البنوك المركزية تبحث عن أدوات جديدة لإخراج الاقتصاد العالمي من سباته وتبديد شبح الانكماش

يشهد العالم نهاية عصر شهد نموا سريعا يقوده الاستثمار في الصين، مع تراجع نمو التجارة العالمية إلى مستويات لم يشهدها العالم منذ جيل، أزمة الأسواق الناشئة ناتجة عن ضعف الاقتصاد الحقيقي أكثر مما هو من ضغوط الأسواق المالية، بعد أن ساعدت الديناميكية في اقتصادات الأسواق الناشئة في أعقاب الأزمة المالية التي حدثت في أمريكا عام 2008 في جر العالم مرة أخرى إلى النمو، بينما استنزف هذا الزخم الآن تقريبا حتى أصبحت الأسواق الناشئة بمثابة الخصم الصافي لنمو التجارة العالمية للمرة الأولى منذ عام 2008 بحسب بيانات جمعتها شركة اكسفورد إيكونوميكس للأبحاث.

جزء من تلك الأزمة كان بسبب ضعف الطلب الذي عكس تدفقات رأس المال، وانخفاض أسعار السلع الأساسية، وتباطؤ نمو الائتمان، وجزء آخر بسبب المشكلات الهيكلية من جانب العرض، ما أدى إلى عملية بيع سريعة وكثيفة للأسهم والعملات، حيث انخفضت أسهم البنوك اليابانية بنسبة تزيد على 20 في المائة منذ إدخال بنك اليابان لسياسات أسعار الفائدة السلبية في 29 من يناير 2016، كذلك انخفضت أسهم البنوك الأوربية بنسبة تزيد على 20 في المائة، وأسهم البنوك الأمريكية انخفضت بنسبة 15 في المائة، وإذا ما رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ عام 2006 يضيف عدم اليقين إلى توقعات الأسواق الناشئة القاتمة التي تهدف إلى تدفقات خارجية لرأس المال من الأسواق الناشئة إلى الولايات المتحدة.

مع انخفاض أسعار الأسهم في أوربا يعتبر البعض عودة الأزمة المالية إلى أوربا، خصوصا وأن توقعات السوق للتضخم في المستقبل عانت تحولا دائما، فالبنك المركزي الأوربي يأخذ على محمل الجد التقديرات الخاصة بالتضخم المستقبلي المبنية على تطورات السوق لأفق يراوح بين خمسة إلى عشرة أعوام، ولم يتمكن البنك المركزي من تحقيق هدفه للتضخم البالغ أقل من 2 في المائة على المدى الطويل، ولا يزال الرقم منخفضا عند 1.4 في المائة.

بشكل عام النظرية الاقتصادية ترى أن أسعار الفائدة السلبية تشجع البنوك على إقراض المال بثمن بخس أكثر وإنفاق المدخرين بحرية أكبر، من أجل إقراض المال إلى الأفراد والشركات، وفي نفس الوقت إحباط الأموال في الخارج من التدفق إلى الداخل وتخفيض العملات إلى مستويات أقل ( بينما النموذج الإسلامي يحرم على المسلم كنز المال، ويفرض عليه استثماره، ولكن وفق نموذج أدوات المشاركة لتحقيق العدالة بين جميع الأطراف، وتشجيع توسيع قاعدة الإنتاج ضمن تحقيق التوازن بين العرض والطلب).

السياسيون اتجهوا نحو الفائدة السلبية الرفع المالي الجديد لتخفيض تكاليف الاقتراض، لكن التجربة يمكن أن تلحق الضرر بالبنوك التجارية، بل إن بنك جيه بي مورجان يرى أن البنوك المركزية الآن تملك القدرة النظرية لتخفيض أسعار الفائدة إلى ناقص 1.3 في المائة في الولايات المتحدة، وناقص 2.7 في المائة في المملكة المتحدة، وناقص 3.45 في لمائة في اليابان، وإلى أدنى مستوى قد يصل إلى 4.5 في المائة في منطقة اليورو، ما يعني أن سياسية أسعار الفائدة السلبية يمكن أن تفتح المجال أمام أداة جديدة قوية للسياسة النقدية.

من جهة أخرى تتسبب أسعار الفائدة السلبية إلى تراجع عوائد السندات الحكومية الأكثر أمانا إلى مستويات منخفضة جديدة، حيث انخفضت عوائد السندات الحكومية اليابانية التي مدتها عشرة أعوام إلى أقل من صفر للمرة الأولى على الإطلاق، بينما تراجعت العوائد على سندات الخزانة الألمانية وسندات الخزانة الأمريكية لتصبح قريبة من مستويات قياسية منخفضة، والتي تبلغ تلك السندات عالميا بنحو 5.7 تريليون دولار، وهي بداية مرحلة ندرة في أصول الدخل الثابت الآمنة التي تقدم عوائد مرتفعة ( وهي تتماشى مع النموذج الإسلامي في عدم ضمان عوائد على الأموال دون استثمارها، لكن العوائد على الصكوك الإسلامية هي مقابل رهن في أصول ثابتة وهي إحدى أدوات التمويل وفق النموذج الإسلامي وبفوائد متغيرة وليست ثابتة، والرسول صلى الله عليه وسلم استبدل الجمل حالا بالجملين والثلاثة مؤجلة لتجهيز الجيش، اعتبره العلماء من بيع السلم والبيع الآجل والتمويل، يمكن للدولة أن تقتدي بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم لتغطية موازينها زمن العجز أو لتغطية مشاريع تنموية ).

يجادل البعض بأن أسعار الفائدة السلبية لا تحفز الاقتصادات باستثناء تخفيض العملات، بل هناك خبراء في بنك دويتشه يقارنون السياسية النقدية السلبية بأسلحة الدمار الشامل، لأنها تؤدي إلى تصعيد حرب العملات التي لن تجلب سوى الدمار المتبادل، وطالبوا البنوك المركزية أن يبحثوا عن أداة أفضل لتنشيط النمو وتبديد شبح الانكماش.

بعدما استنفذ برنامج التسهيل الكمي إلى حد كبير يعتبر نهاية طفرات الائتمان كان أحد الأسباب في ضعف الطلب الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي، والذي قلل بدوره انخفاض الاستثمارات التي تعتبر دائما دافعا حاسما للإنفاق في اقتصاد رأسمالي، ما أدى إلى زيادة الاختلالات بين المدخرات المطلوبة والاستثمارات.

لا توجد حتى الآن حلول بسيطة للاختلالات الاقتصادية العالمية، هناك مجرد مسكنات في الوصفة المفضلة لدى البنوك المركزية ولدى السياسيين في أسعار الفائدة السلبية التي تجعل النقود أقل جاذبية قليلا، ولن تشجع المدخرين على شراء الأصول من النوع الذي من شأنه تمويل الإنفاق، وهو الشئ نفسه ينطبق على برامج التسهيل الكمي التي تشجع البلدان التي تسعى إلى النمو عبر الصادرات، مقابل الزبائن الذين يقترضون بإفراط في الولايات المتحدة الذي مصيره الانفجار على غرار أزمة الرهون العقارية في عام 2008.

إن عالما مع أسعار فائدة أقل من صفر، هو عالم علاقاته الاقتصادية تصبح عرضة للكسر، كما يبدو أن كل المحرمات قد سقطت، وبالتالي من الصعب وضع حدود عقلية، وترك البنوك والمستثمرين في حيرة من أمرهم، كما لاحظ بانك أوف أمريكا ميريل لينش بأن صياغة سيناريو أسعار الفائدة السلبية أمر صعب للغاية، لأن التنبؤ بكيفية تصرف سعر فائدة ليبور في بيئة سلبية مسألة صعبة، وأن البنوك المركزية يجب أن تدرك أن السياسة النقدية تفشل في توليد التضخم.

وفي مجموعة العشرين التي عقدت في شنغهاي في الصين في 27/2/2016 أكدت المجموعة في بيانها الختامي الختامي إلى أن هناك مؤشرات القلق تزداد إلى تضاؤول حركة الرساميل، وانهيار أسعار المواد الأولية، رغم إقرارهم بأن الاضطرابات القوية في الأسواق الملاية لا تعكس أسس الاقتصاد العالمي، وتعهدوا اللجوء إلى كل الأدوات النقدية والملاية والبنيوية، في شكل فردي وجماعي في الوقت نفسه بهدف تعزيز النهوض.

من جهة أخرى قال وزير الخزانة الأميركي جاك لو علينا أن نضاعف الجهود لتحفيز الطلب العالمي بدلا من التعويل فقط على الولايات المتحدة، فيما أكد البيان الختامي أن النهوض المالي الذي يقضي بأن تزيد الدول نفقاتها العامة بهدف تسهيل النشاط الذي ينبغي أن يحصل في شكل مرن، مؤكدا البيان الختامي الأهمية الحيوية للسياسات الاقتصادية البنيوية.

لكن هذا الموقف المنسجم يخفي خلفه تباينات عميقة بين الدول الأعضاء خصوصا المتقدمة والصاعدة، وفي هذا السياق حذر وزير المالية الألماني فولفغانغ شويبله من أن المحاولات لتعزيز النشاط الاقتصادي من خلال مزيد من الليونة السياسية النقدية قد تأتي بنتيجة عكسية، وطالب القوى الكبرى بالتركيز على مهماتها الفعلية أو الإصلاحات البينوية، بدلا من الاحتذاء بنموذج للنمو يقوم على الاستدانة، وخلافا لذلك تمارس واشنطن ضغوطا لاستخدام الفائض لدى عدد من الدول دعما للطلب العالمي، بينما أكد وزير المالية الفرنسي وجوب أن تتحرك الدول القادرة على ذلك واستخدام كل هوامش المناورة.

لذلك اعتبر لو رنغوي الخبير الاقتصادي لدى بنك انترناشونال أن الرأي المخالف الذي عبرت عنه ألمانيا يظهر أن التفاهم لا يزال هشا، فيما علق زاتغ جون من جامعة فودان في شنغهاي قائلا أن كل بلد يحاول فقط الدفع باقتصاد بلاده الخاص مع محاولة عدم التضحية بالآخرين وتجنب حرب عملات.

كما حذرت مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد قائلة من أنه من دون العمل الجماعي من قبل صانعي السياسة النقدية فإن الاقتصاد العالمي قد يتعثر، وهناك شعور بالحاجة الملحة إلى التحرك بشكل منسق.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق