الحقائق الإستراتيجية للبرنامج النووي الإيراني (2)

تعتزم جمهورية إيران الإسلامية دخول النادي النووي العالمي لتصبح القوة النووية العاشرة في على مستوى العالم، متحدية المجتمع الدولي ومقاومة للضغوط السياسية والدبلوماسية التي تمنعها من تخصيب اليورانيوم، رافضة تقديم تفسير شامل لأنشطتها النووية للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى جانب انتهاكها لعديدٍ من قرارات مجلس الأمن التي تطالبها بتعليق تخصيب اليورانيوم.

وفي دراسة قدمها كل من جيمس ليندساي “نائب رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي”، وراي تقية الباحث بمجلس العلاقات الخارجية والخبير في الشؤون الإيرانية، تحت عنوان “بعد امتلاك إيران لقنبلة نووية” وجد الكاتبان أن ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية لن تؤدي إلى ثني طهران عن طموحاتها النووية بل ستؤدي إلى تأخير برنامج إيران النووي لسنوات قليلة فقط، وستزيد من إصرار طهران على امتلاك الأسلحة النووية، مما يعزز الجدل الدائر في عواصم القرار الدولي حول الكيفية المثلى للتعاطي مع الملف النووي الإيراني، الذي يؤثر في منطقة حيوية واستراتيجية للعالم، إذ تعد منطقة الخليج العربي نواة استقطاب استثماري هائل بملاءات مالية ضخمة فضلاً عن كونها حجر الزاوية في أمن الطاقة العالمي الذي يجب الحفاظ عليه من أي تهديد دولي أو إقليمي يمكن أن يغير من التوازنات القلقة.

تتكشف الإستراتيجية الإيرانية عن أطماع إقليمية في الإستئثار بالمميزات الجيوبولتيكية التي تكتنزها منطقة الشرق الأوسط عموماً ومنطقة الخليج العربي على وجه الخصوص، وفي ظل غياب نظام إقليمي واضح المعالم ينضبط تحته اللاعبون الإقليميون تسعى إيران لأن تضاعف من عوامل القوة لديها بامتلاك التكنولوجيا النووية ضمن إطار برنامج عسكري نووي يرجح هذا التوازن لصالحها على عكس ما تدعي أن هذا البرنامج هو للأغراض السلمية وأغراض الطاقة وله تطبيقات صناعية وعلمية، هذا الإدعاء يتناقض مع المعلومات التي تفيد بوجود برامج نووية سرية، وارتفاع نسب تخصيب اليورانيوم عن المعدل المطلوب للتطبيقات العلمية الصناعية، وبمراجعة بانورامية لمسار قضية الملف النووي الإيراني يتوضح للمراقب عدم صحة هذا الإدعاء.

محاكمة النوايا الإيرانية:

في الأول من شهر آذار 2005، أعلن نائب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية (بيار غولد شميدت) أمام مجلس إدارة الوكالة أن إيران على موقفها في منع محققي الأمم المتحدة في مراقبة النشاطات في المواقع النووية الأساسية، وأن المواقع المشتبه فيها والإمكانات التي كانت إيران تعمل على حمايتها، هي المستلزمات التي تحتاج إليها من أجل صنع قنبلة نووية بالمقابل ما فتئت إيران تعلن أن برنامجها النووي مُعد أصلاً للأغراض السلمية، وتحديداً لإنتاج الطاقة وعن رغبة إيران في الإبقاء على النفط والغاز كمصدر رئيس للحصول على العملات الصعبة.

إن الحقيقة الثابتة في التقنية النووية هي أن جملة الخطوات المتبعة في التطبيقات الصناعية المتعلقة بالطاقة عن طريق البرامج النووية، هي نفسها جملة الخطوات المتبعة في إنتاج الأسلحة النووية، كما أن احتياجات البرامج السلمية هي نفسها احتياجات ومستلزمات البرامج العسكرية إن كان من ناحية المفاعلات أم من ناحية المواد المستخدمة في إنتاج اليورانيوم المخصب (العنصر الأساسي في صناعة الأسلحة النووية)، وبالتالي يمكن للمرء أن يدرك المفاعيل الحقيقية لأي برنامج نووي تحت أي مسمى كان سلمي أو عسكري .

هناك حقيقة أخرى متعلقة بالتقنية النووية مرتبطة بالعامل الزمني، حيث يُمكن تشبيه تقدم عملية التخصيب بعجلة تدور بشكل متسارع؛ تبدأ بخطوات بطيئة في المراحل الأولى من عملية التخصيب، لا تلبث أن تزداد وتيرة العمل حتى تصل إلى مراحل متقدمة يتم فيها التخصيب بنسب ودرجات أعلى وبزمن أقل.

هذه الحقائق المتعلقة بطبيعة التقنية النووية، تجعل الصورة أوضح في تقييم المشهد الاستراتيجي، وإلى أين يمكن أن يؤدي امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية. فإن ذهبنا مع الرأي الإيراني القائل بأن برنامجها هو سلمي المقصد، فإن ذلك لا ينفي إمكانية تحول هذه البرامج السلمية نفسها إلى برامج عسكرية بمجرد توافر النيّة لذلك. وعليه يمكن فهم رفض إيران للعروض المقدمة إليها بتخصيب اليورانبوم خارج أراضيها، فإيران تسعى للحصول على القدرات النووية بكليتها حتى لو لم تقوم بصنع القنبلة النووية حالياً، وتخصيب اليورانيوم على أراضيها يسمح بامتلاك القنبلة النووية في حال شعرت بتهديد إستراتيجي من أي قوة عظمى أو إقليمية محتملة في أقصر فترة زمنية.

إن تغييب النوايا الإيرانية الطامحة للحصول على السلاح النووي لا يستند إلى أي حقائق موضوعية، ليبقى الحديث عن فهم إيران لهذه الاستخدامات وإمكانية توظيفها في سياستها الخارجية والإقليمية فضلاً عن أنها تحقق لمالكها قوة الردع المطلوبة أمام أي تهديد مباشر.

محاذير دخول إيران النادي النووي:

يعدد جيمس ليندساي و راي تقية مجموعة من المخاطر الناجمة عن دخول إيران إلى النادي النووي، من أهمها:

تزايد جرأة طهران في القيام بمحاولات لتقويض جيرانها وتشجيع الإرهاب.

تصاعد احتمالية اندلاع حرب إقليمية تقليدية أو نووية في الشرق الأوسط. تطلع عديدٌ من دول المنطقة إلى أن تصبح قوى نووية.

إعادة ترتيب التوازن الديموغرافي في الشرق الأوسط.

تقويض الجهود المبذولة لوقف انتشار الأسلحة النووية.

ظهور “إيران نووية” قد ينظر إليه باعتباره هزيمة استراتيجية لدول الخليج وحليفهم الأمريكي.

إن السيناريو الخاص بدخول إيران إلى النادي النووي، يمكن تجنبه عن طريق منع إيران من امتلاك السلاح النووي، وفي هذا الإطار ينبغي على المجتمع الدولي إرسال رسائل واضحة لإيران تفيد بأن الحصول على قنبلة نووية لن يؤدي إلى تحقيق المزايا التي تتوقعها بل على العكس سيؤدي إلى عزلتها وإضعاف مكانتها.

إن احتواء “إيران النووية” ليس بالأمر اليسير، وسوف يتطلب “مهارة دبلوماسية كبيرة” و”إرادة سياسية” من جانب المجموعة الدولية، ومع ذلك قد يكون مصير سياسة الاحتواء الفشل وفي أفضل الأحوال يمكن أن تؤدي الطبيعة المبهمة لعملية صنع القرار في طهران إلى تعقيد الجهود الدولية لردعها.

ونتيجة للصعوبات التي قد تعترض سياسة الاحتواء سيكون من الأفضل منع إيران من التحول إلى قوة نووية ومتابعة الجهود المبذولة للحد من برنامج إيران النووي بقوة، كما يجب المحافظة على الضغوط الاقتصادية على طهران، وعدم استبعاد الخيارات العسكرية من على الطاولة.

المصالح والهوية كما تصوغها النخبة الحاكمة:

تتمتع إيران بخصوصية شديدة فهي دولة ثيوقراطية دينية تتبنى المبادئ الثورية مع الحفاظ في الوقت ذاته على مصالحها البرجماتية، ورغم أن طهران بعد مرور ثلاثة عقود على ثورتها مازالت تتبنى خطاباً أيديولوجيا يقوم على تقسيم العالم إلى “مستكبرين” ومستضعفين”- فإن الحتمية السياسية للبقاء في السلطة تضطر زعماء إيران التوجه نحو اتجاه مختلف. فقد كان على القادة الإيرانيين أن يديروا الاقتصاد الإيراني المنهك، ويلبوا مطالب السكان المتزايدة في البلاد ويعززوا مصالح بلادهم في منطقة مضطربة، مما اضطر رجال الدين إلى توقيع اتفاقات مع خصومهم وأعدائهم، والتخفيف من حدة خطابهم الأيديولوجي في أحيان كثيرة، بعبارة أخرى تطلب الاستمرار في الحكم من رجال الدين تقديم تنازلات غير مستساغة في كثير من الأحيان.

من ناحية أخرى ظهر برنامج إيران النووي ليس فقط باعتباره جانبًا مهمًّا في أداة ردع في إسترايجية البلاد الخارجية ولكن أيضًا كأحد العناصر المحددة لهوية إيران الوطنية التي تمنحها الهيبة والمكانة الدولية والإقليمية وترى النخبة الإيرانية الحاكمة في الأسلحة النووية وسيلة حاسمة لضمان التفوق الإيراني في المنطقة.

ما يترتب على امتلاك إيران للسلاح النووي:

رغم أن امتلاك إيران للسلاح النووي قد يؤدي إلى تقويتها، فإن ذلك سيكون أقل بكثير مما تتصور طهران ومن شأن دخول إيران إلى النادي النووي أن يشجع الأخيرة على أن تصبح أكثر عدوانية، حيث سيشعر الملالي أن بحيازتهم سلاحاً استراتيجياً من شأنه أن يعزز نفوذ بلادهم في المنطقة، وربما سيكونون أكثر جرأة في التحريض على قلاقل ضد جيرانها العرب في الخليج العربي وبالتالي سيتطور المنظور الإيراني لدورها في المنطقة كقائد للإقليم إذ أن امتلاك إيران للسلاح النووي قد يحفزها للعب عدة أدوار إقليمية تنتقل بين المدافع الإقليمي، والمستقل النشيط، ومركز انطلاق العمل الثوري، ولعل أوضح هذه الأدوار هو دور الحليف المخلّص، ويكون بتوليد القناعة لدى أطراف إقليمية بأن إيران يمكن أن تكون حليفاً نووياً في ظل غياب قوة إقليمية نووية حليفة. ولعل ما يشجع إيران على لعب هذا الدور افتقار الكثير من الأطراف الإقليمية دولاً وجماعات على الحليف الداعم والقوي والمستقل عن أجندات دولية وإقليمية لا تنسجم مع أجنداتهم الخاصة. وعليه يُصبح مفهموماً ذلك التحالف السوري الإيراني الذي قد وصل إلى درجة إستراتيجية بالإضافة إلى جماعات أخرى كحزب الله والجهاد الإسلامي . وبهذا يكون مردود التكنولوجيا النووية كبيراً جداً مع لغة التهديد والوعيد التي تمارسها ضدها الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع ذلك فإنه من غير المرجح أن يساعد حصول طهران على أسلحة نووية على تحقيق تلك الأهداف، فالأسلحة النووية- بحكم التعريف- لا يمكن لها أن تنجز إلا مجموعة محدودة من الأهداف، من قبيل توفير قوة الردع، ومن ثم لن تتعرض إيران للغزو مجددًا كما فعل صدام حسن ولن يكون بالإمكان عزل قادتها. لكن “توفير الأمن للنظام” و”استعراض القوة” هما أمران مختلفان تماماً. “فمن الصعب أن نتخيل رضوخ الأنظمة العربية في منطقة الخليج للدولة الناهضة، سواء أكانت نووية أم لا، بل إن دول الخليج العربي قد تلجأ إلى مزيد من امتلاك عناصر القوة.

ومن المفارقات أن السلاح النووي الذي كان الهدف من تطويره هو ضمان تفوق إيران الإقليمية، يمكن أن يفاقم عزلة إيران بين جيرانها، وأن يطيل أمد وجود القوات الأمريكية في المنطقة المحيطة بها. بعبارة أخرى، من الممكن أن يؤدي حصول إيران على قنبلة نووية إلى إحباط طموحاتها النووية. وقد يجد “حراس الثيوقراطية” أن القنابل النووية هي ببساطة ليست وسيلة جيدة للضغط الدبلوماسي أو تعظيم المكاسب الاستراتيجية.

مازن محمود علي

نقلا عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق