التقييم الاستراتيجي للعلاقة الإيرانية الأمريكية

تبقى إعادة التقييم الاستراتيجي للحالة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في حقيقة الأمر هي إعادة الإمساك بالأدوات المنهجية والنظر من زوايا أخرى في إعادةِ لتوجيه العدسة الفاحصة وتنقلها بين المستويات المختلفة للتحليل.

وفي هذه المقدمة لا بد من التنويه إلى أن فهم سلوك الدولة قائم على اعتبارات بنيوية أهملتها كل من النظرية الليبرالية والنظرية الواقعية في نظرة لا تراعي التمايزات القائمة لكل دولة وعن موقعها في مستوى التحليل. محاولين في ذلك تجاوز القصور باستخدام الأدوات المنهجية التي أثمرتها العلوم الإنسانية لا سيما المدرسة السلوكية عندما ميزت بين ثلاثة مستويات للتحليل (1) هي:

1- مستوى النظام الدولي.

2- مستوى النظام الإقليمي.

3- مستوى سلوك الوحدات المكونة للنظام الدولي (الدولة).

 وعليه سنحاول إعادة تموضع احداثيات كل من الولايات المتحدة الأمريكية في مستواها الدولي وإيران في مستواها الإقليمي، ثم نرصد البنية التي تحكم سلوك كل منهما وصولاً إلى تصوير المشهد الذي يُفاعل بينهما.

موقع الولايات المتحدة في المستوى الدولي:

لو أردنا تسليط العدسة على المستوى الأول من مستويات التحليل أي النظام الدولي، لوجدنا الولايات المتحدة الأمريكية تتربع على قمة العالم دون أن تواجه حتى اللحظة خصوماً حقيقيين قادرين على مناظرتها في القوة بأبعادها الأربعة (2):

1- الوصول العسكري العالمي.

2- الدور الاقتصادي العالمي.

3- الجذب الثقافي- الفكري العالمي.

4-العضلة السياسية العالمية.

وفي الوقت الراهن ليس ثمة أمة يمكن حتى القول بأنها تقترب من مناظرة الولايات المتحدة في الامتيازات والقوة العالميين. فما برحت روسيا الاتحادية -ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي-التي تمتلك ترسانة نووية كإرث لقوة عظمى تعجز عن القدرة على تسيير قواتها على نطاق عالمي، في حين جيشها التقليدي الكبير آخذ بالانحلال والتجرد من سلاحه. كما تتمتع ألمانيا واليابان بقدرة اقتصادية عالية دون أن يرسم أي منهما صورةً جلية بأنه سيترجم القدرة الاقتصادية إلى قدرة سياسية-عسكرية، ومثل هذا الفعل قد تقدم عليه أوروبا موحدة لو تمت ولادة كيان سياسي-عسكري واحد كخطوة في عملية الوحدة الأوروبية. أما الصين التي توصف بالتنين مكبلة بحواكم دينامية الاقتصاد العالمي-رغم صعودها كأكبر قوة نامية في العالم، وتمتلك احتياطي عالمي من الدولار تقدر بـ (1.5) ترليون دولار-متسائلين في ذلك عن مصير هذا الاحتياطي (فرصاً) إذا انهار الدولار كوحدة نقد معتمدة في المبادلات التجارية العالمية، فضلاً عن غياب الجاذبية الثقافية- الفكرية للحضارة الصينية أمام كاريزما الحرية والديمقراطية الأمريكية.

إلاّ أن ما تقدم لا يعني التقليل من أهمية وفاعلية كثير من القوى العالمية على مسرح السياسة الدولية، فكل منها دوره وتأثيره الفاعل وأدواته الخاصة في تحقيق مصالحه الوطنية والقومية في ظل هذا النظام الآيل إلى التكوّن والذي لم يأخذ صورته النهائية بعد، والقاسم المشترك بينها أنها دولّ قادرة على الحركة في إطار البيئة الدولية بوضعها قوى عظمى.

ما يجدر الإشارة إليه بأن المستوى الدولي له معايير في إدخال تلك الوحدات (الدول) وغيرها في مجال اللعب على خشبة المسرح العالمي؛ بقواعد أهمها القوة يؤمنها السلاح النووي، وحجم المساهمة في الناتج العالمي، والثقل السياسي، ومقدار الجذب الثقافي والفكري.  والولايات المتحدة هي أبرز هذه القوى للميزات والمعايير التي ذكرناها. لدرجة قد نذهب بها مع الرأي القائل بأن أمريكا تلعب دور الإمبراطورية مع كل التحفظ على المعنى القيمي الذي ينطوي عليه هذا الدور. لنفس المعايير تخرج إيران من دائرة الفعل واللعب في المستوى الدولي، دون أن يعني ذلك انعدام الوزن، فلإيران مستوى آخر من اللعب هو مجالها الإقليمي.

موقع إيران في المستوى الإقليمي:

تعتبر إيران من أكثر الدول حضوراً في سياسات الشرق الأوسط بحكم موقعها الجيوسياسي، وتسعى لأن تلعب دوراً مهماً في صياغة هذه السياسات، إلاّ أن الدور الإقليمي لأية دولة لا يتحدد بنموذج واحد تسعى لأن تمارسه في بيئتها الإقليمية، حيث يمكن أن تأخذ دور “الزعيم الإقليمي، المدافع الإقليمي، حامي العقيدة، المستقل النشيط (حيادي)، مركز الانطلاق، قائد التكامل الإقليمي، المؤيد، المثال أو النموذج، المساعد، الحليف المخلّص، الجسر الذي يُعمق والتفاهم الدولي مع دول الإقليم، المحب للسلام العالمي (3).

يتحدد هذا الدور في إطار النسق الحاكم وهو النسق (الإقليمي-أو التابع)، والذي يعتمد على التموضع الجغرافي أولاً، ثم القوة الإجمالية للدولة.  كما أن لعب دور في إطار البيئة الإقليمية يعتمد على معايير هذه البيئة والتي تختلف عن البيئة الدولية التي ألمحنا إليها أنفاً. هذه المعايير تأخذ باعتباراتها أربعة جوانب (4) هي:

أ- الخصائص البنيوية للنظام: ويقصد بها سمات النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المكونة للنظام الإقليمي ومدى وجود تماثل أو تقارب بينها.

ب- نمط الإمكانات أو مستوى القوة في النظام: ويقصد بها مستوى القوة السائدة بين الوحدات المكونة للنظام، وهل يوجد توازن للقوة بين هذه الوحدات أم يوجد نوع من الاستقطاب بين دولتين أو أكثر على قيادة النظام، أو يوجد تراتبية  معينة في توزيع القوة.

ح- نمط السياسات والتحالفات، ويشير إلى طبيعة العلاقات المتداخلة بين أعضاء النظام الإقليمي، والسياسات المتبعة فيما بينها، والتحالفات التي تدخل في إطار النظام…

د- بيئة النظام الدولي يقصد بذلك الإطار السياسي الدولي الذي يعايشه النظام الإقليمي…

إذاً إيران تبقى محكومة في إطار تلك المعايير للعب الدور الذي تطلبه في النسق الإقليمي. والذي سيتقاطع بالضرورة كما هو واضح من الشكل مع النسق الدولي. ولو فحصنا المجال الإقليمي المحيط بإيران لوجدنا بأن هناك خمسة عشر دولة تحيط بإيران من كل الجهات ولا يجمع بينها أي نظام إقليمي متسق وواضح، ولتكشفت عـن مجال جيوبولتيكي مثقل بعوامل التوتر والأزمات والحـروب المفتوحة، * وهي بالضرورة جزء من هذه التركيبة. تتطلع فيها إلى تحقيق مصالحها وأمنها القومي، لاسيما في ظل واقع إقليمي جديد وُجِد بعد احتلال العراق أفرز متغيرات عديدة كان أهمها التغير الحاصل في مفهوم التهديد باستخدام القوة.

وعليه فإن أي تشخيص للمشهد (الأمريكي –الإيراني) يجب أن يُراعي تباين المواقع التي تعمل فيها كل منهما، وما هي مواقع التقاطع بين المستويين، ومن هنا فإن التقييم الاستراتيجي لهذا المشهد يأخذ بالتوضح فيما لو كان التقدير يضع بالحسبان:

1-  المستويات الإقليمية محمولة على المستوى الدولي إذ ليس كل ما هو دولي يكون إقليمي بينما كل ما هو إقليمي يكونه دولياً بالضرورة وأي انحراف عن هذا الخط يسقطنا في أخطاء تقدير خصائص كل دولة، ومجالها وأدواتها وإمكاناتها؛ فمجال اللعب الأمريكي هو الساحة الدولية بما فيها الساحات الإقليمية التي تتقاطع بالضرورة مع المستوى الدولي. أما مجال اللعب الإيراني فهو الساحة الإقليمية المتداخلة مع الساحة الدولية.

2- يكمن التداخل الإقليمي مع الدولي في صعود الإمكانات الإقليمية وتقاطعها مع متطلبات القوى المهيمنة في النظام الدولي، ولعل الشرق الأوسط من أكثر الأقاليم التي تكتنز إمكانيات جيوسياسية بالغة الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.

3- إن دولة كإيران تفتقد للمميزات العالمية للعب دور عالمي لافتقارها لأدوات اللعب لا يخرجها تماماً من دائرة التأثير والفعل، وفي هذا ننظر إلى موقعها الجغرافي المميز ومواردها الطبيعية خصوصاً مصادر الطاقة فيها. فضلاً عن قدرتها على التأثير في مجالها الإقليمي على مختلف الصعد السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية- الأمنية.

4- درجة القوة لكلا الدولتين متفاوت بشكل كبير بحيث لا نستطيع معه تخيل إيران تتجه بأساطيلها إلى الولايات المتحدة، بينما العكس هو الصحيح. فالأخيرة تصلح لأن تكون بموقع الهجوم أما إيران موقعها: (ممانع- معرقل- مدافع).

5- منطقة الشرق الأوسط إقليم تقع في دائرة المصالح الأمريكية وتحتل موقعاً متقدماً في إستراتيجيتها القومية على امتداد القرن العشرين والتي يُتوقع أن تمتد في المدى المنظور إلى عشرات العقود. وعليه فإن برمجة المنطقة بما يضمن المصالح الحيوية الأمريكية هو من الأهمية بمكان يحول دون استقلال هذا النظام الإقليمي بالضرورة. والضرورة هنا تنطوي على الحتم.

6- السؤال الأكبر هو غياب تنظيم إقليمي فاعل ذو صورة واضحة في منطقة الشرق الأوسط فهو محدد جغرافيا وليس منظوماً في إطار مؤسسي، حتى أن جامعة الدول العربية لا تشكل مظلة لعدد كبير من وحدات الشرق الأوسط (الدول العربية) بشكل واضح لا سيما في وجود أنظمة إقليمية فرعية كالنظام الإقليمي الخليجي. مما يسمح بهامش مناورة أكبر لإيران في لعب دور إقليمي.

7- إن الخيار الواقعي للولايات المتحدة، قد يصطدم بخيارات تعود للبينة الإيرانية. فما هو واقعي لأمريكا لا يعتبر معقولاً لإيران، وبالمثل فإن طموحات إيران في مستوييها الدولة والثورة تشكل تهديداً حقيقياً لمصالح أمريكا.

8- أخيراً التقييم الاستراتيجي يبنى على فهم تقني لطبيعة القضايا المطروحة بين الجانبين، لا سيما طبيعة التكنولوجيا النووية التي تسعى طهران لإمتلاكها، وتبيان حقيقة النوايا العسكرية أو السلمية الإيرانية من وراء برنامجها النووي.

 

تجليات الاصطدام الأمريكي الإيراني:

سنجد ثلاثة تجليات للاصطدام الأمريكي الإيراني والذي ينبع من حقائق بنيوية تاريخية-نفسية وجيوسياسية ضمن سياق رصد البنية الإيرانية. وهي:

1- محاربة إيران للثقافة الغربية التي تأثرت بها إيران أيام الشاه…

2-تطلع إيران للزعامة الإقليمية مقابل النفوذ الأمريكي…

3- إيران وضرورات الجغرافيا السياسية في زيادة القوة مقابل منافسين إقليميين…

لقد خلق إنهيار الاتحاد السوفياتي بعد انهيار جدار برلين مجموعة من الهزات الكبيرة على المستوى العالمي، فبعد أن أحدث وجوده التوازن والاستقرار بمقابل الولايات المتحدة لعقود ستة منذ الحرب العالمية الثانية أنتج سقوطه فراغاً على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية الأمنية، كما أدى إلى انزياحات كبيرة في الجغرافيا السياسية لمناطق عديدة من العالم. تاركاً فراغاً جيوسياسياً في منطقة أوراسيا وأطرافها، أثر بشكل واضح في الكيانات السياسية ما بعد الاتحاد السوفياتي وعلى تفاعلات الدول الساعية إلى الاستقلال بعد أن خضعت لفترة طويلة لنفوذ السوفييت الذين مارسو انقسيمات جامدة لحدود هذه الدول، التي ما لبثت أن تحاول استعادة كياناتها القومية والعرقية وحذف الحدود التي لا تتمتع بالشرعية التاريخية والعرقية. كما حدث في عام 1992 عندما اندلع العنف في القوقاز وشمل قتالاً ميدانياً بين أرمينيا وأذربيجان، ونشب قتال داخل جورجيا مع الانفصاليين في أوسيتيا، وكثير من الهزات الأخرى في مولدافيا وطاجكستان وأوزباكستان.

وفي نفس السياق وبتحريك العدسة باتجاه دول آسيا الوسطى والإسلامية منها تحديداً سنجد دولاً كتركيا والباكستان وإيران أخذت تسعى لردم الهوة الجيوسياسية التي أنشأها فراغ القوة السوفياتية، إذ أن انهيار الاتحاد السوفياتي لم يخلق ثغرات جيوسياسية في الفراغ الأوراسي فقط بل كان له نتائج جيوسياسية كبيرة على الأطراف الجنوبية الغربية لأوراسيا، فالشرق الأوسط والخليج العربي انتقلت إلى مناطق نفوذ أمريكي خالصة، بوجود بعض الدول المعادية لذلك النفوذ على الأقل في بعض وحداتها لا سيما تلك المتصارعة من إسرائيل. حيث أن الهيمنة الأمريكية الوحيدة سهلت تعبئة الأصولية الدينية والراديكالية الإقليمية في الشرق الأوسط.

هذا بالإضافة إلى أن هذه المنطقة تتألف من دول معظمها في المراحل الأولى من عملية البناء والتي تسعى إلى الدفع السريع نحو امتلاك برامج تنموية اجتماعية واقتصادية فاعلة، فضلاً عن سعيها إلى امتلاك برامج عسكرية بالمعايير المعاصرة دعماً لاستقلالها، على أقل تقدير. مستفيدة من ريع مواردها الطبيعية في سبيل ذلك. ولعل زبينغو بريجنسكي كان مصيباً عندما قال: (لذا لا يكون من قبيل الصدفة أن تكون من بين جميع الدول في العالم التي كانت تسعى منذ زمن بعيد للحصول على أسلحة الدمار الشامل).

إذاً فإيران التي تقع في منطقة مفتوحة بين أمم ودول أخرى تسعى لزيادة نفوذها وتحصنها في ظل هذه البعثرة الجيوسياسية، تدفعها إلى تشكيل منطقة استقطاب إقليمية مستقلة تملأ أي حالة فراغ. وهي لا تخرج عن تلك الدول التي تسعى إلى امتلاك الدرجة القصوى من القوة لا سيما بالنظر إلى مميزات هذه المنطقة الجيوسياسية التي يبين فيها دور النفط بشكل جلي في استراتيجيات الدول العظمى وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، مما يقودنا إلى وجه آخر من وجوه التقاطع بين الولايات المتحدة وإيران في المشهد الذي يجمع بينهما.

مازن محمود علي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

مراجع:

(1) جميل مطر، على الدين هلال:” النظام الإقليمي العربي- دراسة في العلاقات السياسية العربية“، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبقة الثالثة، 1983، ص 17.

(2) زبغنيف برجنسكي: “الفوضى- الاضطراب العالمي عند مشارف القرن الحادي والعشرين“، ترجمة مالك فاضل، الأهلية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1998، ص 75.

(3) د.رياض الراوي: “البرنامج النووي الإيراني وأثره على منطقة الشرق الأوسط“، دار الأوائل، عام 2006، ص40.

(4) جميل مطر، على الدين هلال:” النظام الإقليمي العربي- دراسة في العلاقات السياسية العربية“، مرجع سابق، ص37.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق