الدور الوظيفي للدولة والمجتمع في سورية (4): أدوار المجتمع

       القسم الثاني: أدوار المجتمع

مقدمة:

تشكل المفهوم الحديث للدولة، عبر ارتباط الدولة بكيان جغرافي معلوم، وطبيعة سكان ينتمون لهوية قومية، تحت سلطة تسعى للحفاظ على المكاسب القومية. أي إن الأطر التي شكلت الدولة الحديثة كانت: (الإطار الجغرافي، الإطار السكاني، الإطار السلطوي، بمعنى سلطة تدير أمور الدولة)، عبر تفاعل بينيّ بين هذه العناصر يضمن استمراريتها واستمرارية الدولة ونهوضها.

 فتغييب وظيفة عنصر من العناصر الثلاثة السابقة، لصالح عنصر آخر، هو بمثابة إلغاء مؤقت للعنصر ذاته، ونقصد هنا بالتحديد تغييب السلوك الوظيفي المنوط بالمجتمع داخل الدولة، عبر تفكيكه وإعادة تشكيله بلون واحد يخدم استمرارية السلطة فحسب، فتلغى وظيفته السياسية في إنتاج السلطة، ومراقبتها ومحاسبتها واستبدالها. كما تلغى وظيفته الاقتصادية سواء في ضبط آليات السوق عبر معادلة العرض والطلب –على المستوى الأدنى– أو في رسم توجه اقتصادي كلي – على المستوى الأعلى – وما بينهما. بل وتلغى وظائفه الاجتماعية التقليدية والأساسية، في إنتاج القيم المجتمعية، والتي تصبح رهناً بالحالة السلطوية، أي بما ترتئيه السلطة من ضرورات، عبر قنوات تعبوية إيديولوجية.

وبإلغاء الحالة الوظيفية للمجتمع، وتحويله إلى رعية، بالمفهوم الديني والسياسي، يغدو المجتمع عبئاً على السلطة، ومن ثم على الدولة، ويصبح فائضاً عما تستلزمه الحالة السلطوية، لتبدأ عملية الإلغاء للأقل وظيفيّة. حتى تبلغ السلطة حدّاً يكون بمقدورها فيه الاستغناء عن هذا المجتمع، بل واستبداله لو استطاعت، لكن الأسوأ ما في عمليات الاستبدال، تلك التي تتخذ شكل التصفية والقتل لكافة الفاعلين فكرياً ومجتمعياً وعسكرة المجتمع لتحويله إلى وحدات متنافرة متقاتلة.

إنّ إمكانية الاستبدال هذه، تعني إمكانية الإلغاء، وإمكانية الإلغاء تقود إلى إلغاء الدولة ذاتها، وتحولها في صيغتها السياسية إلى سلطة تملك أرضاً يقيم عليه شعب فائض عن الحاجة، أي أنها تماثل حال شركة أو مؤسسة – بل وفي بعضها أشبه بنماذج التملك القروسطية الإقطاعية حتى عادت إلى أشكال متطورة من الإقطاع متمثلاً بالإقطاع المؤسساتي-. أما السلطة هنا فهي مقيدة جغرافياً، فلا تستطيع استبدال الإطار الجغرافي – وإن كانت دول حاولت توسيعه– وحيث أنّ قسماً من المجتمع/الشعب، لم يجد فرصة لأن يخرج عن تلك الأطر –وغالباً بالهجرة– فإنه غدا رهينة بيد الاحتكار السلطوي للقوة، أو أن يبلغ الفائض الداخلي من المجتمع حداً يغدو فيه قادراً على استعادة الدولة، وإعادة إنتاجها في شكل حضاري، وهو ما أنتج حالة الثورة.

إنّ عملية الاستعادة الوظيفية للعنصر المجتمعي في سورية، قد عُبِّر عنها من خلال ثورة شعبية، عبر السعي لإعادة الضبط والتحكم بمصادر قوة الدولة، لصالح المجتمع ككل، وليس لصالح فئة حاكمة منفردة، من خلال مأسسة لعناصر القوة (الجيش والأمن، الدستور والقانون، السلطات الثلاث). لتختلف بعده وظيفة الدولة عما كانت عليه، لناحية تحولها لدولة لمواطنيها، تعكس مصالح المجتمع محلياً وخارجياً، حيث يغدو الفرد محور العمل السياسي. وبدلاً عن استبدال فئات بعينها بالمجتمع، يتم الاستبدال في السلطة بسلطة تكرس المفهوم الديمقراطي، تعمل عبر آليات المراقبة والمحاسبة بل والإطاحة بها.

وتتناول الأقسام التالية، الآثار المترتبة على وظائف المجتمع من السلطة الاستبدادية من خلال:

–      لمحة تاريخية.

–      استلاب السلطة الأسدية للأدوار المجتمعية وإلغاؤها.

–      تفكيك الدولة والمجتمع (صراع الهويات).

–      المعارضة كآلية نخبوية للتصدي لنظام الأسد.

–      الأمراض الناشئة داخل المجتمع السوري.

–      التغيرات البنيوية في مجتمع الثورة.

أولاً- لمحة تاريخية:

كان الوعي الدولتي المؤطّر في الحدود الجغرافية المقتطعة –والضيقة-، جديداً على المواطن السوري لحظة الاستقلال، فلم يعهد ذاته في وعي انتمائي خالص لهذا الوطن المختلق حينها، والموضوع تحت سلطة انتدابية فرنسية، أخرجته من وعيه السلطوي العثماني، إلى وعي حداثي على خطى الوعي الفرنسي المحتل ذاته.

فمفهوم المواطنة والدمقرطة واللبرلة، ما كان ليدخل سورية مع الموجة الرابعة –إن صحت التسمية- بثورات الربيع العربي. فالديمقراطية بالمفهوم الليبرالي الحداثي والانفتاحي كانت تتأصّل في سورية بعد الموجة الديمقراطية الأولى عالمياً مباشرة، متزامنة مع ترسيخها في أوروبا الغربية ذاتها، سابقة بذلك كثيراً من الدول الديمقراطية داخل أوروبا، وإن كانت في مرحلة التأصيل بعد.

فالبعد الوظيفي للنخب السورية في مواجهة السلطة العثمانية أولاً، والفرنسية لاحقاً، أنتج وعياً حداثياً بُنِيَ عليه دولة جمهوريانية برلمانية، واجهت ملكيات أحاطت بها محاولة ابتلاع الكيان السوري، وقوى دولية ما تزال تتحكم بالداخل عبر ارتباطات بعضها عضوي وبعضها الآخر مصلحي مع فئات رفضت شكل الدولة والخضوع للسلطة والمركز السياسي.

حيث شهد المجتمع السوري لحظة استقلاله، حالة حراك دفعته سريعاً لأن يكون مجتمعاً مدنياً وسياسياً فاعلاً في بناء الدولة. فحمل المجتمع ذاته –لا السلطة- عبء النضال ضد الامبريالية التي تحاول ابتلاع هويته ودولته من جهة، ورافق ذلك نضاله ضد القوى التقليدية الإقطاعية المسيطرة على الفعل السياسي. وهو أمر ترسّخ في المجتمع سريعاً عبر المراحل الدراسية في سن مبكرة على خلاف الأجيال السابقة. حيث استفاد المتعلمون الجدد من الثغرة التي فتحها تطور التعليم، وقد دخلوا في صفوف التنظيمات السياسية المختلفة التي نشأت عام 1949 بعد الهزيمة النكبة في فلسطين. إنّه العصر الذهبي للنخبة الثقافية السورية التي دخلت في تركيبة شتى الأحزاب السياسية.

ولم يعد المجتمع السوري ليقبل بالتعطيل السياسي الذي شهدته سورية بعد الاستقلال، فاتضح أنّ النخبة التقليدية في المدن قد أغلقت كل أبواب الحوار وسبب تباطؤ النمو الاقتصادي. كما شكلت تلك المرحلة بداية دخول الأرياف في الحياة السياسية كفاعل إضافي، وخصوصاً مع أكرم الحوراني وحزبه العربي الاشتراكي.

فمن أبرز مظاهر البعد الوظيفي السياسي للمجتمع السوري في تلك الفترة، هو ارتفاع عدد النقابات من 6000 عام 1947 إلى 46000 عام 1958. وانتشار الأحزاب السياسية ذات التنوع في انتمائها للتيارات السياسية الأربعة. ولعل من أبرز معالم الديمقراطية في عام 1954 كذلك، هو ذلك التفاعل المجتمعي الواسع الذي شهدته انتخاباتها البرلمانية، والتعددية السياسية الحزبية التي شاركت بها. حيث شهدت تلك الفترة كذلك انطلاق الحريات السياسية والصحفية والنقابية والاقتصادية، وحصول المرأة السورية على حق الانتخاب بعد مثيلتها في فرنسا بأربع سنوات فقط.

هذا الحراك السياسي المجتمعي الواسع، هو من أدار فعلاً نشوء الجمهورية، في ظل تشكّل السلطة واكتشاف أدواتها ووظائفها وحدودها، بل لعله بالأصح، هو من حافظ على وجود الكيان الدولتي، وعمل على ترسيخ الفعل الديمقراطي، في مواجهة جنرالات الانقلابات المتتالية. ويمكن اعتبار عملية إسقاط نظام أديب الشيشكلي، بمعايير اليوم، ثورة مجتمعية شاركت فيها كافة المكونات الأفقية والعمودية في سورية، في عملية استعادة وتأصيل حقيقي للفعل الديمقراطي.

وقد أدار المجتمع عملية الانتقال الحداثي، ضمن برجوازية صناعية تأسيسية ناشئة، لعبت دوراً مهما في تشكل الوعي السياسي-الاقتصادي، بشكل لا يتناقض مع القيم والمفاهيم المجتمعية، ومُتّسِقاً مع حالة صناعية حداثية كانت قد انطلقت منذ عام 1930، متصارعة مع بقايا النظام الإقطاعي الموروث من مرحلة ما قبل الدولة.

هذا الفعل المجتمعي على المستوى السياسي-الاقتصادي كان له أن ينتقل بسورية إلى مصاف متقدمة على الصعيد الدولي، خاصة أنّ درجة الوعي التي امتلكها المجتمع في مواجهة السلطة من جهة، وفي إدارة البلاد من جهة أخرى، وإدراك حجم التحديات الداخلية والخارجية ثالثاً، كان يسبق كثيراً من الشعوب المتحصلة على استقلالها حديثاً. متأثراً بالفكر الأنواري والحداثي الأوربي.

لكن المجتمع السوري دفع بقوة نحو الخيار الاندماجي الوحدوي مع مصر في سبيل الحفاظ على الجمهورية بعد أن تحول جوارها (الأردن، العراق، تركيا، إسرائيل) إلى تهديد فعلي لوجود الدولة. متخلّياً عن وظائفه جميعها لصالح سلطة الفرد المصرية، على أمل أن يكون هذا الدفع المجتمعي والسلطوي معاً بادرة في إعادة تشكيل دولة كبرى ذات هوية يبحث عنها المجتمع السوري خارج إطار حدوده التي لم يقتنع بمصداقية تمثيلها له. هذا التخلي عن الوظائف الاجتماعية بعد مرحلة ديمقراطية ناجحة في السنوات الأربع السابقة، سيكون قاعد التأسيس الاستبدادي من قبل كافة السلطات المتلاحقة على سورية.

وقد احتفظ المجتمع السوري طيلة تلك الفترة، بأبعاده القيمية والمجتمعية، ورغم تأزمات الهوية لحظة الاستقلال، إلا أنّ الهوية السورية الكلية، كانت طاغية على الهويات الفرعية، وموجهاً للسلوك المجتمعي بعيداً عن التقسيمات العرقية والدينية. وقد تجلى ذلك في أشكال السلطة والأحزاب الرئيسة، والتفاعل المدني، العابر للهويات الفرعية.

  

                                                                                                                                 (يتبع)

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : سورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق