام عبر مواجهته بأدوات غير معتاد عليها.

وشكلت تظاهرة درعا الأولى، أول حدث تضامني مجتمعي منذ عقود، وإن كانت بعد على المستوى الأهلي-العشائري فحسب، عبر آلية “الفزعة”. لكنها مع انتقالها إلى دوما وحمص، كانت تنتقل إلى طور أعلى من التضامن بعد اجتياح الجامع العمري في درعا، عبر تضامن قد يكون في لحظتها تضامن ديني-مذهبي، لكنها كان في الإطار العام انتقال حالة التثوير عبر المجتمع. إذ توسع باتجاه تضامن مناطقي عبر دخول عدة محافظات على خط “بالروح بالدم نفديك يا درعا”. قبل أن يتحول إلى تضامن عابر للهويات الفرعية الإثنية، بانضمام الأكراد والتركمان على المستوى العرقي، وانضمام الإسماعيليين أولاً على المستوى المذهبي-الديني، قبل أن تُحدِث الثورة اختراقات تضامنية في الهويات المذهبية-الدينية الدرزية والمسيحية وحتى العلوية.

ونتيجة هيمنة السلطة على كافة أدوات المجتمع والدولة التي يمكنها دفع عملية الثورة أو التغيير السياسي، كان على المجتمع الثوري صناعة أدواته السياسية السلمية، فكان الجامع هو فضاء التجمع العام عوضاً عن الأحزاب المسلوبة سلفاً من النظام الأمني والبعثي. فيما كانت وسائل التواصل الاجتماعي (فييس بوك) على شبكة الانترنت ومواقع الفديوهات (يوتيوب)، الأداة الإعلامية التي أوجدها مجتمع الثورة رداً على الهيمنة السلطوية على قنوات الإعلام المحلية ومنعه القنوات الخارجية من الوصول إلى الحدث الثوري.

واستطاع هذا المجتمع الثوري، أن يعمل على تأسيس وعي جمعي جديد، يقوم على التضامن والتكامل بين مكوناته، وهي حالة لم يعهدها الجيل الشاب من قبل، فأُنشِئت التنسيقيات كحامل سياسي-مجتمعي للثورة، وكان العمل فيما بينها لا مركزياً بهدف مشاركة الكل، وتخفيف الضغط الأمني كذلك. وتعتبر التنسيقيات صيغاً متطورة للعمل السياسي والمجتمعي لم يستطع النظام القضاء عليها، رغم محاولات اختراقها، لأنه هو الآخر لم يعهد حراكاً مضاداً له بغير أدواته.

وكان من أبرز توجهاتها المجتمعية، حالة التضامن في ظل القمع والحصار الأمنيين على المجتمع الثائر، إذ شهدت إنشاء المشافي الميدانية لعلاج مصابي التظاهرات، إضافة لقدرتها على جمع التبرعات التي تدفقت من مناصري الثورة، وإن كانت بشكل محدود في الكم، وإدارة المجتمع المحلي، وترسيخ وسائل ديمقراطية في العمل الثوري، سواء عبر انتخاب ممثلي التنسيقيات، أو الجهات التي تدير المجتمعات المحلية، أو حتى على مستوى تسمية أيام الجمع، باعتبارها رمزاً للنشاط الثوري.

وقد لجأ الشباب إلى آليات معهودة ولكن مضى زمن على استخدامها، كالإضراب العام، وقطع الطرقات، وتوزيع المناشير السياسية، والتثوير عبر الكتابة على الجدران. وقد شهدت اللافتات المرفوعة بديلاً عن البيانات الختامية التي كانت الأحزاب تصدرها في الأزمان السالفة، فحملت تلك اللافتات مضامين الثورة ومفاهيمها وأدواتها. وأبرزها تلك التي كانت في وعيها الأول حريصة على أن تكون ذات منحى سلمي خالص، عابر لكل الهويات الفرعية “واحد واحد واحد .. الشعب السوري واحد”، وهي تعبير عن مفهوم الهوية في الوعي الثوري، بعيداً عن حالة الاقتصاص والتشفي والانتقام.

لا يعني ذلك بالمطلق، خلو الثورة من إشكالياتها، فقد شهدت بداية صراعاً سياسياً بين التيارات السياسية الرئيسة بهدف الهيمنة عليها، سواء عبر تحريف توجهها العام، أو السيطرة على قيادتها، أو الدفع بها نحو مواجهات مجتمعية.

كما استطاع الأسد خلق انقسام مجتمعي جديد داخل المجتمع السوري، بين مؤيد للأسد ومؤيد للثورة، وعمل على تغذية عوامل الفرقة فيما بين المجتمعين، حتى باتا خصمين أو عدوين يتصارعان على هوية سياسية وأهداف مستقبلية متباينة بشكل كبير. ففيما كانت قوات الأسد تدك المجتمع الثوري بكافة أنواع الأسلحة، كان المجتمع الأخر، المؤيد للسلطة السياسية والحل القمعي، يمارس حياة طبيعية بالمطلق، بل وغالباً ما يظهر شماتته وتشفيه بمن يسقط من المجتمع الآخر على يد السلطة الأمنية (اعتقال، إصابة، قتل، تهجير).

كما شهدت الثورة، وخاصة بعد إطلاق سراح المجرمين من سجون الأسد بعفو رئاسي، تشكُّل مجتمعات داخل الثورة، انخرطت فيها ظاهرياً، وحملت أهداف مصلحية ذاتية، أو تخريبية موجهة من قبل النظام، فتشكلت مجموعات للسرقة والاختطاف والتصفية، تعمل باسم الثورة، ما خلق إرباك لفئات اجتماعية غير منضوية في أي من المجتمعين (الثوري والأسدي)، وعبئاً على الثورة، وأداة بيد النظام لتبرير حالة العسكرة التي فرضها مبكراً ومنذ الجمعة الأولى.

حافظت الثورة بعد أن فُرِض عليها انتقالها من الحالة السلمية إلى حالة المواجهة العسكرية، وتغير الأدوات الثورية، على نهجها التضامني المجتمعي، وعلى آليات الإدارة المحلية الأهلية، لكن تداخل عوامل الصراع الداخلية والخارجية، وانبثاق مجتمعات داخل المجتمع الثوري، بعيدة عن الفهم السوري والهوية السورية، سيشكل ضغطاً كبيراً يستمر طيلة الحراك الثوري، مع ضعف الإمكانيات الذاتية المادية خصوصاً في إدارة المجتمع المتحرر من سلطة الأسد شكلياً، وتحت نيرانه واقعياً.

خاتمة:

استطاعت الثورة العبور بالمجتمع السوري من سلبية أرساها نظام الأسد طيلة عقود أربعة، إلى حالة حراك سياسي واجتماعي، متجاوزة كافة الأطر السلطوية القمعية، لتعبر عن هوية جديدة قيد التبلور في المجتمع السوري، وهوية تتصل بالإنسان الفرد في سورية.

فهي ثورة هوياتية على مستوى الفرد بالعبور به إلى مرحلة حداثية متقدمة، تقوم على احترام حقوقه وحرياته كافة، وثورة على مستوى المجتمع بإعادة تأهيله ليتحمل وظائفه في إدارة الدولة. وثورة على مستوى الدولة بإعادة صياغتها بعد تفكيك الاستبداد منها، وتشكيلها وفق أطر ديمقراطية معاصرة.

سيشهد المجتمع السوري كثيراً من التناقضات والأزمات الثورية، خلال الفترات المقبلة وحتى رسو الثورة وبدء بناء الدولة والهوية السورية المجتمعية والفردية. وذلك مناط بقدرة المجتمع ذاته من جهة، ونخبه المنتج ثورياً، أو المعدلة ثورياً، على خلق مشروع سياسي متكامل قابل للتطبيق، يحظى بإجماع كافة شرائح المجتمع السوري بعيداً عن منطق العصبيات ومزدوجة الأكثرية/الأقلية، والتي لا تعبّر إلاّ عن فهم كلاسيكي تسطيحي للحياة السياسية الديمقراطية.

ما هو مطلوب لإتمام الفعل الثوري، يتجاوز قدرة الأفراد أو الأحزاب أو التيارات الفكرية بشكل منفرد، فالانفراد هنا هو إعادة إنتاج للنظام الأسدي بتمظهر آخر، بل حتى إن اعتماد وسائل الأسد سواء في محاربته أو في ضبط المجتمعات المتحررة من سلطته، يؤدي إلى ذات النتيجة.

ما هو مطلوب لإتمام الفعل الثوري، والحصول على نتاجه بشكل فعال، يتطلب القدرة على تجاوز الحالة العصبوية العصابية، وحالة الاقتصاص، إلى حالة إنشاء مجتمع العدالة الذي يطال الجميع، في ظل حريات وحقوق متساوية بعيدة عن أية أدلجة جبرية للفرد أو المجتمع، أو تسلط بدواعٍ ثورية، أو إعادة إنتاج الاستلاب من جديد. غير أن قدرة المجتمع على تفجير ثورة على نظام طغيان استمر لقرابة نصف قرن، يعوّل عليها في حماية المكتسبات الثورية وتعزيزها.

                                                                                                                                 (انتهى)

 عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : سورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق