التحولات الكبرى في المشهد الدولي: القوى القانعة والقوى غير القانعة

يرى أوغانسكي صاحب نظرية «تحول القوة» أنه على قمة هرم النظام الدولي تتربع دولة أو دولتان أو أكثر وهي دول قانعة، تحاول ضبط الوضع القائم، ومثال ذلك الولايات المتحدة الأميركية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث تتربع اليوم الولايات المتحدة الأميركية على قمة هرم النظام الدولي، وفي النسق الثاني دول غير قانعة الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، ويتم التعامل معها حسب موقعها في النظام الدولي، وفق معادلة القوة قوة الدولة (أ)= دور الدولة (أ) في العلاقات الدولية + موقعها في النظام الدولي.

  وكلما ازدادت قوة الدولة غير القانعة يزداد دورها في العلاقات الدولية، وتسعى لأن تنتقل إلى نسق الدول القانعة، ويرى “أورغانسكي” أن عوامل التغير: هي تغيير في مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتكنولوجية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة القانعة هي الولايات المتحدة الأميركية في مقالنا، لن ولم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا التحول في الدول غير القانعة وهي تتخذ إجراءات للحفاظ على الفجوة بينها وبين النسق الثاني، الذي يضم الدول غير القانعة، وذلك يتوقف على قدرة الدولة القانعة على ضبط السلوك الخارجي لهذه الدول.

 منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م وحتى تسعينيات القرن الماضي والسمة المميزة للنظام الدولي هي ثنائية القطبية، أي وجود قطبين عالميّين هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، وهي مرحلة استندت فيها العديد من دول العالم الثالث إلى هاتين القوتين الدوليتين في تحقيق مصالحها، وانقسم العالم إلى معسكر اشتراكي ومعسكر ليبرالي، ومما لاشك فيه أن انهيار الاتحاد السوفييتي كان له بالغ الأثر في تلك الدول التي انضوت تحت لواء المعسكر الاشتراكي، وفقدت حليفاً دولياً. الأمر الذي جعلها تعيش حالة من الفراغ الدولي بعد أن كانت تستند إلى حليف إستراتيجي فاعل ومؤثر في النظام الدولي، وانتهى المطاف بتلك الدول إلى أن تكيِّف سياساتها مع النظام الدولي الجديد القائم على القطب الواحد.

وأصبحت الولايات المتحدة الأميركية ومنذ تسعينيات القرن الماضي هي القوة العظمى (القانعة) المؤثرة في النظام الدولي، وفرضت إيقاعها على أغلب دول العالم، ويظهر ذلك جلياً مع إدارة جورج بوش الابن حيث التجسيد العملي لنظام أحادي القطبية، الذي يدور بفلكه أغلب دول العالم.

وهنا برزت العلاقة بين “القوة” و”المعرفة” في النظام أحادي القطبية؛ أي إنّ القوة هي التي تفرض المعرفة وتجعلها حقّة لا تعرف الباطل، وظهر ذلك عندما أصبح مفهوم “الإرهاب” (معرفة) جزءاً مهماً من الخطاب الخارجي لمعظم دول العالم، وتكرس هذا المفهوم في الأدبيات السياسية للعديد من الدول، وذلك بفضل “القوة” التي تمثلها الولايات المتحدة الأميركية. فما يصدر عن القوة العظمى يصبح معرفة، وعلى الدول القانعة في النظام الدولي أن تكيّف سياساتها الخارجية مع هذه المعرفة، وذهبت إدارة بوش إلى استخدام القوة وبشكل مفرط في أفغانستان والعراق، من دون إقامة وزن لأي قوة إقليمية أو دولية، واستخدمت الأمم المتحدة كمنبر لإعلان الحروب والعقوبات على الدول التي تعارض نهج واشنطن.

 وإن كانت القوى غير القانعة (روسيا – الصين – الاتحاد الأوروبي) تعارض سياسات واشنطن، إلا أنّ معارضتها لا تعدو المعارضة الشكلية التي لا تقيم واشنطن لها أي وزن، إضافة إلى أنّ تأثيرها محدود من الناحية الإستراتيجية، ولعلّ ذلك يرجع لأسباب تتعلق بكل واحدة منها على حدة، فالاتحاد الأوروبي ما زال محكوماً بعقلية الحرب البادرة. أي إنّ تبعيته ما زالت مباشرة لواشنطن، وهو غير قادر في المرحلة الحالية على الأقل أن يشكل قطباً منافساً للولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من قوته الاقتصادية على الساحة الدولية.

أضف إلى أن واشنطن ما زالت تمارس الهيمنة العسكرية بطريقة غير مباشرة على القارة العجوز، من خلال حلف الناتو الذي وُجِد أصلاً لاحتلال أوروبا – من خلال تخويفها من خطر الشيوعية- ومنع قيام قوة عظمى فيها تنافس الولايات المتحدة الأميركية على مناطق نفوذها، الأمر الذي جعل من الاتحاد الأوروبي تابعاً لسياسات واشنطن. وعلى الرغم من محاولات برلين وباريس صياغة خطاب سياسي أوروبي مستقل، من خلال محاولات عديدة كان آخرها الاتحاد من أجل المتوسط، إلا أن هذه الجهود متواضعة ولا يمكن وضعها في إطار تحول إستراتيجي قد تشهده أوروبا في المدى المنظور، يجعلها تنتقل إلى مستوى الدول غير القانعة بالنظام الدولي أحادي القطبية، على خلاف الصين وروسيا، اللتين بدأتا بالانتقال من مستوى القوى غير القانعة وهي تحاول منافسة الولايات المتحدة الأميركية (كقوة قانعة) اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في مناطق العالم المختلفة

 لا أحد ينكر أن لروسيا تأثيراً كبيراً في الساحة الدولية، فالعديد من التحديات الكبرى كالحرب على الإرهاب والحفاظ على الأمن الأوروبي والدولي، وتثبيت أسواق الطاقة المتقلبة، ومكافحة تزايد أسلحة الدمار الشامل، والتعامل مع الصراعات الإقليمية، بما فيها أزمة الشرق الأوسط، لا يمكن التصدي لها من دون مساهمة بناءة من روسيا.

 ومنذ 13 كانون الأول 1999م أصبحت روسيا “يلتسن” روسيا “بوتين”، وغادر يلتسن السياسي المنشق الذي حاول لعب الدورين الذين لا يمكن الجمع بينهما، وهما الديمقراطي والقيصر، وسلّم السلطة إلى فلاديمير بوتين الذي لم يلعب دور الحاكم المطلق، وكان يقبل بدور المدير البراغماتي خلال فترة رئاسته الأولى 2000 حتى 2004، وأعلن أنه يملك في جعبته مشروعاً لروسيا، ونجح في تحقيق النظام والاستقرار، ودفع بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية، وشملت الإصلاحات تحديثاً للسلطة وشراكة متوازنة مع الغرب، واستطاعت روسيا بوتين تعريف هويتها الجديدة دولياً ومحلياً وإعادة روسيا إلى مكانها الطبيعي كقوة عظمى.

 وعليه، فإن السلوك الروسي الذي ظهر مؤخراً في أروقة الأمم المتحدة، تجاه الأزمة السورية، يمثل نقطة تحول جوهرية في سياسة موسكو الخارجية وفي تعاطيها مع الأزمات الدولية، فقد جرت العادة وخلال الفترة الممتدة من 1990م حتى 2004م، بأن تصوّت موسكو بالإيجاب على القرارات التي يصدرها مجلس الأمن، وغالباً ما تكون هذه القرارات أميركية الصياغة والمصالح، ونادراً ما سمعنا عن تلويح موسكو باستخدام حق الفيتو، وعادة ما تذهب واشنطن لانتزاع شرعية تُدخِلها في مناطق العالم الجيوسياسية، دون الرجوع للأمم المتحدة، التي أصبحت في الآونة الأخيرة غطاء يتم استذكاره للتغطية على مشاريع واشنطن، وظهر ذلك جلياً في الأزمتين الأفغانية والعراقية.

 ومن ثم، فإن مواقف موسكو الجديدة، في العديد من القضايا ولعل أبرزها الأزمة السورية، تؤكد عودتها لتكون قوة عالمية منافسة لواشنطن وقادرة على التأثير في النظام الدولي، ليس فقط في مجالها الإقليمي، بل تعداه إلى المستوى الدولي، وهذا ما يذكرنا بالحرب البادرة. إلا أن المشهد الدولي يفرض هذه المرة “الصين” كقوة دولية صاعدة ومؤثرة لها خطابها السياسي الخارجي المستقل عن الخطابين الروسي والأميركي.

 وإذا خرجنا من أروقة الأمم المتحدة إلى المواقع الجيوسياسية في العالم، نلاحظ حضوراً قوياً ومؤثراً للصين في آسيا والقارة السمراء، وأميركا اللاتينية، التي كانت في الماضي الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية، أي بمنزلة منطقة نفوذ يمنع الاقتراب منها، لتتحول اليوم إلى حديقة أمامية للصين ترتبط بها بعلاقات اقتصادية وسياسية لها طابع استراتيجي.

وليس بخافٍ على أحد الكم الهائل من الدراسات التي صدرت مؤخراً من مراكز بحثية في الولايات المتحدة الأميركية تبشر بصعود الصين كقوة عالمية منافسة لواشنطن في العديد من المواقع الجيوسياسية في العالم، حيث يشير تحليل الأداء السلوكي الخاص بالسياسة الخارجية الصينية- الشرق أوسطية إلى أن الإدراك السياسي الصيني لم يعد يكتفي بإستراتيجية الانكفاء ضمن الحدود الصينية الوطنية، المصحوب بالتعامل مع دول الجوار الإقليمي، وإنما أصبح أكثر اهتماماً إزاء التأسيس لجدول أعمال سياسية خارجية صينية جديدة، ولعل اقتراب الصين من إيران وبناء علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية معها، دليل على اقتراب بكين من منطقة الخليج العربي الذي يعتبر منطقة نفوذ أميركية، لا بل أكثر من ذلك، حيث يعتبر أمن الخليج العربي جزءاً من الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية. وتعتبر هذه العلاقات من الركائز المهمة في سياسة الصين الخارجية، فهي علاقات قديمة وعميقة، ولكنها باتت تعتمد في العصر الحديث على ركائز قوية، وفي مقدمتها استيراد النفط من إيران، إذ تحصل بكين على 14% من وارداتها من إيران، وكذلك تطور الصين حقولاً نفطية في إيران في مقدمتها حقل أزادبيجان، وحقل بارس الجنوبي، وتعمل الصين في إيران إما من خلال شركات نفطية صينية، أو من خلال شركات نفطية صينية مشتركة مع دول أخرى مثل “شركة سوناغول” المشتركة بين الصين وأنغولا.

 وعليه تنتقل بكين هي الأخرى مع موسكو إلى مستوى الدول غير القانعة، التي تبحث عن دور منافس لواشنطن التي فقدت هي الأخرى العديد من نقاط قوتها الإستراتيجية في مواجهات عديدة (أفغانستان والعراق والصومال فضلاً عن الأزمات الاقتصادية العالمية)، كلفتها فاتورة باهظة، ما جعلها تتراجع قليلاً وتسمح للدول بالانتقال إلى هذا المستوى.

الأمر الذي يعني أننا سنكون أمام نظام دولي جديد قائم على التعددية القطبية، نظام تكون فيه موسكو وبكين وواشنطن وربما الاتحاد الأوروبي هي القوى العظمى في النظام الدولي، تفرض إيقاعها الجديد على الساحة الدولية، وتكون بمنزلة صمام أمان إن لم يمنع اندلاع الحروب على الأقل يحدّ من تأثيرها في مناطق التنافس الدولي، ويحفظ الاستقرار من خلال توازنات القوى، فالحرب التي من الممكن أن تشنها واشنطن على طهران أو على دمشق أو على أي دولة أخرى، أصبحت اليوم أكثر صعوبة مما مضى؛ وذلك لأن بنية النظام الدولي تغيرت وطوت معها صفحة نظام أحادي القطبية.

 أحمد قاسم حسين

باحث وأكاديمي فلسطيني

ايطاليا /فلورنسا

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق