الدبلوماسية السعودية الجديدة: بناء التحالفات

قامت التحالفات ذات الطابع العسكري، والتي شهدها النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على خيارات محدودة للغاية، تُوزِّع الدول وولاءاتها على القوتين الكبريين حينها (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي)، وفق منطق الخيارات التالية:

  • إمّا التحالف مع المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة (الكتلة الرأسمالية)، مُمَثَّلاً بحلف الناتو.
  • أو التحالف مع المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي (الكتلة الاشتراكية)، مُمَثَّلاً بحلف وارسو.
  • أمّا الخيار الثالث، فكان الانكفاء على الذات بعيداً عن أيّة تحالفات، في عالم شديد الاضطراب والاستقطاب، وهو ما لم يكن متاحاً لدول ما عُرِف بالعالم الثالث، وخاصة أنّها كانت قد خرجت من نير الاستعمار حديثاً، أو أنها ما زالت تقاومه.
  • فيما كان الخيار الرابع غير متاح كسابقه، إلّا في حدود ضيقه، وهو التحالف بين دول العالم الثالث، بعيداً عن الكتلتين، ولذات الأسباب السابقة، ما كان بالإمكان بناء تحالفات كهذه، تكون قادرة على حماية أعضائها. ربما باستثناء حركة عدم الانحياز، والتي ما كانت تحالفاً عسكرياً بقدر ما هو سلوك سياسيا جماعي، وباستثناء المنظمات الإقليمية التي لم يكن لها طابع عسكري كذلك.

البنية التحالفية الدولية بعد الحرب الباردة:

أدى انهيار المنظومة الاشتراكية، وتفكِّك الاتحاد السوفييتي، إلى تغييرات كبرى في بنية النظام الدولي وبالتالي في آليات التحالفات الدولية، إذ شهدت المنظومة الدولية تسارعاً في الانضواء تحت التحالف الغربي، إما لحماية استقلالاتها المستحدَثَة (شرق أوروبا)، أو تعويض الداعم الشرقي بآخر غربي كما معظم دول العالم الثالث. فيما بقيت بضعة دول خارج إطار تلك التحالفات ومنها على سبيل المثال (إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا).

وشهدت مرحلة ما بعد الحرب الباردة عدّة تحالفات دولية لمواجهة أزمات تهدّد الأمن والسلم الدوليين، كانت جميعها تحالفات مصلحية مؤقّتة مرتبطة بالحدث المُؤسِّس لها، وفي إطار زمني محدود، على خلاف التكتلات التحالفية فترة الحرب الباردة التي أفرزت أبرز حلفين دوليّين حينها: حلف الناتو، وحلف وراسو الذي انتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي.

وقد افتُتِحت مرحلة ما بعد الحرب الباردة في منطقتنا من خلال تحالف عاصفة الصحراء، إبّان احتلال العراق للكويت 1990-1991، بقيادة الولايات المتحدة بشكل رئيس، فيما شكّل الحضور العربي فيها، حضوراً لوجستياً إسنادياً، وقدّم لها الشرعية المطلوبة لإنجاز مهمّة تحرير الكويت. فيما شهدت الفترات اللاحقة عدّة تحالفات لذات الأسباب، وبذات الأدوات، وأهمها الحلف الغربيّ الموجه ليوغسلافيا، والتحالف الدولي الذي أطلقه بوش الابن للحرب على الإرهاب، والتحالف الدولي إبان حرب الخليج الثالثة واحتلال العراق 2003، والتحالف الدولي إبان الثورة الليبية، ثمّ التحالف الأحدث ضدّ تنظيم داعش، أو الحرب الثانية على الإرهاب.

في جميع هذه التحالفات، كان دور العرب فيها دوراً إسنادياً وليس محورياً، أي إنّها لم تُنشَئ بمبادرة عربية، أو تحت قيادة عربية، أو حتّى لتحقيق أهداف عربية منفصلة عن مصالح القوى الدولية. إذ أدّت التحالفات السابقة لفرض نمطٍ مصالح أصحابها على مسار الحدث السياسيّ في المنطقة.

غير أن الإنهاكات التي طالت القوة الأمريكية عقب احتلال العراق، وعدم قدرتها –أو عدم رغبتها- في إنهاء الحرب في سورية، أو المساهمة في إسقاط نظام الأسد، بل ربما ساهمت كذلك في استمرارية نظامه ومنهجه العدواني، إضافة إلى بروز لاعبين إقليمين ودوليين ما عادوا قانعين بالترتيبات الدولية القائمة. كلّ ذلك –وسواه- أنتج هشاشة في التحالفات التي حاولت الولايات المتحدة إنشائها، عدا توجّهات إدارة أوباما –التي شارفت على الانتهاء- للانفتاح على إيران بما يتعارض مع مصالح الحلفاء العرب بدرجة أولى.

يأتي ذلك بالطبع مع تحوّل النظام القطبي الأحادي من حالة الأحادية الصلبة إلى حالة الأحادية الهشة، بشكل إجباري وليس اختيارياً منذ ولاية بوش الابن الثانية، بمعنى فتح أبواب لبروز أدوار دولية منافسة للدور الأمريكي، ولو بشكل محدود وانتقائي، تمهيداً لتغيير النظام الدولي ككل، والذي طاله هو الآخر حالة الإنهاك، وما عاد قادراً على معالجة أزماته –السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية- إلا بالاستناد إلى الانشغال العسكري في عدة مناطق من العالم.

وربما يعني ذلك الحاجة إلى حرب أكبر مما هو قائم للخروج من هذا النظام، عبر تسويات المنتصرين بعد تلك الحرب، وربما أيضاً نكون في أوضاع سياسية وتحالفية واقتصادية بل وأزموية كتلك التي شهدتها سنوات العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، قُبيل الحرب العالمية الثانية. هذه الحرب تغدو مرجَّحة أكثر فأكثر مع اشتداد الأزمات الإقليمية والدولية، وتوسّع الخلل في بنية النظام الدولي، والذي بالمناسبة لم يشهد حرباً حقيقية تنقله من الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بمعنى أنّ هناك حرباً مستحقّة تمّ تأجيلها، ليتمظهر النظام الدولي بالشكل الحالي الأحادي لأول مرة في التاريخ السياسي الحديث.

الدبلوماسية السعودية الجديدة وبناء التحالفات:

نلحظ بداية التغييرات في خريطة التحالفات العسكرية، والخروج عمّا كان مقرَّراً في عرف النظام الدولي، منذ عام 2011، حيث استبقت المملكة العربية السعودية الحدث البحريني، ودون انتظار تنسيق مع الحلفاء الدوليين، بل اكتفت بالتنسيق مع الأشقاء الخليجيين، لتعزّز أمن البحرين عبر الحضور العسكري لقوات درع الجزيرة، والتي كان لها الدور الرئيس في صيانة استقلال البحرين. تلاها ذات الخطوة التحالفية وإنّما على نطاق أوسع، من خلال الإعلان عن عملية عاصفة الحزم، لتخليص اليمن من انقلاب حوثي-إيراني يسعى إلى تحويل اليمن إلى بؤرة رابعة للاحتلالات الإيرانية بعد لبنان والعراق وسورية.

وفيما كانت الولايات المتحدة، ورئيسها الذي كان في زيارة للهند –إبّان الانقلاب الحوثي-، يقدمون تصريحات متتالية بأنّ الخطر الموجود في اليمن هو خطر القاعدة فحسب، وأنّهم لم يلمسوا بعد أي خطر للمتمردين الحوثين، كانت قوات عاصفة الحزم تدك مواقعهم في اليمن.

وللمرة الثالثة، وفيما تندفع إدارة أوباما لتعزيز علاقتها مع إيران، كانت المملكة العربية السعودية تحدث تغييراً هو الأكبر من نوعه في بنية النظام الدولي، من خلال الخروج عن قاعدة التحالف مع القوى الكبرى، وإنشاء تحالف عسكري-سياسي ذي طابع إسلامي خالص لمواجهة الإرهاب، يمتلك إجراءات عملياتية قائمة فعلياً على الأرض، وقوة عسكرية واقتصادية تشكل في مجملها محوراً دولياً يبدأ في التبلور، آخاذاً مكانه في النظام الدولي، عبر تحويله إلى مؤسسة دائمة ذات مقر وغرف عمليات، وما سينجم عنها بالطبع من مؤسسات سياسية ودبلوماسية وإعلامية، تخوّله التحول إلى حلفنا العربي–الإسلامي على غرار حلف الناتو.

ما زال هذا التحالف قيد الولادة، بمعنى أنّه ما زال قيد التحول إلى مؤسسات راسخة، وبناء تقاليد العمل السياسي والعسكري والدبلوماسي فيه، إلّا أنّه يأتي في لحظة دولية تتسم بشدة الأزمة فيها، حيث تستعصي الجهود الخارجية عن إيجاد حلول لإشكالياتنا، والتي هي في الأصل إشكاليات ناتجة عن طبيعة النظام الدولي وتداخلاته وتدخّلاته في منطقتنا. وعوضاً عن أن نكون ساحة للفعل الخارجي، فإنّ هذا الحلف الإسلامي سيغدو مؤهلاً لاتخاذ حالة المبادأة في الفعل تجاه جملة المخاطر التي نشهدها.

هذه المخاطر قد عرفها البيان الأول للحلف بـ 14 تنظيماً إرهابياً، تشمل تنظيمات جهادية، وأخرى شيعية، وثالثة قومية كردية، تشكل في مجملها أدوات تفتيت الدول العربية، ومحاولة لإعادة رسم الجغرافيا السياسية لمنطقتنا، بما يتواءم مع المنطق الأقلوي الذي بات مدعوماً خارجياً.

إنّ التحوّل إلى الفعل العسكري خارج الحدود يتطلّب في الأساس جملة عوامل قوة تمتلكها الدولة، وتؤهِّلها لمثل هذا الفعل، وخاصّة أنّ أيّ فعل عسكري خارجي سيتواجه حتماً مع مصالح دولٍ إقليمية أو دولية أخرى، قد تهدِّد بتحويل هذا الفعل إلى حرب بين أطراف دولية، وعليه تكون حسابات أي عمل عسكري أكثر توخياً لحجم المصالح والقوة التي يتمتّع بها أطرافه، وفق مقارنة عقلانية مصلحية. كما أنّ التحوّل إلى هذا النمط من السلوك العسكري (الخارجي) يعني تحويلاً لعناصر القوة التي تمتلكها دول التحالف إلى خارج حدودها لتعزيز مصالحها أو حماية أمنها، وإعلاناً عن ذاتها كلاعب عسكري في الساحة الدولية.

يتشكل هذا الحلف في لحظة الإعلان عنه من 35 دولة، و10 أخرى قيد ترتيباتها الخاصة للانضمام، وبما يضمّ قرابة 4.4 مليون جندي، مسندين بحجم تسليح يبلغ 6271 طائرة حربية، و1308 سفن وكاسحات ألغام وفرقاطات، و3831 نظاماُ صاروخياً، و19972 دبابة، 27 غواصة بحرية متعددة المهام.

وحيث تعتبر السعودية هي المنسق الرئيس لهذا الحلف ومقرّه، فإنه يضم عدداً من الدول ذات القوة الإقليمية الكبرى، كتركيا ومصر، إضافة إلى القوة النووية الإسلامية باكستان. كما يتملك الحلف عددا من الدول ذات الاقتصادات العالمية وعلى رأسها دول الخليج العربي، وماليزيا، بالإضافة إلى تركيا كذلك.

ومن الفوائد المرتقبة لهذا التحالف:

  • لعل أول فائدة مرجوة منه مباشرة، على المستوى المجتمعي، هو المساهمة في إزاحة نظام الأسد والميليشيات الإرهابية المرتبطة به، سعياً إلى إنهاء حالة الحرب، والبدء في عملية انتقال سياسي، يعيد السلام إلى سورية ومحيطها، وفق مقررات مؤتمر الرياض تحديداً.
  • كذلك، محاصرة إيران وأدواتها في المنطقة العربية، حيث إنّ كافة الدول الإسلامية المحيطة بإيران أصبحت عضواً في هذا الحلف، ولم يتبقّ لإيران مجال للمناورة سوى في العراق وسورية، على أن يتمّ الاشتغال على تطهير هاتين الدولتين من الاحتلال الإيراني في الخطوة اللاحقة. بل من الجدير التنبيه له، هو انضمام لبنان لهذا التحالف، الذي يستهدف فيما يستهدف، حزب الله اللبناني، بما يشكل حصاراً خانقاً على الحزب حتى داخل لبنان، إذ سيسند الحكومة اللبنانية في مواجهة هذا الحزب الإرهابي.
  • ومحاصرة تمدّد القاعدة، التي استعادت الكثير من زخمها عقب إخفاق الثورات العربية في إحداث انتقال ديمقراطي، ما أدّى إلى هشاشة أمنية كبيرة في كثير من الدول العربية، أتاحت للتنظيم التقاط أنفاسه وإيجاد بيئات حاضنة أو رخوة مكّنته من الانطلاق ثانية، وخاصة في العراق وسورية وليبيا.
  • إضافة إلى حلّ الأزمات الإقليمية بين دول المنطقة (قطر وتركيا من جهة ومصر والإمارات من جهة ثانية)، حيث تشهد المنطقة، ومنذ اندلاع الثورات العربية، أزمات سياسية، تعيق عملية التكامل الإقليمي، وتسمح للقوى الخارجية باستغلال هذه الازمات في ترسيخ مصالحها. ولعلّ هذا التحالف بضمّه هذه الدول، يُسهِم حتماً في تقريب وجهات النظر بينها، ويدفعها إلى اتخاذ مسارات جديدة في علاقتها.
  • كما يقطع الطريق على إيران في الدول الإسلامية في آسيا وإفريقيا: إذ شهدت بعض دول إفريقيا الإسلامية تمدداً إيرانياً مصلحياً بحجج التبشير المذهبي الشيعي، من خلال اختلاق أقليات مذهبية، تستخدم لاحقاً أدوات في ضرب الأمن العربي والإسلامي، ويأتي التحالف الإسلامي لإخراجها تماماً ونهائياً من هذه الدول.
  • وهو ما يعني امتلاك قدرة تفاوضية مع القوى الكبرى، وفرض الأجندات الإقليمية عليها: وخاصة بعد ترسيخ مؤسساته العسكرية والسياسية، وبما يتملك من مقومات اقتصادية كذلك. ولعلّ ذلك يؤهله لاحقاً للمطالبة بمقعد دائم باسم التحالف الإسلامي في مجلس الأمن، كما تسعى إلى ذلك كل من الهند والبرازيل وألمانيا واليابان.
  • كما يُسجَّل في هذا التحالف، نقلة نوعية وكبيرة في الدبلوماسية السعودية، ما يمنحها ثقيلاً كبيراً في أدواتها الخارجية، بما يتناسب مع حجمها الإقليمي والدولي.

ويتطلب هذا التحالف جملة من الآليات اللاحقة، لعلّ منها على سبيل المثال:

  • الإسراع في بناء مؤسساته واختيار ممثليه، وبناء المنظومة العملياتية له، وإصدار ميثاقه.
  • تعريف واضح للتهديد والعدو والإرهاب، ليشمل كل ما هو تهديد للأمن الاجتماعي للمواطن العربي والإسلامي، وليشمل الإرهاب الذي ترعاه الدول، وهنا تبدو إيران وإٍسرائيل ونظام الأسد جزءاً من العدو الواجب استهدافه من قبل التحالف الإسلامي.
  • إرفاقه بإجراءات اقتصادية على غرار حلف الناتو، بحيث يسهم في تعميق التقارب بين دول أعضائه.
  • التحضير لنشر قواعد عسكرية مشتركة في دول التحالف الرئيسة، وخاصة تلك القريبة من مناطق الصراعات.
  • دعم الصناعات العسكرية المحلية لدول التحالف، وهو ما يعزز استقلالية هذه الدول، واستقلالية التحالف ذاته.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق