التوظيف الديني في تفتيت المشرق العربي: الخلافة السنية والشيعية

منذ أن انفلت الأحداث في المنطقة العربية مطلع عام 2011، لم يعد بالإمكان السيطرة على تداعياتها، حتى من قبل القوى المتحكمة بأطراف النزاعات الناشئة، أو من قبل تلك الأطراف ذاتها، وما عاد بالإمكان العودة إلى نقطة الصفر التي اندلعت منها الثورات العربية. فانفلات الحدث المشرقي، اكتسى منذ بدايته بطابع الديمومة والتصاعد في المستقبل القريب، تاركاً تداعياته الكارثية على المديين المتوسط والبعيد.

ويبدو أن تصاعد هذا الحدث غدا أكثر حدة، سنة عن أخرى، لتزداد وتيرته عام 2014، وتحديداً منذ الامتدادات الثورية إلى العراق، والذي أتى ضمن سياق إقليمي يشتد توتراً ومَحوَرَةً هو الآخر، تبرز فيه قوى عسكرية توسعية (إيران، إسرائيل)، وقوى سياسية ما زالت حتى الآن في طور الضبط العسكري لذاتها (تركيا، السعودية)، دون أن يعني ذلك إلغاء احتمالية انخراطها فيما يجري قريباً.

ولعل أبرز التداعيات التي نشأت خلال الأيام الماضية، انهيار المفهوم الجغرافي للمشرق العربي (العراق، سورية، لبنان، فلسطين، الأردن)، أو ما يعرف بحدود سايكس بيكو، بالاستعاضة عنها بسبع دول في هذه المنطقة، وتدل المؤشرات على احتمالية ارتفاع عددها في الفترات القادمة إلى أكثر من ذلك. إذ كنّا قد نوهنا في مقال سابق، عن التداعيات المتسارعة لإعلان الأكراد نيتهم في الاستقلال عن العراق، وهو ما تلاه مباشرة، إعلان تنظيم داعش قيام (الدولة الإسلامية) متجاوزة الحدود المشرقية لتمتد من ريف حلب الشرقي إلى محافظة ديالى العراقية. ولتشكل دولة كردستان المنتظرة حدوداً شمالية شرقية لها، رافعة شعاراً رئيساً لها (باقية وتتمدد)، وهو فعلاً ما أثبتته طيلة الأشهر الماضية، وما يدل على نيتها للتوسع نحو مزيد من الأراضي.

دلالة الحدث ليست جغرافية مجردة، فهي تأتي ضمن ذات السياق التفتيتي القائم في المنطقة، منذ أن تسربت مخططات غربية لإعادة هيكلة الشرق الأوسط بأسره، وتأتي ضمن ذات السياق الصراعي على امتلاك الأرض والنفوذ والموارد في مواجهة الآخر (بغض النظر عن انتماءاته)، وتأتي ضمن سياق أيديولوجي بات المتحكم الرئيس في الصراعات المستمرة.

ويأتي إعلان الخلافة على هذه البقعة، تأكيداً للجهود التنظيمية التي تتسع لدى مقاتلي داعش، ونيتهم الدفاع عن “دولتهم” الناشئة، مستندين في ذلك إلى كم هائل من الموروث الديني، عبر إسقاط هذا الموروث على ذواتهم، باعتبارهم حركة دينية تدفع الظلم وتهيأ المنطقة والعالم لظهور المهدي، عبر استعجال الحدث من خلال فهم مشوه للإسلام أولاً، وللموروث الديني أساساً، بل ويتم إنزال المرويات قهراً على شخصيات محددة تقود التنظيم باعتبارها المقصودة في الحديث النبوي، التي يقع بعضها في خانة “المكذوب”.

في المقابل، فإن ذات الموروث المستند إليه، يؤكد استمرارية الوضع القائم لسنوات طويلة، ويشير إليهم باعتبارهم جزءاً من فتنة قاتلها ومقتولها في النار، وأن لا استقرار ولا رفع جور بهم، وأنهم سيتدافعون فيما بينهم قتالاً لاكتساب موارد المنطقة، بل إنهم جزء من البغي والظلم المندلع في المنطقة، والمطلوب رفعه في نهاية الزمان. ويبدأ ظلمهم وطغيانهم باعتبار خليفتهم (مجهول الهوية) خليفة على كل المسلمين، ومبايعته لزام على الجميع، وإلا عُدَّ خارجاً عن الجامعة واستبيح دمه.

هذا لناحية فهمهم للموروث الديني، أما لناحية التطبيق، فتم اقتباس أصول الفكر الصهيوني، الذي تجاوز أحبار اليهود، باستعجال إنشاء الدولة الموعودة (إسرائيل) في فلسطين قهراً، واستيراد يهود العالم إليها، تمهيداً لمسيحهم المخلص. ومن ثم تحويلها إلى بؤرة طغيان تستعبد المنطقة بأسرها، خدمة لمشاريع سياسية في الأساس، تم تغليفها بالدعاوى الدينية.

ذات التوظيف بالتمام، ينساق شرقاً نحو إيران، التي استحضرت الموروث ذاته، وفق الصيغة الشيعية، باعتبارهم أصحاب الحق في خلافة المسلمين آخر الزمان، واستعادة هذا “الحق” منذ وقوع المظلوميات الأولى، بعد “استلاب الخلافة” وقتل علي وأبنائه. ولم يعد هذا الاستحضار رهناً بالمجالس الخاصة لقادة إيران، أو حكراً على المدارس الدينية، وفق منهج “التقية” المعتمد منذ قرون. بل غدا سياسة علنية في مواجهة نظيراتها، منذ أن رفع حزب الله اللبناني شعارات الثأر من السوريين، باعتبارهم أحفاد الأمويين، وتم استقدام المقاتلين الشيعية من عدة دول، في ذات المنهج، بعد تغذيتهم فكرياً بالموروث الديني الظلامي والمظلومي.

ومن أحدثها تصريح محسن رضائي، أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام، بأن “عليهم أن يستعدوا للحرب، وأن هناك عاشوراء وكربلاء أخرى في الطريق .. ألم تروا بأن رؤوس مسلم (ابن عم الحسين) وأصحابه على أسنة الرماح في سورية والعراق؟ .. لا نستطيع أن نتفرج على عاشوراء التي تحدث اليوم في العراق، ويجب أن نفعل شيئاً.. استعدوا وانتظروا أوامر المرشد الأعلى”.

دولة داعش المتمددة، هي ما تحتاج إليه القوى الغربية وأنظمة الطغيان لتبرير السلوك المترتب في الأشهر المقبلة، فاندفاع القوى الغربية “لمحاربة الإرهاب”، وتوسيع الحرب على الشعوب من قبل أنظمتها في ذات الحجة، سيدفع حتماً، إلى نشوء تحالف علني هذه المرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة ونظامي الأسد والمالكي وإيران من جهة ثانية، ويمكن الاستدلال على ذلك، من الوجود الإيراني العسكري في جنوب العراق، والتصريحات المتبادلة حول التنسيق الأمريكي-الإيراني في ذلك، ما يعني بدوره، عودة إيران للعب دور شرطي المنطقة، وفرض أجنداتها عبر طرق الاحتلال المباشر، ومنه نشوء كيان شيعي متميز، وربما خالص في جنوب العراق، في حال عدم قدرة إيران على حسم المعارك، وهو المرجح.

دولة داعش، هي ما ستبرر سلوك الأسد في الدوائر الغربية، وتتغاضى عن تصعيده العسكري تجاه الشعب السوري، وخاصة أنها قد تغاضت عن الإبادة الكيماوية التي أقامها في غوطة دمشق صيف 2013، غير أن الأسد يبقى غير قادر على حسم حقيقي لمعاركه، خاصة بعد اندلاع أحداث العراق، وتشتت المقاتلين الشيعية ما بين سورية والعراق. وربما قادته كنتيجة لذلك، أو كحالة تفرض عليه من قبل الداعشيين، إلى إعلان خطوط تقسيم تشمل حمص ودمشق والساحل السوري. وتُترك فيها حلب لتواجه دولتين تتصارعانها، دولة الأسد والدولة الإسلامية، وفق آلية توافقية دولية أمريكية-روسية.

وليس هناك مؤشرات تدّل على تهدئة محتملة في الأفق المنظور، بل إنّ امتداد الحدث لبنانياً وأردنياً بات جد محتمل، وفق التصريحات المتقابلة بين أطراف الصراعات تلك، حيث تتصادم الأيديولوجيات ذاتها على الساحة اللبنانية منذ مدة طويلة، واتخذت طابعاً تصعيدياً منذ هيمنة حزب الله على لبنان عام 2007، وجره اللبنانيين إلى تمايز عقائدي شديد التوتر منذ انخراطه في إبادة الشعب السوري. وفي ظل النتائج المترتبة على الصراع الشيعي-السني في لبنان، تظهر ذات الاحتماليات التي تشهدها سورية والعراق، لناحية الانقسام الجغرافي، أو لناحية الاقتتال البيني.

في هذا الانفلات الكبير، ستسعى إسرائيل بدورها إلى استحصال مزيد من المكاسب السياسية، سواء لناحية الأرض، أو عبر حملات عسكرية تصفي بها خصومها من الفلسطينيين، أو لناحية مزيد من التوظيف الأيديولوجي، عبر تسريع حدث هدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، وربما ترتبط بحادثة خطف ثلاثة مستوطنين وقتلهم في الضفة الغربية، كمبرر لعمليات واسعة تنوي القيام بها، قبل أن تستعيد المنطقة استقرارها.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق