الثوار يمزقون خطط إيران في العراق

عندما حرر ثوار العشائر العربية نصف مساحة العراق الإجمالية في غضون أيام قليلة، وألحقوا هزيمة ميدانية كاسحة بقوات وميليشيات المالكي الطائفية، ومع ثبات تقدمهم نحو العاصمة بغداد من عدة جبهات، كانت هذه الوقائع السريعة فاجعة هزت النظام الإيراني وأربكت مخططات مشروعه الصفوي، فسارع بدوره بإعادة الحسابات ورسم الخطط المستجدة بغية إرجاع عقارب الساعة إلى ما قبل 10 حزيران/يونيو 2014، وذلك بالقضاء على الثوار ومعهم المجالس العسكرية وفصائل المقاومة؛ وإخماد لهيب الثورة الشعبية المتصاعد ضد الظلم والطغيان.

ومن هنا تكررت زيارات قاسم سليماني، رئيس الحرس الثوري الإيراني، المتلاحقة إلى بغداد لدعم المالكي؛ حيث وضع الخطط العسكرية لحماية بغداد أولاً، وزج ببعض قواته للقتال ثانياً، وأجاز للميليشيات سلطات قمعية ثالثاً، وأدار بعض المعارك رابعاً. ولقد ساعده في ذلك الفتوى التي أصدرها مرجع الشيعة الأعلى علي السيستاني المتعلقة في “الجهاد الكفائي” أو الجزئي المختص في المرحلة الراهنة والذي يمكن أن يتوسع بحسب المقتضيات الظرفية، وحينها ألمح المالكي إلى أن هذه الفتوى قد أنقذته!

ورغم هذا فإن جميع الخطط العسكرية التي وضعها سليماني قد مزق الثوار أوراقها بصدهم القوي للهجمات من ناحية، وقتالهم الشرس في تنفيذ معاركهم الهجومية من ناحية أخرى. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، في غضون ست أسابيع شنت قوات وميليشيات المالكي أكثر من 50 هجوماً على مدينة تكريت مركز محافظة صلاح الدين، باءت كلها بالفشل الذريع وبالخسائر المرعبة بالأرواح والمعدات. وكانت أغلب تلك الهجومات تأتي من عدة محاور وبأرتال طويلة من الدبابات والمدرعات والآليات، بعد قصف جوي ومدفعي وصاروخي. ومن أسباب التركيز الشديد على تكريت نورد منها:

أولاَ: أن تكريت هي مدينة الرئيس صدام حسين الذي أنتصر على الخميني في حرب الثمان سنوات (1980-1988)، والأخير أعترف بأنه “تجرع السم” جراء الهزيمة. كما وإن تكريت هي نفسها مدينة القائد صلاح الدين الأيوبي الذي أنتصر على الصليبيين في معركة “حطين” عام 583 ه/1187 م.

ثانياً: أن قبر صدام حسين في تكريت صار رمزاً يقصده الوطنيين والقوميين من الإصلاء العراقيين، ورغم أن القبر لم يسلم من القصف الجوي، لكن إخضاع تكريت لحكومة بغداد الموالية لطهران، يعني كبح التذكير بمجد الماضي القريب.

ثالثاً: يحاول المالكي وبإسناد إيراني علني أن يحقق نصراً ميدانياً يمنح جيشه المنهار دفعة حيوية سيما إذا كان هذا النصر في تكريت معقل قادة الجيش الوطني السابق الذين يقودون الثوار في معاركهم.

وبما أن تكريت ما زالت عصية على الطائفيين من الحرس الثوري الإيراني وقوات وميليشيات المالكي، ويكبد ثوارها المزيد من الخسائر والإندحار في صفوف الأعداء المهاجمين، وإن الثوار مستمرون في إحراز تقدمهم المناطقي صوب بغداد، حيث تم تحرير جرف الصخر في شمال محافظة بابل بعد معارك ضارية، ومن تحرير اليوسفية إلى حصار اللطيفية والإتجاه نحو المحمودية جنوب العاصمة، ثم وصول الثوار إلى صدر اليوسفية والرضوانية المحاذيتين إلى مطار بغداد الدولي، وإستمرار الثوار بالإمساك لمناطق أبو غريب في غربي بغداد. وربما لهذه الأسباب أو غيرها قررت القيادة الإيرانية نقل ملف العراق من يد قاسم سليماني إلى يد علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي زار بغداد وإلتقى بالمالكي في 18-7-2014.

وأمام هذا الوضع الميداني الذي يحققه الثوار، فإن قوات المالكي الجوية والمدفعية والصاروخية لم تنقطع يوماً من صب جام حممها النارية على سكان المناطق المدنيين الآمنين، وحتى على المراكز الطبية والتموينية. ونستعرض هنا ما أكدته الصحفية الأمريكية أليسا روبين مراسلة صحيفة نيويورك تايمز في بغداد، حيث أشارت في تقريرها المنشور في 3-7-2014 ما يلي:

أن القوات الحكومية تشن حملة قصف مدفعي واسعة مصحوبة بعمليات قصف جوي تقوم بها طائرات سمتية على مدينة تكريت مما تسبب بنزوح قرابة 95% من سكانها. وأضافت نقلاً عن عدد من أهالي المدينة أن تكريت باتت خالية ولم يبق فيها إلا الفقراء وكبار السن غير القادرين على الحركة، حيث أنتقل معظم الأهالي إلى أطراف المدينة هرباً من القصف الجوي والمدفعي. وقالت المراسلة بأن الخبراء الأمريكيين نصحوا القوات الحكومية بألا يدخلوا في قتال داخل المدينة، ويبدو أن هذه القوات واثقة من قدرتها على حسم الأمور لصالحها. علِماً أن القصف المدفعي لا يفرق بين دائرة حكومية أو دار سكنية، وأن القوات الحكومية تقصف أي مكان تعتقد أن المتمردين يتواجدون فيه. وقالت الصحفية أيضاً أن: المتمردين ربما غادروا مركز المدينة وإنتقلوا إلى أطرافها بعد أن زرعوا الألغام في كل مكان.

على أي حال، فمن الواضح أن من بين الخطط الإيرانية الجارية الآن على سوح الميادين والجبهات، هو الإعتماد على زج أكبر كمية من الكتل البشرية في القتال. إذ حسب التصور الإيراني أن نسبة المقاتلين السُّنة أقل عدداً من المقاتلين الشيعة (عراقيين وإيرانيين)، وبما أن أراضي الثوار شاسعة وكبيرة تجاور أربعة دول، لذا فإن الإستمرار بضخ أعداد هائلة في مقاتلتهم، ستضعفهم تدريجياً وتتراخى قبضتهم بالسيطرة على مناطقهم الواسعة. ولكن هذه الخطة فاشلة حتى وإن طالت أيامها وللأسباب التالية:

أولاً: أن إيران تستنسخ صورة قديمة من صور الحرب الثمان سنوات ضد العراق والتي إنتهت بهزيمتها المريرة، وخسارتها البشرية المضاعفة كثيراً عن عدد الشهداء العراقيين. وإذا كانت “مفاتيح الجنة” التي وزعها الخميني وقتذاك إلى المقاتلين الإيرانيين قد ساعدت على إطالة أمد الحرب دونما أن تتغير النتائج الإنكسارية للجيش الإيراني، فإن الوضع الداخلي الإيراني الحالي لا يتحمل هكذا إطالة؛ وخصوصاً على الصعيدين السياسي والإقتصادي، فالشعوب والقوميات داخل إيران تغلي جراء الإضطهاد السلطوي، ونسبة البطالة والفقر والتضخم ترتفع لتردي الأوضاع المادية.

ثانياً: إن الزج البشري الطائفي الذي تعول عليه إيران في العراق، قد ثبت فشله منذ الوهلة الأولى. فعندما أفتى السيستاني بالجهاد الكفائي، كانت الحسابات الإيرانية ستكون الإستجابة فورية وبحدود 3 ملايين مقاتل أعمارهم ما بين 17 إلى 45 سنة، ولكن الذين تطوعوا لم تتجاوز نسبتهم 5% من ذلك المجموع المتوقع. مما يعني رفض غالبية العرب الشيعة من الإنجرار خلف فتوى دحضها المرجع العراقي العربي الشيعي سماحة السيد محمود الصرخي الحسني والذي تعرض هو شخصياً وكذلك أتباعه وأنصارة إلى حملة قتل شعواء.

ثالثاً: من أجل تحشيد أكبر كمية من المقاتلين يتجه إعلام المالكي وقواته إلى إتباع ما يلي:

أ- سياسة الكذب والمواربة في قلب الحقائق الميدانية لصالح الجيش المنهار نفسياً ومعنوياً، فقد كتب الصحفي الأمريكي رود نوردلاند تحقيقاً منشوراً في صحيفة نيويورك تايمز في 14-7-2014 جاء فيه: أن قاسم عطا، الناطق العسكري الرسمي للسيد نوري المالكي، والذي بات يُعرف في العراق بأسم “كذاب بغداد”، نظراً للمؤتمرات الصحفية التي يعقدها حيث يعلن عن أنتصارات مزعومة على الجهاديين في مناطق محددة مؤكداً بأن هذه المواقع قد سقطت بأيدي القوات الحكومية في حين يعلم الجميع أن المناطق المذكورة لا زالت في أيدي الجهاديين.

ب- مراوغة القادة العسكريين بحق المتطوعين الذين هربوا من معسكراتهم التدريبية، كما في التاجي وأبو غريب على سبيل المثال. فقد شهد معسكر التاجي بتاريخ 3-7-2014 ثاني حالة عصيان، وقال مصدرعسكري: أن “المتطوعين رفضوا الصعود في ناقلات الجند عند الساعة السابعة صباحاً بعدما علموا أن وجهتهم إلى الفلوجة، متذرعين بأنهم تطوعوا بناءً على فتوى السيستاني لحماية المراقد المقدسة والمُدن الشيعية، وهو ما خلق فوضى داخل المعسكر إضطرت قيادة الجيش إلى نقلهم إلى محافظة بابل التي تشهد هى الأخرى معارك مستمرة منذ نحو أسبوع في المناطق الشمالية من المحافظة”. وفي 22-7-2014 تكرر نفس الأمر في مركز تدريب المتطوعين بأبي غريب. بل شملت حالات الهروب أعداداً كثيرة من المراتب والضباط في العديد من المعسكرات والقواطع والوحدات، وعلى إثر ذلك جرى التشديد على إجازات الضباط والمراتب.

ت- التعبأة على أساس عقائدي، أو الجيش الرديف حسب تسمية المالكي، حيث ظن الطائفيون بهذا الفعل يستطيعون أن يجندوا خلقاً كثيراً في قتال الثوار (السّنة)، إلا أن ردة الفعل كانت مخيبة لهم ولمخططهم، لأن أبناء الجنوب والوسط يعلمون تمام العِلم بأنها ثورة مظلومين ضد الجور والإستبداد والتعسف الذي طال جميع العراقيين دون أستثناء.

رابعاً: أن الإنتشار الإيراني داخل البنية العسكرية والأمنية لجيش وشرطة المالكي، صار معلوماً لدى الغربيين أنفسهم، فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز في 13-7-2014 تاكيداً لمسؤولين أمريكيين بأن مسودة دراسة سرية تقع في 120 صفحة، أستغرق أعدادها أسبوعين كاملين وتم أرسالها إلى وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيغل حول إرسال 200 جندي أمريكي بالإضافة إلى ست مروحيات عسكرية نوع أباتشي وطائرات درونز الإستطلاعية، تضمنت تقييماً لأداء القوات العراقية خلصت إلى عدة نتائج من جملتها: أن العديد من الوحدات العسكرية العراقية مخترقة بشكل كبير إما من قِبل مخبرين متطرفين من السّنة أو من جانب آخرين من الشيعة ممن يحظون بدعم من إيران إلى الحد الذي صار فيه ضمان الحفاظ على سلامة الأمريكيين في مهمتهم لتقديم المشورة لقوات بغداد معرضة للخطر. وأكد التقرير بأن نحو نصف القوات العراقية فقط مؤهلة لتلقي مشورة الخبراء الأمريكيين إذا ما قرر البيت الأبيض المساعدة في وقف التقدم الذي أحرزته الفصائل السّنية في شمال وغرب العراق خلال شهر حزيران/يونيو المنصرم. كما وأشار التقرير إلى أن قوات المالكي تعتمد حالياً إلى حد كبير على الميليشيات الشيعية، التي تم تدريب العديد من أفرادها في إيران، فضلاً عن وجود مستشارين إيرانيين من قوات فيلق القدس الإيراني بين قوات المالكي.

ولكن لا يحسب الجانب الإيراني أن هكذا إنتشار في مفاصل الهيكلية العسكرية والأمنية داخل قوات المالكي ستشكل صمام أمان بالسيطرة والتوجيه حيث يشاء النظام الإيراني. فإنهيار ست فِرق عسكرية بكامل تشكيلاتها القتالية أمام ثوار العشائر، وبفترة زمنية قصيرة لا تتناسب وحجم القوتين المتقابلتين، فإن له مدلولات كثيرة يتوجب دراسة أسبابها، وأستخلاص نتائجها، بدلاً من إتباع سياسية الهروب إلى الأمام بالتصعيد القتالي الذي لن تجني منه إيران مستقبلاً غير خسارة أكيدة وهزيمة حتمية تنتظرها كما جرى لها سابقاً وإلى المحتل الأمريكي لاحقاً.

وعليه فأن الدعم العسكري المتواصل والتدخل القتالي المستمر من جانب النظام الإيراني بإسناد قوات وميليشيات المالكي الطائفية بمواجهة ثوار العشائر العربية في العراق سوف لن يحقق المراد المطلوب للنظام الحاكم في إيران. وأن المراهنة الإيرانية بالزج العددي البشري للمقاتلين، وتأجيج الشحن الطائفي الدموي تحت شعار: “شيعة علي هم الغالبون”، قد أثبت ثوار العشائر قدرتهم في التصدي لهذه الخطط والمخططات الإيرانية، وبالتالي لم يتحقق شيئاً للقيادة الإيرانية داخل العراق ولو بالنزر اليسير على مدى الشهرين الماضيين تقريباً؛ فما بالك وثوار العراق يقاتلون على أرضهم وتحت سمائهم وبين حواضنهم، فهل ستبقى لإيران الأوراق الكافية لملء مستجدات خططها أم سيمزقها الثوار وينثرونها على أرض الرافدين؟

 د. عماد الدين الجبوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق