الحرب التركية المستبعدة

اعتاد النظام السوري طيلة العقود الأربع الماضية تصدير أزماته الداخلية إلى محيطه الإقليمي، ليعيد تشكيل وعي غريزي حول مؤامرة تستهدف الدولة والنظام والشعب، وخاصة عندما يكون أمام استحقاقات داخلية كبرى، غير قادر أو راغب بإنجازها.

ولعل أبرز الأمثلة القائمة على ذلك قبل اندلاع الثورة السورية، هو تحميل الخارج (الأمريكي) منذ غزو العراق مسؤولية إعاقة مخطط التطوير والتحديث، وبالتالي إيقاف المشروع الذي طرحه الأسد الابن بعد وراثته الحكم عام 2000، والتحول عنه إلى خطاب مقاوماتي يحشد الرأي الداخلي خلف الأسد وحزب الله، مستغلاً الانتماء القومي لدى المواطن السوري لتعزيز السلطة الدكتاتورية. وهو ما برع فيه الأسد الأب منذ انقلابه عام 1970.

وعلى ذلك سارت آلية العمل السياسي والإعلامي لدى النظام طيلة أشهر الثورة، بتحميل الخارج مسؤولية ما يحصل في الداخل السوري. دون أن يدرك أن مشروعية هذا الخطاب لدى الشارع السوري قد انهارت تماما منذ أول رصاصة أطلقت في درعا.

وحيث أن الاستبداد هو عقلية لا تدرك الأبعاد التاريخية، استمر الخطاب الأسدي على ما هو عليه، بل ما حصل من اعتداء عسكري على السيادة التركية عدة مرات، كان نوعا من جرّ الخارج للتدخل في الشأن السوري، في محاولة أخيرة لحشد ما تبقى من مناصريه، عبر محاولة جرّ تركيا لشن حرب على سورية.

هو فخ يحاول النظام به تصدير أزمته مع الشعب السوري، إلى محيطه الإقليمي، بل والكوني كما يحلو له أن يطلق عليه، معتقدا أنه بهكذا حرب إنما هو قادر على توسيع سلطته العسكرية في البلاد وإعادة ضبط مسار الأحداث والعودة بها إلى ما قبل 2011.

في المقابل فإن فكرة تصدي تركيا منفردة لحرب مع ما تبقى من النظام السوري، ودون معونة عسكرية كبرى من حلف الناتو وعلى رأسه الولايات المتحدة تحديدا، قد تودي بأردوغان ونظامه إلى السقوط قريباً، حتى لو حققت نتائج عسكرية لصالح تركيا، فالكلفة الاقتصادية لهكذا حرب ستضرب النهضة الاقتصادية التي تشهدها تركيا في الأعوام الأخيرة، وستعيق عملية النمو الاقتصادي لسنوات، وخاصة أنها دولة غير نفطية، إلا إذا تبرع الغرب أو دول عربية بكلفة الحرب مع تعويضات تقنع تركيا بشن الحرب.

في وقت يعاني فيه الغرب من ضائقة مالية تهدد كيانه الوحدوي، وتشهد الولايات المتحدة سباقا رئاسيا لم يحسم بعد، وتتردد دول عربية عدة تجاه فكرة التصعيد العسكري في سورية.كما يجب الأخذ في الحسبان ردود الفعل الروسية والإيرانية والميليشياوية التابعة لها.

إلا أن حكومة أردوغان مضطرة في ذات الوقت للرد على الاعتداءات التي تطال سيادتها بين الفينة والأخرى من جانب النظام السوري، حتى تثبت للداخل التركي قوة الحزب الحاكم وصرامته في التصدي لأي اعتداء على السيادة التركية.

فبين الخشية على الاقتصاد التركي والخشية على سمعة الحزب ومستقبله السياسي، والخشية على السيادة والطموح التركيين، فإن الرد التركي قد يتجلى عبر ضربات من خلف الحدود لمراكز أمنية وعسكرية للنظام السوري لا أكثر، في حال استمرار المواقف الدولية والعربية على ما هي عليه اليوم.

وإن كان النظام السوري قد قدم اعتذاراً للحكومة التركية بأوامر روسية، لا يعني أن النظام سيتراجع أمام أي تهديد تركي بحرب معه، فالتراجع الكائن عام 1998 كان خشية من تدهور الوضع الداخلي يفقد الأسد الأب سلطته على الشارع السوري، فحينها كانت تسير البلاد وفقا لاستبداديته. أما اليوم، فإن النظام يستدعي التدخل الخارجي أولا، كما أنه لم يعد يملك فعليا ما يخسره، ويعلم تماما أن أي تدخل هو لإزاحة رأس الهرم تحديدا أي الأسد الابن، وعليه فإنه في حال حدوث هذا التدخل وهو مستبعد في القريب العاجل، فإن الآلة العسكرية الأسدية وقد يكون بالتعاون مع حلفائها ستعمل على جبهتين خارجية وداخلية، مع تفضيلها لضبط الجبهة الداخلية، وإن خسرت جزءا من الأراضي، فباعتقادها أنها ستعيد ضبط الجزء الآخر، وتعيد إنتاج خطاب المقاومة على أية جبهة محتلة جديدة.

ووفقا لتركيبة النظام الامنية الاستبدادية، فإن آليات عمله وتفكيره السياسي ما تزال مورثة عن آليات الحرب الباردة، معتقدا أن روسيا قطب دولي قادر على فرض أجنداته السياسية على المستوى الدولي. إلا أنه يدرك في ذات الوقت صعوبة التدخل العسكري الدولي في هذه الآونة. حيث تعتبر أية محاولة للتدخل العسكري الدولي في سورية، عملية معقدة، قد تتطلب إعدادا شبيها بذاك الذي تم عام 1990 تجاه العراق، أي قوات عسكرية غربية، وتمويل خليجي، وموافقات من دول الجوار وتحديدا الأردن وتركيا بالإضافة إلى شرعية عربية تضيفها مصر تحديداً. ورشوة سياسية اقتصادية لروسيا، وبالتأكيد تطمينات غربية للكيان الإسرائيلي، بأن نتائج هذا التدخل لن تؤثر سلبيا على الكيان.

وعليه يظل دعم الجيش الحر بشكل حقيقي، وإمداده بالسلاح اللازم أضمن لكل الأطراف، ومانعا لاندلاع حرب إقليمية لا ترغب بها القوى الكبرى من جهة، وضامنا لوجود سلطة محلية تعيد ترتيب الوضع الداخلي بدلا من انفلات فوضوي شبيه بالحالة العراقية بعيد الاحتلال الأمريكي.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن صحيفة القدس العربي

الوسم : تركياسورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق