التناقضات في السياسة الخارجية القطرية: العلاقة مع إيران نموذجاً

مقدمة:

تقوم السياسات الخارجية على مبدأ تحقيق المصالح عبر إدراك مصادر القوة وتبيان الأهداف التي تسعى النخب الحاكمة إلى تحقيقها من خلال سلوكها السياسي في البيئة الدولية. وعليه ترتبط السياسة الخارجية بحجم مصادر القوة وحجم الطموح السياسي.

وحيث تمتلك قطر موارد مالية كبيرة قادرة على توظيفها دولياً في سياسة خارجية نشطة، إلا أنها لا تشكل وحدها عوامل القوة في الدول المعاصرة، وخاصة في حال الدول ذات المساحات الصغيرة جداً، أو ذات الموقع الجغرافي المتطرف، أو لناحية الأهداف الكبرى إقليمياً ودولياً.

وانعكست جملة العوامل تلك (المالية الضخمة مع محدودية العوامل الأخرى) على سلوك سياسي قطري متباين، أو حتى متناقض في كثير من الملفات ذات الصلة بالسياسة الخارجية القطرية، وفي علاقاتها البينية مع الدول الأخرى.

وتسعى هذه الدراسة إلى تبيان محددات وأدوات السياسة الخارجية القطرية، ومساراتها في البيئة الإقليمية، وتناقضاتها، إضافة إلى إسقاط ذلك على علاقاتها مع إيران ومحورها في البيئة العربية.

 

أولاً- سلوك السياسة الخارجية القطرية:

تتسم السياسة الخارجية القطرية بتنوع سلوكها في مسارات عدة متباينة، وقد تكون متناقضة في كثير من الأحيان، ولعل ذلك عائد إلى ضعف مأسسة آلية صنع السياسة الخارجية، وارتباطها بشكل مباشرة بالسلطة الأميرية، سواء بشكل شخصي، أو بتوجيه عبر رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، مما يجعل السياسة الخارجية القطرية رهناً بالعلاقات الشخصية والمزاجات المسيطرة على المؤسسة الأميرية في الدولة.

إن ضعف المأسسة واقتران السياسة بالعلاقات الشخصية، صفة غالبة على كثير من السياسات العربية، وليست حكراً على قطر فحسب، لكن ما يميزها في قطر، اتخاذها في كثير من الحالات مواقف متضادة تجاه قضية معينة بحد ذاتها.

وتكشف متابعة السياسة القطرية منذ تفجر حالة الثورة في المنطقة العربية مطلع عام 2011، عن أن الدول الصغيرة، التي منها قطر، لها نمط مميز لسياستها الخارجية، يعكس مخاوفها، ومصالحها، ويمتاز في جزء كبير منه بغياب “تأثير” الأيديولوجية وغلبة الطابع البراجماتي. والحديث عن سياسة خارجية مميزة للدول الصغيرة ليس فيه أي نوع من المبالغة، فالدول الصغيرة لها وضع مختلف، سواء على مستوى المدركات، أو على مستوى السياسات التي تتبعها لتحقيق مصالحها. وتفسر غلبة الطابع البراجماتي على سياسات الدول الصغيرة مواقف قطر التي فيها قدر كبير من التناقض تجاه قضايا محددة، مثل دعمها القضية الفلسطينية، واستضافتها العديد من قيادات حركة حماس، في الوقت الذي تحتفظ فيه بعلاقات “جيدة” مع إسرائيل، في مخالفة لموقف مجلس التعاون -التي هي عضو فيه- من مسألة التطبيع مع إسرائيل (1).

ولفهم أكثر للسلوك الخارجي لدولة قطر، لابد من إدراك المحددات والآليات والأهداف التي تملكها الدولة في ذلك. إذ سيطر هاجس التخوف من السيطرة السعودية على قطر، على صنع سياساتها الخارجية لفترات طويلة، دون أن يكون لذلك مبررات على أرض الواقع وخاصة بعد ترسخ نشوء الدولة، وإن كان من خلافات بين الدولتين في بعض القضايا، إلاّ أن فكرة الهيمنة السعودية على قطر على نمط ما قام به العراق تجاه الكويت عام 1990، تبقى مجرد هاجس ساد في أوساط السلطة الأميرية دون مقترنات تثبت صحة هذا الادعاء. ولا تشكل الخلافات الحدودية بين الدولتين مبرراً واقعياً لهذا الفهم، وخاصة أن السياسة الخارجية السعودية بعيدة عن منطق الاستيلاء والاحتلال واللجوء إلى القوة، وإن كان لها دور سياسي تدخلي في قطر، بدعم أجنحة معينة داخل العائلة الحاكمة القطرية.

لذا بُنِيت كثير من المواقف الخارجية القطرية على أساس التمايز عن المواقف السعودية، والاستقلال عنها، بل ومناقضتها إن اضطر الأمر، وهو ما أزم علاقة الدولتين لفترات طويلة تخللتها فترات من المصالحة، والاتفاق على قضايا بعينها. وخاصة أن المصلحة الكلية للدولتين تصاغ في مصلحة دول مجلس التعاون الخليجي، تجاه أخطار محددة تهدد البنية الخليجية كاملة، وأهمها التهديد الإيراني.

وتلعب الحالة الجيوسياسية لدولة قطر دوراً في تناقضاتها السياسية، وخاصة أنها تقع بين قوتين إقليميتين كبريين (السعودية وإيران) على امتداد جغرافي ضيق جداً، وعدد محدود من السكان، مع ثروات ضخمة تؤهلها لأن تكون محط أطماع خارجية.

ولذلك فقد تحالفت العائلة الحاكمة في قطر مع بريطانيا منذ العام 1916 لمواجهة الطموحات السعودية، فأدار التاج البريطاني قطر وأمنها وقتذاك من الهند. وفي السياق نفسه يمكن رؤية تقديم قطر لقاعدة “العيديد” إلى سلاح الجو الأميركي العام 2003 (إبان غزو العراق) مجاناً، باعتباره بوليصة تأمين ضرورية لمواجهة السعودية وإيران، مع الملاحظة أن قطر شرعت في توسيع “قاعدة العيديد” وبنائها منذ العام 1996. وتتحالف الدوحة في مواجهة السعودية، مع قوة من خارج المنطقة لحماية أمنها (الولايات المتحدة)، كما ارتبطت في الوقت عينه بعلاقات أكثر من جيدة مع قوة إقليمية من داخل المنطقة (إيران)، كما اعتمدت في فترات من سياستها الخارجية على علاقات جيدة مع (إسرائيل). إذ لا تملك الدول الصغيرة حجماً – وفقا لنظريات العلوم السياسية – خيارات كثيرة لحماية أمنها، فإما الارتباط بدولة كبرى أو الموازنة بين عدة دول عبر انتهاج سياسات متقلبة حيال هذه الدول لخلق هامش مناورتها الخاص. ومع انتهاء الحرب الباردة ظهر خيار ثالث، نتج من التغير الهيكلي في النظام الدولي بعد الحرب الباردة، وهو المتلخص في التحالف مع مجموعة دول في المنظمات الدولية. فانتهجت قطر سياسة جديدة تجمع بين الخيارات الثلاثة، ولكنها لا تنحصر في أي منها. بمعنى آخر جمعت قطر تناقضات النظام الإقليمي في الشرق الأوسط ووظفته لمصلحتها، أي حماية نفسها من الوقوع تحت هيمنة قوة إقليمية واحدة (السعودية أو إيران). ولم توفر قطر البديل الثالث المتاح نظرياً أمام الدول الصغيرة، أي التحالف مع مجموعة دول في المنظومة الدولية، فهناك علاقاتها التي تشبه مروحة عابرة للقارات وتجمع فرنسا وبريطانيا وجنوب أفريقيا والبرازيل واليابان والصين وغيرها من الدول (2).

وتبرز نتيجة ذلك تناقضاتها الخارجية، ففي حين استضافة القوات الأمريكية إبان غزوها للعراق، بعد رفض السعودية المشاركة في تلك الحرب، كان قناة الجزيرة المدعومة حكومياً تفضح ممارسات الاحتلال الأمريكي في العراق. وفيما ساندت حزب الله وحركة حماس في العدوانيين الإسرائيليين يونيو/يوليو 2006، كانت قطر تقيم علاقات جيدة مع إسرائيل. وحيث كانت تعمل ضمن منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، أقامت علاقات متينة مع إيران، التي تحتل جزراً إماراتية وتشكل تهديداً مباشراً خاصة للبحرين وقطر، وعدواً تقليدياً للسعودية. وحيث كانت تطمح للعب أدوار مركزية في البيئة العربية وتنشط في عدة ملفات متأزمة، كانت تتصادم مع دول عربية عدة على المستوى الإقليمي.

لعل ذلك من أسباب اندفاعها كذلك نحو التقارب مع محور “الممانعة”، أو المحور الإيراني (إيران، سورية، الميليشيات اللبنانية، حماس والجهاد، الميليشيات العراقية)، طيلة الفترة السابقة للثورات العربية، في انتقال مفاجئ وسريع من التقارب القطري-الإسرائيلي، وفي مناهضة علنية للأدوار السعودية والمصرية، قبل إحداث قطيعة بذات السرعة مع هذا المحور، والعودة إلى التنسيق مع السعودية.

وفيما تعتبر قطر من أقل النظم السياسية العربية تحديثاً، كانت في مقدمة الدول التي ساندت ثورات الربيع العربي في عدة دول، وحيث التقت في ذلك مع السعودية، إلا أنها عادت واتخذت موقفاً مضاداً لها بالدعم المفرط لقوى الإسلام السياسي في مواجهة التيارات السياسية العربية الأخرى، بما أثر سلباً في بعض الدول على مسار ثوراتها.

وتوجهت قطر إلى بناء شبكة تحالف إقليمية مع الإخوان المسلمين، حيث تدعم الإخوان لمواجهة الدعم السعودي للسلفيين في هذه البلدان المختلفة. ولكن من المرجّح أن قطر تقوم ببناء نفوذ حيث أمكنها ذلك، على أمل أن تكون لاعباً مهماً في الشرق الأوسط الجديد، وأن تكون لها أيضاً يد في مساعدة الأحزاب الإسلامية مثل الإخوان المسلمين على النجاح في إعادة الاستقرار وبناء الازدهار في بلدانها (3).

وهو ما انعكس على العلاقات مع الحليف الأساسي (الولايات المتحدة). إذ يتوجس الغربيون خيفة من تزايد نفوذ إسلام سياسي يرون فيه نقيضًا لمصالحهم. وقد عبّر عن ذلك بقوة قبل سنوات السيناتور السابق جون كيري (وزير الخارجية الأميركية الحالي) “لا يمكن لقطر أن تكون حليفًا لأميركا يوم الاثنين ثم ترسل المال إلى حماس يوم الثلاثاء”. وتبرز هذه النظرة بشكل خاص في فرنسا حيث يعكس الجزء الأكبر من الصحافة نظرة توجس بل عداء تجاه قطر التي تُتهم غالبًا بأن لديها أجندة خفية عدائية. فظهور فاعل جديد ذي نشاط مقلق قد شوش على جزء من الرأي العام. وبشكل أكثر خفوتًا في بريطانيا، يسود إحساس بأن البلد تشتريه قوة مالية لبلد عربي ثري، ويثير هذا الإحساس ردود فعل سلبية قوية (4).

وقد وظفت قطر قناة الجزيرة، كإحدى أقوى أدواتها الناعمة في السياسة الخارجية، إلا أنها بقيت رهينة العلاقات القطرية-السعودية من جهة، وتناقضات السياسة الخارجية من جهة أخرى، عبر دعم ملفات بعينها، أو عبر ترويج صورة لقطر مناقضة لمساراتها السياسية.

إذ تسبّبت القناة الإخبارية في حدوث مشاكل دبلوماسية كثيرة للدوحة. فقد ضغطت الولايات المتحدة مراراً على قطر بسبب مواقف الجزيرة المناهضة للولايات المتحدة عموماً، والتغطية السلبية للغزو الأميركي للعراق، بينما سحبت المملكة العربية السعودية سفيرها لدى قطر في العام 2002 بعد التغطية الصحافية الناقدة للشؤون المحلية السعودية (5).

لقد تضخم الدور السياسي الخارجي لقطر منذ أواخر القرن الماضي، بما لا يتناسب مع حجم الدولة وعدد سكانها، كآليات لتعزيز تداخلاتها العربية والدولية وتنمية تحالفاتها، وحيث وظفت عائداتها المالية الضخمة لخدمة تلك السياسة، إلا أنها تبقى محدودة بأطر عدة، منها:

– عدم امتلاكها المشروعية على مستوى الشارع العربي للعب دور قيادي، وخاصة أن الأدوار القيادية مناطة بأبعاد تاريخية كانت محصورة بين السعودية ومصر والعراق وسورية، وجاء النشاط القطري نتيجة غياب تلك الأدوار، أو انكفائها على ذاتها.

– إن سياسة خارجية فاعلة، تتطلب قدراً كبيراً من الموارد المالية، وهي متوفرة لقطر، لكنها في الوقت ذاتها، تحتاج إلى بناء قوة عسكرية قادرة على لعب دور قيادي تدخلي في حالات الضرورة، كالدور السعودي في مواجهة الإرهاب الحوثي في اليمن. وهو ما لا تستطيع قطر القيام به إلا في إطار قوى إقليمية أو دولية، عبر مشاركة محدودة، كما حصل إبان مشاركتها في الحملة الدولية على نظام القذافي، أو ضمن القوة الخليجية “درع الجزيرة” في البحرين.

– لا تؤهلها الجغرافيا السياسية سواء من حيث المساحة الضيقة، أو الموقع على هامش الخليج العربي للعب أدوار مركزية أكثر فاعلية.

 

ثانياً- في العلاقات القطرية-الإيرانية:

انعكست تناقضات السياسة الخارجية القطرية على العلاقة مع إيران طيلة العقود الماضية، إذ تشكلت علاقة متينة ما بين الدولتين خاصة فترة حرب الخليج الأولى، حين رفضت قطر دعم العراق. وقد تعززت تلك العلاقات نتيجة عوامل عدة من أبرزها:

  • موازنة القوة السعودية عبر القوة الإيرانية.
  • تشارك الدولتين في حقل نفطي بحري (الحقل الشمالي/جنوب فارس).
  • شكل المواطنون في قطر من أصول فارسية قرابة 18% من إجمالي السكان عام 1970.

وجاءت زيارة وزير خارجية قطر لإيران يوليو 1996، بهدف تطوير العلاقات الثنائية، تواصلاً مع زيارة وزير المال والاقتصاد القطري في مايو 1995 لتنشيط المبادلات التجارية بين البلدين والتي تقدر بنحو 100 مليون دولار، وما يربط البلدين من اتفاقات تعاون في مجالات التعليم والعمل والنقل الجوي والتجارة. ولم تكن قطر بمنأى عن سياق تطور العلاقات في حقبة حكم خاتمي، حيث شهدت تفاعلات مهمة، أبرزها زيارة أمير قطر لإيران في يوليو 2000، وزيارة وزير الداخلية الإيراني لقطر في أكتوبر من العام نفسه، لمزيد من التعاون الأمني، خاصة في مجال مكافحة تهريب المخدرات والبضائع وجرائم التزوير والجريمة المنظمة، ثم زيارة وزير الدفاع الإيراني لقطر في 25 يناير 2012 (6).

وقد تعززت هذه العلاقات منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، إذ رفضت قطر باعتبارها عضواً غير دائم في مجلس الأمن عام 2006، فرض أية عقوبات على إيران تتعلق برنامجها النووي، وكانت أول دولة عربية تدعو رئيساً إيرانياً إلى مؤتمر القمة العربية وذلك عام 2007. وهو ما اعتبر استفزازاً لدول الخليج المجاورة في فترة تأزم علاقات ما بين الدول العربية والمحور الإيراني.

إلا أن هذه العلاقات الوطيدة التي استمرت حتى مطلع عام 2011، حملت في طياتها عدداً من التناقضات، إذ تزامن التقارب القطري مع المحور الإيراني مع استضافة قطر للقوات الأمريكية على أراضيها وتعزيزها علاقاتها مع إسرائيل، كما اضطرت قطر في كثير من سياساتها إلى تعديل سلوكها بما يتفق مع مفهوم الأمن الخليجي، إذ ظلت قطر تتوجس من تحول إيران إلى قوة نووية تهدد كامل دول الخليج العربي.

ولا ترغب قطر في رؤية إيران كدولة نووية، لكنها لم تحبذ توجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية نتيجة خشيتها من انتقام إيراني يطال منشآتها النفطية والغازية التي استثمرت فيها أموالاً طائلة، والتي تقع بكاملها في مدى الصواريخ الإيرانية. ونتيجة التشاركية في الموارد النفطية بين الدولتين، ورغم خشية إيران من أن قطر تسحب مخزوناً نفطياً أكبر من حصتها نتيجة قدرتها على تطوير وسائلها؛ إلا أن إيران تعترف بأن قطر وثرواتها النفطية والغازية خط دولي أحمر، وبالتالي مهما بلغ الخلاف معها فإن إيران لن تقدم ما أقدم عليه العراق مع الكويت عام 1990. وتفرض تلك الحقائق على الطرفين حداً أدنى من العلاقات، حيث تجد إيران في علاقتها مع قطر سبيلاً للتأثير على الموقف الخليجي حيالها (7).

وكان علي لاريجاني رئيس البرلمان الإيراني قد وصف العلاقات مع قطر بأنها علاقات مع شريك استراتيجي أثناء لقائه مع الأمير حمد بن خليفة آل ثاني في قطر (يوليو 2009). وتلي ذلك لقاء بين وزير الدفاع الإيراني ورئيس الأركان القطري (يوليو 2009)، حيث أكد وزير الدفاع الإيراني أن العلاقات الدفاعية مع قطر تشكل مثالاً لما تطمح له إيران في التعاون الدفاعي في منطقة الخليج العربي، عبر لعب إيران دوراً بارزاً في أمن الخليج العربي ومضيق باب السلام (هرمز). وكان علي رضا الناصري أحد قيادات الحرس الثوري الإيراني قد التقى بقائد القوات البحرية القطرية (ديسمبر 2010) بغية تعزيز العلاقات العسكرية البحرية، ورحبت قطر بإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع إيران، حيث استمرت اللقاءات بين المسؤولين العسكريين طيلة الفترة اللاحقة، إذ أعلن الأميرال علي رضا أن الحرس الثوري قد أرسل أسطولاً مجهزاً بالصواريخ والسفن الحربية وزوارق الدعم إلى قطر في بعثة رصد بحرية، وكان من المقرر أن يقوم وفد عسكري إيراني بتفقد المنشآت العسكرية القطرية. وسارت العلاقات نحو مزيد من التعزيز مع زيارة رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني لإيران ولقائه بالرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد والمرشد الإيراني علي خامنئي في ديسمبر 2010. وشهد التنسيق الدبلوماسي بين الدولتين توسعاً ملحوظاً في النصف الأول من عام 2011، حيث التقى وزير الداخلية الإيراني محمد نجار مع نظيره القطري في طهران (يونيو 2011)، لبحث التعاون المستقبلي، إذ سبق للطرفين التوقيع في فترة سابقة من ذات الشهر على اتفاقية أمنية مشتركة، في مجالات حماية الحدود ومكافحة الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر والمخدرات. وكان وزيرة الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي قد التقى بأمير قطر في شهر مايو من ذات العام، لتعزيز العلاقات البينية (8).

ورغم أن قطر لم تؤيد التدخلات الإيرانية في البحرين عام 2011، إلا أنها كذلك امتنعت عن توجيه أي نقد مباشر لإيران، على عكس موقف دول الخليج العربي الأخرى، فيما كان مسؤولو البلدين يتبادلان في الوقت نفسه التنسيق في الملفات الأمنية والنفطية والنقل البحري.

وقد ناصرت الحكومة القطرية الموقف الإيراني في شأن ملفها النووي إقليمياً ودولياً –في الفترة السابقة لتوقيع اتفاق جنيف النووي بين القوى الدولية 5+1 وإيران- وسعت قطر إلى ترويج النظرية الإيرانية حول “سلمية” البرنامج وأحقية إيران في امتلاك بدائل للطاقة، دون أن تضغط باتجاه إلزام إيران تقديم ضمانات تؤكد طبيعة برنامجها، أو ضمان فتح كافة المنشآت الإيرانية أمام التفتيش. حيث لم يكن لقطر دور حقيقي في التوصل إلى الاتفاق الدولي مع إيران.

واستمرت العلاقات بين قطر وإيران على ذات المنحى طيلة الفترة السابقة للنصف الثاني من عام 2011، مع وقوف قطر إلى جانب الثورة السورية، رافضة النهج القمعي الذي اتخذه نظام الأسد تجاه شعبه، في موقف يتفق مع التوجه العام لدول مجلس التعاون الخليجي. وهو ما شكل بداية القطيعة بين قطر والنظام السوري من جهة، وتأزماً في العلاقات القطرية-الإيرانية من جهة أخرى.

حيث وجدت إيران أن الدعم الذي تقدمه قطر والسعودية للشعب السوري في مواجهة الآلة العسكرية للنظام السوري، موجه كحرب ضد إيران ذاتها، باعتبار سورية مجالاً للنفوذ الإيراني في البيئة العربية، وسقوط نظام الأسد بمثابة كسر للمحور الإيراني عبر أهم أركانه عربياً.

ووجهت إيران انتقادات لاذعة لحليفتها قطر، إذ اعتبر وزير الدفاع الإيراني حينها الجنرال أحمد وحيدي أن “دول ما يسمى أصدقاء سورية، التي تقودها السعودية وقطر، تسعى إلى صداقة إسرائيل بدلاً من قلقها من العمليات الإرهابية وعمليات القتل في سورية”. وصرحت قناة العالم الإيرانية بأن موقفي قطر والسعودية “يأتيان في خدمة المخطط الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة لإضعاف دول الممانعة والمقاومة بما يشكل طوق نجاة للكيان الإسرائيلي غير الطبيعي المزروع في المنطقة”. وازدادت حدة الهجمات على قطر بعد استضافتها نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، المتهم بدعم مجموعات “إرهابية” من قبل حكومة المالكي الحليفة لإيران. وبلغ التأزم بين الدولتين أن اتهمت إيران قطر بسحب غاز إضافي بشكل غير قانوني من حقل الغاز المشترك فيما بينهما وباستمالة أكفأ الموظفين الإيرانيين لتطوير الجزء القطري من الحقل. ويرى جايمس دوراسي من معهد “راغاراتنام للدراسات الدولية” أن “تزايد هجمات إيران على قطر، هو نتيجة للأهمية التي توليها إيران لاستمرار نظام الأسد المتداعي، بل إن قطر باتت على لائحة الأهداف الإيرانية العسكرية في حال قررت الولايات المتحدة اللجوء إلى القوة لعرقلة برنامجها النووي” (9).

إلا أن التغيرات السياسية التي حصلت عام 2013 في كلا الدولتين، باستلام ولي العهد القطري الشيخ تميم بن حمد آل ثاني سدة الحكم خلفاً لوالده، وتنصيب حسن روحاني رئيساً لإيران مع إعادة هيكلة جزئية للسياسة الخارجية الإيرانية، وخاصة في ملفاتها الشائكة وعلاقاتها مع الغرب، أدى إلى إصلاح تدريجي للعلاقات بين الدولتين على طريق استعادة ذات الزخم السابق بينهما.

إذ أكد أمير دولة قطر الجديد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في خطابه الأول حول السياسة القطرية الجديدة، باعتبارها امتداداً للسياسة القديمة خلال الألفية الجديدة، ولكن بشكل أكثر هدوءاً، وفى الإطار الخليجي طمأن أمير قطر الجديد دول الجوار، مؤكداً أنه ملتزم باستحقاقات مجلس التعاون الخليجي، ولن يكون هناك إشكال كبير مع مجلس التعاون الخليجي، رغم الخلافات الظاهرة عملياً بين دول مجلس التعاون الخليجي بما يتصل بالعلاقة مع إيران على وجه التحديد. وهكذا بدا من الخطاب أن الأزمة السورية قد تكون هي المعضلة والمحدد المحوري لمستقبل العلاقات القطرية-الإيرانية الجديدة، وقد تكون أحد المؤثرات التي تغير من طبيعة السياسة القطرية، ففي أول تصريح لوزير الخارجية الإيراني عقب تولى الأمير الشيخ تميم مقاليد الأمور في قطر طلب الوزير منه إعادة النظر في سياسة بلاده تجاه الأزمة السورية، وهنا لابد من التوقف أمام هذا التصريح الإيراني، وما يحمله من رسائل إيرانية للسياسة القطرية الجديدة، في ظل التأكيد القطري على أن السياسة الآن امتداد للسياسة الخارجية وهى من الثوابت، وتأثير ذلك على مستقبل العلاقات القطرية-الإيرانية. ويفسر المحللون هذه التصريحات الإيرانية، بأنه من الطبيعي أن يميل الإيرانيون إلى قدر من الهدوء في التعاطي مع الأمير الجديد على أمل أن يكون أقل تحدياً لطموحاتهم الإقليمية من والده، لكن المتابع للشأن الإيراني خلال الفترة الماضية قد لاحظ جملة من التهديدات الإيرانية الصريحة لقطر بسبب موقف الأخيرة من سورية، لأن إيران تعتبر أن النظام السوري أحد أركان استراتيجيتها فى المنطقة وهو محور استراتيجي في مشروع تمددها في المنطقة، والموقف القطري بانحيازه للثورة السورية يستفز الدوائر الإيرانية، وهي بالتالي تعول على أن رسائل هادئة ربما بعد جملة من الرسائل التصعيدية يمكن أن تؤدى إلى تغيير ما في السياسة القطرية (10).

وتطورت محاولات قطر لردم الهوة في علاقاتها مع إيران، إلى محاولة إصلاح علاقاتها مع حزب الله ونظام الأسد، في أواخر شهر نوفمبر 2013. حيث ذكرت صحيفة الأخبار اللبنانية أن “مسؤولاً قطرياً موفداً من أمير دولة قطر زار بيروت حاملاً رسالة من الشيخ تميم بن حمد إلى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله .. وأن الوفد القطري كان مرتاحاً إلى بدء العمل على مسار يؤدي إلى إعادة العلاقات مع حزب الله إلى ما كانت عليه سابقاً .. مع إصرار قطر على أن يلعب حزب الله دوراً مباشراً في كسر الجليد مع نظام الأسد”(11).

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

 

خاتمة:

تميزت السياسة الخارجية القطرية بجملة من الإشكاليات، من أبرزها:

– إن التحالف مع القوة الإيرانية، قابل للاهتزاز وفق المواقف من الملفات الإقليمية وليس خاضعاً لمنطق للمصالح المشتركة بين الطرفين فحسب. إذ لا تثق إيران بطرف خارج تكتلها السياسي المذهبي في البيئة العربية، فيما تسعى لاختراق دول الخليج العربي عبر علاقات جانبية معها.

– سعي قطر الدائم إلى تنويع علاقاتها وتعزيز تناقضاتها، أثر سلباً على سلوكها الخارجي، فكثيراً ما تراجعت عن مواقفها، نتيجة غياب الرؤية الاستراتيجية، والاعتماد على العلاقات الشخصية في السياسة الخارجية.

– تبقى السياسة القطرية مرهونة بإرادة القوى الكبرى من جهة، وبالتوجس من المحيط الإقليمي، والخليجي-السعودي بشكل خاص، مما انعكس على سياساتها في صياغات اتخذت شكل ردود أفعال، أكثر منها فاعلية مستقلة.

مراجع:

(1) إيمان رجب، “التناقض: كيف يمكن فهم سياسات قطر تجاه الثورات العربية؟”، السياسة الدولية، العدد 187، يناير 2012.

(2) مصطفى اللباد، “قطر: أحلام كبيرة وقدرات محدودة 1″، مركز الخليج لسياسات التنمية.

(3) بول سالم و ويب دي زيو، “السياسة الخارجية القطرية: الديناميات المتغيرة لدور استثنائي”، مركز كارنغي للشرق الأوسط، 31/11/2012.

(4) نبيل الناصري، “سياسة قطر الخارجية في عهد الشيخ تميم: قطيعة أم استمرار”، مركز الجزيرة للدراسات، 1/7/2013.

(5) بول سالم و ويب دي زيو، مرجع سابق.

(6) د. سيد عوض عثمان، “العلاقات الإيرانية-الخليجية بين دروس الماضي وآفاق المستقبل”، مختارات إيرانية، العدد 28، نوفمبر 2012.

(7) مصطفى اللباد، مرجع سابق.

(8) Will Fulton, Ariel Farrar-Wellman, “Qatar-Iran Foreign Relations”, 22/7/2011, Iran Tracker, in: http://www.irantracker.org/foreign-relations/qatar-iran-foreign-relations

(9) جهود الإطاحة بالأسد تنهي شهر العسل الإيراني-القطري”، 12/4/2012، في: http://www.almokhtsar.com/node/47168

(10) الأزمة بسوريا .. معضلة في مستقبل العلاقات القطرية-الإيرانية”، صحيفة اليوم السابع، 30/6/2013، في: http://www.youm7.com/News.asp?NewsID=1139828#.UpWZ-tJdUxY

(11) للمزيد انظر: http://www.alkhabar-ts.com/index.php?page=view_news&id=ei5yo0lv59oscxn#ixzz2mCRmgClS

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق