الجزائر واحتضار الطغيان

لم تكن الجزائر أفضلاً حالاً من دول الربيع العربي، وخاصة جارتيها تونس وليبيا، سواء على صعيد المؤشرات السياسية المشكلة للوعي المجتمعي، أو على مستوى المؤشرات التنموية الاقتصادية والاجتماعية الدافعة للحراك المجتمعي. وعليه لم يكن شعب الجزائر أقل معاناة أو وعياً من نظرائه في دول الربيع العربي، بل لربما يتفوق الوعي المجتمعي فيها على بعض مثيلاتها.

غير أن السكون الذي رافق هذه الجمهورية الملكية (الجملكية)، كان بدلالاته الواضحة فعلاً إرادياً معاكساً تماماً للمسار الثوري الذي اشتعل في غير بيئة عربية، وهو ناجم بالأساس عن متغير تفتقده تلك البيئات، وهو حداثة عهد الجزائر بحرب أهلية ناجمة عن محاولة تحول ديمقراطي، أرهقت البلاد لعقد كامل، قبل أن تلتقط أنفاسها في مواجهة موجات التحول الديمقراطي العربي.

أي كان لهذا المتغير أثر مستقل في تحديد توجهات الشعب الجزائر، والمشهور بنضالاته الكبرى على مر التاريخ، وهو ما أعاق عملية التأثر والتأثير المتبادلة مع المحيط الثوري. فلم يكفهم استبداد بوتفليقه ونظامه، ولا تسلطه على الدولة ومقدراتها، ولا إعاقة الحياة السياسية والمجتمعية في ظل فساد يتسارع نحو قيم أكثر سلبية.

غير أن ذلك لا يعني قراءة التاريخ من منطق نهايته بحدث معاصر، فالتاريخ مستمر التغيير رغماً عن محاولات نظم الطغيان إعاقته مؤقتاً، فالجزائر بحاجة إلى مولِّد آخر للفعل الاحتجاجي/الثوري، غير الذي ولَّدها في البيئات المشابهة، ولربما يعمل إصرار بوتفليقة على الحضور المأساوي والكوميدي معاً، للإدلاء بصوته، على مقعد متحرك وهو بالكاد يلفظ أنفاسه، على بداية تشكل وعي احتجاجي/ثوري في حال نجاحه المرتقب، لولاية طغيانية رابعة.

أو لربما ينتظر الجزائريون، كغيرهم من العرب الذي يرضخون تحت ذات الظروف المولدة للثورات، حتى تنجلي الاضطرابات الحتمية عن الموجة الديمقراطية الثورية العربية الأولى، وتتوضح معالم الموجة الثانية الأكثر سلمية من سابقتها، لبدء عملية انتقال أكثر سلاسة من مثيلاتها.

وخاصة أن نظام بوتفليقة لم يعمد إلى الاستفادة من السكون المؤقت للشارع الجزائري، ولم يستفد من التجربة المغربية في التجاوب على مراحل مع التحركات الشعبية. بل عمد على العكس من ذلك، إلى تكريس نظام بشكل أكثر طغياناً عبر المشهد المأساوي الكوميدي من جهة، وعبر استفزازه لمشاعر الشعوب العربية المتعاطفة مع بعضها، من خلال دعم مفتوح للنظم الاستبدادية، وخاصة لنظام الأسد، في عملية إبادة الشعب السوري.

ليست الثورة ببعيدة عن الجزائر، سواء أكانت فعلاً لاحقاً لرحيل بوتفليقة، وعلى شكل انتقال سياسي سلمي واعٍ، أو سابقة لذلك. لكن الأهم، أن الانتقال الديمقراطي في المجال العربي، لم يعد حالة مؤقتة، بل يُعمَل على تأصيله، وإن كان من المبكر حصد نتائجه. فهذا الفعل ذو أمد طويل، يتشكل عبر موجات وموجات ارتدادية مضادة له، كالتي حصلت في مصر وتستمر فيها مؤقتاً، وهو فعل مؤثر ومتأثر بالمحيط الثوري والسكوني معاً.

إن عملية التحبيط المتعمدة التي تسعى جهات بعينها لنشرها في المجتمعات العربية، هي جزء من تلك الموجات الارتدادية المضادة، سواء من أنظمة تخشى من انتقال الفعل الاحتجاجي/الثوري إلى واقعها السكوني، أو من بقايا أنظمة قد سقطت، أو حتى نتاج صراع بين القوى السياسية التقليدية والثورية الأكثر منها حداثة ووعياً بالواقع السياسي.

  

 عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : الجزائر

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق