الخليج العربي بين طريق الحرير الصيني واستراتيجية البحار الأربعة (1)

مدخل بانورامي:

تتزاحم المشاريع الاستراتيجية الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط بالمعنى الواسع للمفهوم والذي يضم دول النطاق الأوراسي وتحديداً دول حوض بحر قزوين، وتصل حدوده إلى الهند وباكستان شرقاً في تماس مع الصين القوة العالمية الصاعدة من الشرق الآسيوي، لتصبح المنطقة الممتدة من بكين حتى بحر قزوين موصولة بشكل وثيق مع منطقة الشرق الأدنى الممتدة على مساحة المشرق العربي من شرق المتوسط حتى بحر العرب.

تتشابك المنطقتين تاريخياً وجغرافياً واقتصادياً لدرجة تؤهلها لإحياء مشاريع ظن الكثيرون أنها نسج من الخيال أو اندثرت مع تطور الدول وتغير الخريطة السياسية العالمية وترسخ الأحلاف الدولية حتى بعد انتهاء الحرب الباردة.

لكن اليوم نقف على مشهد استراتيجي آيل إلى التشكل له أهميته ومساقطه التي غدت واقعاً على الأرض بفعل انتقال القوة وتوزعها من جديد على أسس مصلحية ترسمها القوى الإقليمية والدولية في إطار من المشاريع المتكاملة والمتنافسة في آن واحد، يلتقي بعضها عند نقاط مشتركة تتشابك فيها المصالح وتدعمها حقائق جغرافية قديمة قدم تشكل العالم القديم بقاراته الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا لكن بحضور أمريكي سياسي وعسكري كبير هذه المرة.

نلاحظ أن هذه المنطقة التي تضم المساحة الواقعة بين البحار الثلاثة (قزوين والمتوسط وبحر العرب) هي الأكثر تاثيراً في استراتيجيات في العالم والتي تختزن في ثناياها أهم الموارد الإقتصادية فضلاً عن المعابر البرية والمائية التي تشكل النسبة الأكبر من التنقلات التجارية العالمية وخطوط نقل النفط والغاز مشكلة بذلك عاملاً مضافاً إلى إمكانيات هذه المنطقة. ولكي تحكم القبضة على المنطقة الاوراسية كان لابد من ضم البحر الأسود لأي استراتيجية إقليمية-عالمية لتندرج روسيا الاتحادية (الدولة القارية الكبرى) في أي استراتيجية ذاتية لهذه المنطقة.

وتكثيفاً في توضيح الصورة كان لابد من التذكير والعودة إلى زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى روسيا عام 2008 إبان الحرب الجورجية-الروسية عندما قام بسابقة سياسية آنذاك لدعم الموقف الروسي تجاه الاكتساح العسكري الذي قامت به ضد جورجيا المحسوبة على المعسكر الغربي على خلفية أزمة أوسيتيا الجنوبية وأرفقها بمجموعة زيارات إلى دول أرمينيا وأذربيجان مسوقاً لاستراتيجيته الجديدة المسماة بـ (استراتيجية البحار الأربعة).

استراتيجية البحار الأربعة واستدعاء الصين:

تتلخص هذه الاستراتيجية التي أعلن عنها عام 2009 بتشكيل فضاء سياسي اقتصادي يشمل روسيا وإيران بالإضافة إلى تركيا شمالا ً والخليج العربي جنوباً وربط البنى التحتية للغاز والنفط مع بعضها البعض عبر شبكة أنابيب تشكل سوريا فيها بلد العبور الأهم مع المرافئ المطلة على المتوسط، وقد بدأها باتفاقية مع تركيا لربط خط الأنابيب العربي الذي يعبر إلى الأردن من مصر مروراً بسوريا نحو تركيا، كما أحيا الأسد الاتفاقيات مع العراق حول تشغيل خط كركوك بانياس وتوسيعه ليضخ 1,4 مليون برميل يومياً بدل 200 ألف برميل وهي القدرة التي كان عليها هذا الخط قبل توقف العمل فيه عام 1979.

بالمقابل كانت الصين تنخرط بقوة في منطقة قزوين مدفوعة بحاجتها المتعاظمة للطاقة في إطار استراتيجيتها الجديدة (طريق الحرير)، إذ تشير شبكة العلاقات الصينية تجاة منطقة الشرق الأوسط بوجود صيني ذي وزن من خلال الاتفاقيات الثنائية مع دول حوض بحر قزوين وتحديداً  كازاخستان وتركمانستان، من خلال مشروعين أساسيين للبنية التحتية وهما خط أنابيب النفط “كازاخستان – الصين” وخط أنابيب الغاز “تركمانستان – الصين” (والمعروف أيضاً باسم خط أنابيب الغاز “آسيا الوسطى–الصين”).

وعليه نجد أنه في الوقت الذي تبدأ فيه الصين تطوير استراتيجيتها (طريق الحرير) واضعة في اعتباراتها مواجهة النفوذ الغربي وسيطرته على مصادر الطاقة فإنها تنظر بشغف إلى سياسة سورية لمقابلة الصين عند بحر قزوين. فمنذ عام 2009 سوَّق الأسد لاستراتيجيته المسماة باستراتيجية البحار الأربعة لتحويل سورية إلى حلقة وصل تجارية بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط والخليج العربي وبحر قزوين، وذلك بضم متناقضات اعتقد إمكانية جمعها في هذه الاستراتيجية، وقد استطاع أن يسير فيها مع تركيا وإيران وأذربيجان. فلما كانت تركيا أهم مستثمر وشريك تجاري لسورية، بقيت إيران أحد أهم مرتكزات الأمن السوري وكان يمكن للثلاثي السوري التركي الإيراني أن يشكل نواة إقليمية يضم العراق والقوقاز في سلسلة متصلة جغرافياً تربط “البحار الأربعة”.

لم يكن ينقص سورية سوى أن تستدعي الصين وروسيا إلى استراتيجيتها وهذا ما دأب عليه الأسد في السنتين الأخيرتين من العقد الأول في الألفية الثالثة، فهي تنقل سوريا وإيران ودولاً مماثلة من كونها عوائق استراتيجية بالنسبة للغرب إلى أصول استراتيجية لا يمكن تجاوزها بالنسبة للصين وروسيا، وكان الأسد قد بدأ بتداول هذه الاستراتيجية بشكل جدي مع دول الخليج عبر قطر التي كانت متحمسة لهذا المشروع كما نقل عن وزير الخارجية السوري وليد المعلم في إحدى ندواته عام 2009 في جامعة دمشق[1].

من ناحية أخرى يبدو أن لدى الصين أهداف واسعة من خلال استراتيجية طريق الحرير فهي تسعى لربط مصالحها في آسيا الوسطى وتوطيد نفوذها السياسي لكي تصبح ذات هيمنة إقليمية من خلال إطار العمل السياسي لـ “منظمة شنغهاي للتعاون” (المنظمة)،كما يشكل ذلك جزءاً من مكونات إستراتيجية طريق الحرير الكلية التي تتبعها الصين لتنويع الاعتماد على الطاقة وبناء مسارات برية لتجنب عراقيل الإمداد البحري من الخليج.

ستسمح هذه الاستراتيجية بتدعيم “منظمة شنغهاي للتعاون” وتقويتها من أجل المشاركة والتعاون في مجال الطاقة والعمل مع روسيا على ضم تركمانستان وأفغانستان إلى “المنظمة”. وبما أن إيران هي مراقب في المنظمة سيؤدي ذلك إلى زيادة تشجيع التكامل من خلال مشاريع البنية التحتية وإمكان إحياء مشروع بناء خط أنابيب النفط المقترح من كازاخستان عبر تركمانستان وصولاً إلى إيران، في حال تم ذلك من خلال منظمة شنغهاي.

تلتقي هذه الاستراتيجية بالمنتصف مع استراتيجية البحار الأربعة التي سيكون لها تداعيات بالغة الأهمية فيما لو تم وصل طريق الحرير إلى دمشق لتكون نقطة ارتكاز حقيقية وسط البحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط، والخليج العربي (بحر العرب) وبحر قزوين، وبالتالي سترتبط استراتيجية طريق الحرير الصينية بسياسة سوريا النازعة شرقاً نحو منطقة بحر قزوين التي تعتبر مصدراً أساسياً لتغذية مشروعات خطوط أنابيب الغاز في كامل المنطقة.

إن تحالف إيران وتركيا وسوريا، سيشكل خطوة مبتكرة لإحياء هذه المنطقة وسيدفع بروسيا والصين لاتخاذ خطوات للإستفادة من “منظمة شنغهاي للتعاون” لبناء هيكل أمان إقليمي جديد يدعم استراتيجية كل منهما، والقيام في الوقت نفسه بالحد من التأثيرات الغربية.

إذاً تعمل الصين على زيادة وجودها في منطقة بحر قزوين من خلال “منظمة شنغهاي للتعاون” و”طريق الحرير” لخطوط الأنابيب والسكك الحديدية والطرق السريعة، في الوقت الذي تقوم فيه روسيا بزيادة حجم أسطولها في البحر الأسود بصورة مستمرة، بحصولها على موطئ قدم في البحر المتوسط عبر ميناء طرطوس السوري، وتشكيلها تحالف عسكري مع دول البحر الأسود (تركيا وأوكرانيا) والذي تم التوقيع عليه في آب/أغسطس 2010.

لعبة استراتيجية كبرى جديدة حول منطقة بحر قزوين والشرق الأوسط الكبير ستعيد تعريف المنطقة الأوراسية (قلب العالم) سعت عبرها مجمل دول الإقليم بناء إمكانات ذاتية خاصة لمواجهة النفوذ الغربي التقليدي المهيمين على مجمل إمكانيات المنطقة الجيوسياسية، فالصين تأمل خروج القوات الأمريكية من المنطقة لكي تتمكن من لعب دور في ملء فراغ القوة عن طريق “منظمة شنغهاي للتعاون” دون الدخول في أي تحدي كبير مع روسيا. مما قد يدفع بأمريكا إلى قبول الشراكة الصينية تحت ضغط انشغال أمريكا بملفاتها الداخلية وحصر الاستراتيجية الأمريكية العالمية بمكافحة الإرهاب والإنتشار النووي في عالم ما بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.

خريطة العلاقات الصينية في الشرق الأوسط:

توسعت استثمارات الطاقة الصينية على نطاق واسع إلى كل دول الشرق الاوسط تقريباً، ولا سيما في حوض بحر قزوين وصولاً إلى الخليج العربي وأطراف أخرى مثل تركيا واليونان. وباستعراض العلاقات الصينية مع الدول السابقة سنجد أن لإيران أهمية بالغة لدى الصين لأن لها حدوداً مع بحر قزوين والخليج العربي معاً، فهي تجد في إيران وسيلة لتحقيق توازن أمام دول الخليج العربي المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية دون أن يعني ذلك عدم مبادرة الصين لتمتين علاقاتها مع الدول العربية الخليجية وعلى رأسها السعودية التي  يتدفق أكثر من نصف نفطها حالياً إلى آسيا مقارنة بتلك المصدَّرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تمتلك شركة أرامكو السعودية مصفاة في مقاطعة تشينغداو في الصين وأخرى في مقاطعة فوجيان، في حين بدأت الشركات الصينية في الاستثمار في الصناعة والبنية التحتية السعودية. وفي الوقت نفسه يمكن اعتبار المملكة شريك الصين التجاري الأكبر في منطقة الشرق الأوسط.

أما بالنسبة للعراق، فقد زادت الصين بالفعل من حجم استثماراتها، وهي الآن أكبر مستثمر للنفط والغاز في تلك البلاد، حيث وقعت على عقود تطوير وخدمات طويلة المدى لحقول نفط الأحدب والرميلة وحلفاية وميسان إما بصورة مباشرة أو من خلال الشركات الأجنبية التي تم شراؤها مؤخراً.

وبالنظر إلى إنتاج النفط العراقي الذي ما يزال محدوداً والمشاكل الأمنية وعدم وجود قانون للنفط والغاز، فمن المتوقع أن تستمر الصين في الاعتماد بقوة على مموليها الكبار الحاليين وهم السعودية وأنغولا وإيران.

لا تتوقف الصين عن التمدد في الأراضي التي كانت تعتبر حتى وقت قريب حكراً على دول حلف الناتو في الشرق الأوسط، فتركيا التي تشرف حدودها على كل من البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط دخلت في معادلة التمدد الصيني إذ ارتفعت مستوى العلاقات الثنائية بين البلدين إلى درجة التعاون الاستراتيجي عندما زار رئيس الوزراء الصيني (وين جيابا) أنقرة في تشرين الأول/أكتوبر 2010، علماً أن تركيا هي عضو قديم في منظمة حلف شمال الاطلسي، وتستمتع بوحدة جمركية مع الاتحاد الأوروبي، وتشكل منفذ العبور الرئيسي لاثني عشر مشروعاً لخطوط الأنابيب متعددة الجنسيات.

لهذه الاستراتيجية الصينية تداعيات على المشهد الكلي للشرق الأوسط، خصوصاً عندما نأخد بالاعتبار التطورات التي استجدت على المنطقة العربية لا سيما بعد موجات التغيير العربي التي انفجرت عند العقدة السورية، كان لابد من أن نرصد المواقف المتباينة من القضية السورية لاسيما موقف الدول الإقليمية الكبرى بالإضافة إلى موقف الصين وروسيا المؤيد بشدة للنظام السوري، حيث فشلت الكثير من التحليلات والمقاربات في فهم طبيعة العلاقة الجيوستراتيجية التي كان يديرها النظام السوري على مستوى الشرق الأوسط، إذ سعت كل من الصين وروسيا في التفاعل مع المستجد السوري إلى المحافظة على الوضع الراهن قدر المستطاع، دون أن يكون التمسك الروسي بالنظام بحد ذاته بقدر ما كان يحققه هذا النظام من توظيفات للإمكانات الجيوسياسية للمنطقة العربية من الخليج العربي إلى بحر قزوين إلى البحر الأسود. وهذه ما سنضيء عليه في الحلقة القادمة من هذه الدراسة والتي سنحاول فيها استشراف مآلات مستقبل المنطقة وخصوصاً الخليج العربي في ضوء تشريح الاستراتيجية الصينية “طريق الحرير”، و الاستراتيجية السورية “البحار الأربعة”.

مازن محمود علي 

 نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث 

 

المراجع:

[1]– لقاء حضره الباحث في تشرين الثاني عام 2009 في قاعة رضا سعيد بجامعة دمشق ورد فيها شرح موجز عن استراتيجية البحار الأربعة.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق