التوظيف الأقلويّ لداعش في سوريّة

شكّلت عملية تحرير مدينة أريحا في محافظة إدلب، طوراً جديداً في العمل العسكري الثوري، من خلال تبلور آلية التوافقات التي أنتجت غرفة عمليات جيش الفتح في إدلب، وبدأت تتمظهر باعتبارها السبيل الأمثل في ظلّ الظروف القائمة لبناء غرف عمليات “توحيدية” لكافة الفصائل، باتجاه مناطق أكثر استراتيجية، وعلى رأسها مدينة حلب، وهو تطور نوعي في الرؤية الثورية المسلحة على المستوى التخطيطي من جهة، وعلى المستوى العملياتي من جهة أخرى، وعلى المستوى السياسي بشكل لاحق لعمليات التحرير.

وشكلت هذه النقلة النوعية (نواة التغيير العسكري الثوري)، ضغطاً على كافة الأطراف المواجهة للثورة السورية، أو تلك التي يمكن تسميتها بالأطراف الميليشياوية ذات الطابع الإرهابي في سورية، وتحديداً منظومة ميليشيات الأسد، ومنظومة ميليشيات داعش، التي وجدت، ليس في تحرير أريحا وغالبية محافظة إدلب فحسب، بل في آلية التوافق الجديدة في المسار الثوري العسكري، مهدِّداً حقيقياً يسرِّع من عمليات إنجاز تطهير الأراضي السورية من الميليشيات الإرهابية، وقدرة على ضمان استمرارية وحدة الدولة، لما لتوافقها من أبعاد سياسية وهوياتية، تشكِّل مرتكز الهوية السورية بعد التحرير.

في هذا السياق، تندفع منظومتا ميليشيات الأسد وميليشيات داعش، لتقويض العملية التوافقية (جيش الفتح)، عبر هجوم على الجبهات الثورية، في توقيت واحد، وعلى مسارين مختلفين، وخاصة في ريف حلب الشمالي، ما يجبر الأطراف الثورية (أي غرفة عمليات فتح حلب)، على الانقسام ثانية إلى جبهتين في مواجهة المنظومتين، وبالتالي إلى جيشين أو أكثر، وهو ما تسعى إليه الميليشيات تلك، بعد أن أدركت أنّ العمليات التوحيدية قادرة على إنجاز الفعل الثوري، ولو خلال فترة زمنية طويلة نسبياً.

إنّ الفعل التوحيدي، وإن كان ضرورة منذ اللحظات الثورية الأولى، إلّا أنّه كان يتطلّب وعياً وتجربة ثورية عسكرية، تدرك ضرورة التوحيد أولاً، وتختبر إشكاليات وكوارث العمليات المنفردة، وتفرز حاملي السلاح لأهداف شخصية عن المقاتلين في سبيل التحرر الوطني. لذا يمكن أن نقول إنّ مرحلة من النضج الثوري بدأت تتبلور في إدلب وحلب، وهو نضج على المستوى العسكري، ما يزال في طور النشوء، وبحاجة إلى كثير من المعززات الداخلية لتقوية بنيانه. بينما ما تزال الحالة السياسية تفتقر إلى مثل هذا النضج، سواء على المستوى التنظيمي (الائتلاف تحديداً)، أو على مستوى القوى السياسية خارجه، والتي ما تزال تدفع باتجاه مصالح حزبية أو شخصية أو أيديولوجية، أو أنّ جهودها الوطنية ما تزال أضعف من أن تتبع ذات النضج العسكري.

هجوم داعش على المناطق الثورية، والمترافق بهجوم ميليشيات الأسد، هو إيغال في تفتيت الدولة السورية، حيث إنّ ما تقدمه منظومة ميليشيات الأسد من تسهيلات للتنظيم، وانسحابات مبرمجة وممنهجة، بمعنى أنّها انسحابات مدروسة وهادئة (وليست انسحابات “تكتيكية” على غرار عمليات فرارها من المناطق الأخرى)، تسلّم المناطق التي لم تعد منظومة الأسد راغبة في حكمها، أو ما بات يتعارف عليه اليوم بـ “سورية غير المفيدة”، إلى هذا التنظيم، ليكون بديلاً عسكرياً وسياسياً فيها.

هذا البديل هو ما تحتاجه تماماً الأقليات الإثنية (العرقية والدينية) في المشرق العربي، فسورية على سبيل المثال، أصبحت تخضع عسكرياً لأربع جهات (القوى الثورية، منظومة ميليشات الأسد، داعش، الميليشيات الكردية). وفي حال سيطرة داعش على كل –أو غالبية- المناطق التي تسيطر عليها القوى الثورية، تكون المناطق الإثنية –الكردية والعلوية- قد استحصلت على شرعية إتمام فعلها الانفصالي عن الدولة السورية. إذ تغدو المعادلة –محلياً وإقليمياً ودولياً- إمّا الخضوع لسيطرة داعش، أو النأي بالذات وحمايتها عبر دولنة إقليم ذي طابع إثني.

ويلاحظ أنّ الأكراد يشتغلون على ذات المنحى، فبعد ترسيخ مفهوم الحكم الذاتي (المحلي)، بطابع عرقي، لثلاثة كانتونات في شمال وشرق سورية، بدأ توسيع هذه الكانتونات، عبر محاولة وصل منطقة عين العرب بالمناطق التي تخضع للسيطرة الكردية في الجزيرة، من خلال تهجير السكان العرب، وحرق منازلهم ومزارعهم، والأرقام المتداولة اليوم تشير إلى تهجير ما يزيد عن 150 ألف عربي من المنطقة (عدا عن أولئك الذين تمّ تهجيرهم في بدايات الثورة من قبل ميليشيات الأسد)، تحت حجج “المظلومية” الكردية، والنقاء العرقي للمنطقة، التي لم تكن حتى عهد قريب، مناطق ذات أغلبية كردية، بل إنّ بعضها لم يشهد أيّ حضور كردي فيها إلّا عقب الهجرات والتوطين القسري من تركيا في منتصف القرن الماضي.

وبالطبع، فإنّ التطهير العرقي الكردي للمناطق العربية، يتمّ تحت ذريعة داعش، ذلك باعتبار أنّ كلّ العرب هناك، هم حواضن شعبية وعسكرية للتنظيم، على غرار ما فعلته منظومة ميليشيات الأسد في غير منطقة من سورية، عبر تطهير ديني (مذهبي طوائفي) لسكانها، باعتبارهم حواضن للثورة أولاً، و”للسلفية” لاحقاً، ومن ثمّ للنصر أو لداعش.

ربما ما يزال هناك فسحة من الوقت قبل التوجه رسمياً نحن دولنة الكيانات الإثنية –الكردية والعلوية- حيث إنّ القوى الإقليمية والدولية تبقى الضامن الخارجي والحمائي لهذه الكانتونات. وخاصّة أنّ الولايات المتحدة ساهمت –بشكل مباشر أو غير مباشر- في ترسيم حدود الكانتونات الكردية، وفي التغاضي عن تمدّد داعش في الأراضي التي كانت تحت سيطرة القوى الثورية –وأبرزها مدينة الرقة-، أو تلك التي سلمتها لها ميليشيات الأسد. كما أنّ النهج الأمريكي في المنطقة غالباً ما يميل باتجاه الأقليات، لذا فإنّ أيّة محاولة لدولنة أحد الأقاليم من قبلها، ستتبعه حتمياً دولنة لإقليم آخر، على غرار السيناريو اليوغسلافي. وهو توجه إسرائيلي الطرح بالأساس، بتفتيت المنطقة إثنياً (عرقياً ودينياً) حتّى يمنحها شرعية الدولة الدينية في المنطقة. كما أنّ من مصالح روسيا وإيران الحفاظ على موطئ قدم في المنطقة، وهنا تحديداً يبرز الكيان العلوي المقترح، كمدخل لها.

ربّما لا تمتلك الأطراف الإثنية الأقلوية في سورية مقومات دولنة أقاليم محددة بعد، لكن الاشتغال قائم على ذلك منذ اندلاع الثورة، كبديل عن مآلات الصراع العسكري، ولا يمكن له أنّ يتم، إلا من خلال إسناد خارجي، لا يتمثل فقط في حماية هذه الكيانات، بل وفي إعاقة النضج العسكري للقوى الثورية، الذي أسلفناه، ومنع امتداده نحو نضج سياسي، عبر عدة أدوات، منها إعاقة وصول أسلحة إلى الجهات الثورية، أو استهدافها من قبل قوات التحالف بحجة أنّها تابعة “لجبهة النصرة”، أي بذات حجج الأقليات. أو حتّى التهديد باستهدافها، كما حصل في مناطق أخرى، وتحديداً في ريف دمشق، أو من خلال آليات الانشقاق السياسي والبحث في اختلاق كيانات سياسية جديدة بمسميات ثورية، من قبل شخصيات بالكاد هي معروفة سواء على المستوى السياسي أو الثوري، وغالباً ما تكون موالية –أو شبه موالية- لمنظومة ميليشيات الأسد.

يضاف إلى ذلك، أنّ التقاعس الدولي المتعمّد عن إيجاد مخارج للمسألة السورية، عبر إزاحة الأسد كمدخل لإعادة بناء الدولة، يساهم في رفع مستوى الصراع العسكري من جهة، ويكرس حالة تثبيط واسعة لدى المجتمع السوري، ودفعه نحو تبني خيارات ما كان يأمل أن يصل إليها، بغية الخلاص النهائي والكلي من حالة الصراع المسلح، عبر الموافقة على تمرير برامج أقلوية انفصالية.

إن محاولة إعادة رسم الجغرافيا السياسية لسورية، عبر تقسيمات جيوهوياتية، لن ينتِج في المحصلة استقراراً دائماً في الشرق الأوسط، وخاصة أنّ أيّ تقسيم دولي لسورية، سيترافق بعمليات تطهير أوسع من القائمة حالياً للمناطق الأقلوية، كما أنّه سيُنتِج خطوط صراع ستشهد إعادة في انفجار وفق أدنى متغير إقليمي، بما تحمله من ذاكرة مأساوية ناجمة عن مجازر الميليشيات على تنوعها. كما أنّ أيّ دولنة لأقاليم وفق منطوق إثني، هو بالنتجية دولنة للصراع القائم حالياً، وتحويله إلى حالة حرب إقليمية أوسع ممّا هي عليه.

*الصورة المرفقة لخطوط الصراع العسكري تعود إلى تاريخ 21 نيسان/إبريل 2015

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق