التطور الديمقراطي في موريتانيا

لعلنا نحن الموريتانيين أصبحنا في الآونة الأخيرة أناساً ديموقراطيين أو استثنائيين ـ قياسا إلي أشقائنا في العالم العربي ـ دون أن ندري، ذلك ما دار في خلدي وأنا ألتقي بعدد غير قليل من الشباب ومن مختلف الجنسيات العربية ،وكان شغلهم الشاغل هو محاولة فك طلاسم هذه التعويذة الموريتانية ـ الديمقراطية الموريتانية ـ وبشيء من الحماسة كانوا لا يخفون إعجابهم بما حدث بل ويتمنون انتقال العدوي إليهم هذا ما جعلني لا أقاوم إغراء تصديق فكرة الآخر العربي عنا وأخط هذه السطور المتواضعة عن تجربتنا الجنينية في مجال الديموقراطية ،وطرح السؤال هل من دروس مستفادة عربيا؟!

ففي موريتانيا الدولة العربية الإفريقية المسلمة، ذات 3 ملايين نسمة ومليون و30 ألف كلم2، والتي تحتل موقعا قصيا في الوطن العربي ولكنه يربط ربطا إجباريا بين عوالم ثلاث (عربية وإفريقية وأوروبية) والتي تحتل مكانة تاريخية وثقافية ذات رمزية خاصة فكانت مهد المرابطين ومنطلقهم ليأخروا سقوط الأندلس لأكثر من ثلاثة قرون، وهي مهد شنقيط وإشعاعها حيث التجاور والتزاوج بين الجغرافيا والتاريخ والثقافة في الماضي! فماذا عن الحاضر؟!في الحاضر رغم عسر الولادة “الاستقلال” فيما مضي ـ الستينيات من القرن الماضي ـ فإن موريتانيا ولدت من جديد ـ الجمهورية الثالثة ـ حيث لم يكن التاسع عشر من إبريل\نيسان 2007 ـ ولن يكون ـ يوما عاديا في يوميات الشعب الموريتاني وحتي في يوميات العالم العربي، إنه يوم أنجز فيه ثلة من العسكر وعودهم والذين أستلوا علي السلطة في فجر الثالث من أغسطس 2005 ـ وكان بالإمكان أن يحتفظوا بها بألف طريقة وطريقة ـ غير أن العقيد أعل ولد محمد فال جلس مطمئن النفس واثق الإرادة ورأيناه يستقيل من الرئاسة ومن الجيش ويحيل نفسه علي التقاعد ،ويستقيل معه مجلسه العسكري ويتنازلون عن كل إغراءات السلطة وامتيازاتها ـ بعد أن مهدوا الأرضية الصالحة للتحول الديمقراطي ،وبعد أن وضعوا القاطرة علي الطريق المستقيم بمجموعة من الإجراءات نرصد بعضها :

1- عقد أيام وجولات من الحوار والتشاور مع وبين مختلف الفرقاء السياسيين وقوي المجتمع المدني للاتفاق علي متطلبات المرحلة.

2- تعديل دستور 1991 م وتقليص مدة الرئاسة وتقييد الترشح فلايمكن الرئيس طبقا للتعديل الدستوري الأخير أن يترشح إلي لولاية واحدة بعد ولايته الأولي وعليه أن يستقيل من حزبه السياسي بعد نجاحه.

3- منع الحكومة الانتقالية ورئيسها والمجلس العسكري ورئيسه من الترشح للرئاسة.

4- إنشاء هيئة مستقلة لمراقبة الانتخابات.

5- تنظيم قطاع السمعيات البصريات ورفع الوصاية عن كل أشكال الإعلام وفتح وسائل الإعلام الرسمية أمام الجميع.

6- مراجعة الإتفاقيات والعقود مع الشركات الأجنبية في مجال النفط والتي شابها الكثير من الفساد في الماضي.

7- انضمام موريتانيا إلي منظمة الشفافية الدولية في مجال الصناعات الاستخراجية.

8- إعادة العلاقة وتصحيحها مع شركائنا في التنمية.

9- إصدار قانون تنظيم المعارضة السياسية ،وهو قانون يعترف بدور المعارضة ويشركها بقوة القانون في مناقشة كل السياسات ـ حيث لزعيم المعارضة الحق في مخاطبة البرلمان ، وهو يعتبر بمرتبة وزير وله امتيازات بروتكولية خاصة – والقانون يحمي المعارضة من تغول السلطة 0
10 اتخاذ التدابير الحاسمة لحياد الإدارة وجعلها علي مسافة واحدة من كل الفرقاء ومنع استخدام وسائل الدولة والمال العام لأغراض الدعاية السياسية.

وقد توجت المرحلة الانتقالية التي امتدت 19 شهرا بانتخاب رئيس مدني جديد لم يرتدي بزة عسكرية طوال عمره، وبدأت الجمهورية الثالثة بسير المؤسسات الدستورية بشكل طبيعي وقانوني، ولم يغادر هؤلاء العسكر السلطة حتى أطلعوا الجميع على كشوفات الخزينة العامة وأمام الشعب الموريتاني، ليس هذا فحسب بل إنه تم سن وإصدار وتنظيم العشرات من القوانين والإجراءات والمراسيم واللوائح التي تضمن وتضبط سير وعمل المؤسسات الدستورية والديموقراطية في المستقبل.

إنها أقصوصة أشبه بأن تكون من عالم ما وراء البحار! لكنها أمثولة ضربها ذلك البلد “الهامشي” في نظر الأشقاء “الكبار” الثملين بالعدد و”الفقير” في نظر الأشقاء “الصغار” الثملين بالثروة، إنه حدث بحاجة إلى قدر من التأمل والتفكير حيث هز وحرك قناعات ـأمنيات ـ طالما رددناها في أحاديثنا وفكرنا السياسي العربي:

1- أن دولة مركزية بعينها هي من سيقود قطار التحديث السياسي في العالم العربي.

2- وجدلا عريضا حول الخبز والحرية بين السياسة والاقتصاد أيهما أولا!!!

3- وميثولوجيا عريضة حول المركز والأطراف.

إنه حدث برهن علي أن “العافية” قد تأتي من الداخل “ذاتيا” دون تدخل من يدعي دور الطبيب، إنه مثلَ ردا سافرا علي دعوي أن التقدم باتجاه الديموقراطية والإصلاح السياسي لن يأتي من الداخل المحلي والقومي العربي ،وإنما لابد من الخارج لدعم مشاريع الدمقرطة ـ ألم يكن مفاجئا أن الأوروبيين والأمريكيين أولئك الأنصار الطهوريون للديمقراطية والدعاة لها وقفوا من التجربة الموريتانية غير مبالين بل وغير داعمين بداية علي عكس مواقفهم تجاه جيراننا الأفارقة، إنه أمر يدعوا للتساؤل والتفكير حول صدقية دعوي الخارج دعمه التحول الديموقراطي عربيا، إنه حدث نفي واقعيا دور الخارج فيما حدث وأسقط نظريا فكرة استيراد أو تصدير الديموقراطية إذ كان ممهورا بعلامة تقول: “صنع في موريتانيا”.

ومهما يكن الأمر فإن هناك دوافع عديدة وقفت وراء هذا الحدث ومقاصد عريضة وقفت أمامه ووسائل دقيقة تذرع بها الشعب الموريتاني للوصول إلى النتيجة التالية: تداول سلمي على السلطة وعودة للجيش إلى ثكناته وأن يختار الشعب من يرأسه بكل شفافية ونزاهة وليشهد القاصي والداني بذلك.

وبالرغم من تلك النظرة المشار إليها آنفا لدي أشقاءنا في الوطن العربي والمتمترسة وراء حجم الدولة وثروتها لابد من الاعتراف بأن ما حدث في موريتانيا أنعش الآمال عند شرائح عديدة من الشعب العربي بأن حلم التغيير وارد وممكن ورغم كل التشكيك فإن خيار التغيير أسعد بالدليل، بكلمة واحدة ذكرت التجربة الموريتانية المواطن العربي، والحاكم العربي، والمثقف العربي!!! المواطن البسيط الذي يحلم أن يكون حيوانا ناطقا على حد وصف المفكر المغربي محمد عابد الجابري، والحاكم العربي الذي لايزال في نفسه بقية من خير بأن التحول من ضيق الدكتاتورية إلى سعة الديموقراطية ممكن بل ومأمون، وذكرت كل مثقفي العربية ضرورة أن ينفوا اشتراطاتهم الطوباوية لكيلا يعيقوا التحول بديماغوجياتهم المسترخية، وأن يتبنوا الأفكار الواضحة والبسيطة والقريبة وأن يساهموا بوضع التصورات العملية والعلمية لإحداث التغيير وليس إعاقته.

إن من بين الأشياء التي تكشفت عنها التجربة الموريتانية أن العبور إلى الديموقراطية في وطننا العربي لابد أن ينبثق من رؤية واضحة تخدم أغراض الحرية والعدل والسلم، وليس موقفا تكتيكيا لمحاباة الخارج أو خداع الداخل وديدن وضامن هذا العبور هو أمرين:

الأول: الإقرار برشد الشعب وقدرته على ممارسة القرار الذي يخدم المصلحة العامة.

الثاني: الإقرار بأهمية التناوب السلمي علي السلطة بدل صراع الغرائز الذي يؤدي إلى إراقة الدماء وخسارة السلم الأهلي.

إنها مبادئ سامية تقوم على فكرة جوهرية هي التنازل عن فكرة الغالب والمغلوب وعن منطق الإدانة التاريخية، في حكمة رائعة يمثل التسامح والعبور إلى المستقبل طرفي المعادلة فيها
وفي نقاط سريعة لقد انداحت التجربة الموريتانية عن العبر التالية:

1- أن قانون التداول لايزال أزليا وأن استمرار الوضع علي ما هو عليه عائد إلي غياب البديل الجيد والمأمون ،فالناس غير مستعدين للتغيير علي ا لطريقة الأمريكية أي ما يحدث بالعراق.

2- أن التحول الإيجابي ممكن وبشكل سلمي إذا وجدت الرغبة والإرادة السياسية وروح المسؤولية لدي الناس حكاما ومحكومين.

3- ترسيخ قيمة الحوار والتشاور بين أطراف العملية السياسية المختلفين ومجموع الفاعلين من الذوات المدنية والنقابية، هو المقدمة الضرورة للتحول تجاه الديموقراطية.

4- ضرورة الإيمان بحكمة وروح الشعب.

5-  شعور جميع القطاعات في الفضاءين الرسمي والعمومي بالمسؤولية في إحداث التغيير.

إن الاهتداء بروح هذه التجربة قد ينتج دولا متصالحة مع ذاتها، ومع محيطها، وناجحة في إقتصادياتها.

وفي الأخير ورغم الحفاوة التي يبديها هذا المقال بحدث التحول الديموقراطي الموريتاني لأنه يفسح المجال لجهود البناء الوطني علي أسس صلبة من التوافق والإجماع السياسي، إلا أنه لا سبيل للتغاضي عن تلك التحديات البنيوية التي تواجهها موريتانيا علي الصعد الاقتصادية والاجتماعية وحتي على صعيد علاقاتها الخارجية، والتي قد تمثل عوائق خطيرة إذا لم يتم التصدي لها بنفس الدرجة من التخطيط والمسؤولية والعقلانية الذي ساد في المجال السياسي.
ولكن لفهم جوانب هذه التجربة يمكن أن نتمنى على الكل الثقافي سواء أكاديميين أو مثقفين أو منظرين سياسيين ضرورة فتح نقاشات مسؤولة عن واقعة التطور الديموقراطي هذه التي حدثت في بلدنا، والدروس المستفادة منها ليس علي الصعيد العربي فحسب ـ كما رمت هذه المحاولة ـ وإنما على الصعيد الوطني، لنراجع ونفهم بشكل موضوعي السياقات التي تم من خلالها هذا التحول، وهل تمت تبيئة العملية الديموقراطية قسريا أم أن المقدمات كانت صحيحة للوصول إلى هذه النهايات؟

 إنها معالجة تنبئ بضرورة أن يفكر ويبحث المثقفون والمشتغلون على المعرفة على دراسة الحامل الاجتماعي لهذا التحول وما طبيعته وأهدافه؟ هل هناك قوي جديدة مستفيدة من هذا التحول قامت في مواجهة قوي تقليدية؟ أم أن الصراع كان بين مجموعة من النخب العسكرية والسياسية؟ ما كان دور القوي المجتمعية الأخرى في هذا الإنجاز؟ وهل هناك خصوصية موريتانية في التحول أم كان استنساخا لتجارب حدثت في محيطنا الإقليمي؟ بعبارة ثانية هل هذا التحول كان نحلة أو منحة أعطانا إياها العسكر؟ أم يجب عدم الاختزال والتسطيح والبحث في العمق عن عوامل مقصودة ومخطط لها بشكل إرادي واع جعلت هذا التحول ينبع من القاعدة الشعبية والقوي المعبرة عنها كأساس مطلبي؟ إن بحثنا لهذه الأسئلة ـ أظن ـ سوف يكون لدينا نظرة جديدة لما تتطلبه تجربتنا كي نحافظ عليها من جهة، ولكي نطورها من جهة أخري، لأن التفكير العميق والمتأني والموضوعي فيما حدث قد يكون نوعا من التراكم والخبرة التاريخية الإيجابية وهي أمور يعول عليها لدفع وتجذير الفعل والعمل الديموقراطي ،مما سينعكس كذلك علي مستقبل هذا الوطن ـ حين نفكر فاعلين ونفعل مفكرين علي حد تعبير أحد الفلاسفة العرب ـ وفضيلة هذه المراجعة أنها توجد وتنعش ثقافة النقد الخلاقة التي لا تسلم بالمقولات والأحداث عفوا، وإنما تفحصها وتختبرها وتراجعها ،وهو أمر متعين الآن علي ضوء تجربتنا التي عكست المعادلة حيث بدء التحديث السياسي قبل تعزيز التنمية ،لهذا لابد من النظر إلي الأمس في الحدود والقدر الذي يساعدنا في التطلع إلي الغد.

سعد بن عبد الله بن بيه

كاتب ودبلوماسي موريتاني

نقلاً عن البوابة الموريتانية للتنمية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق