البحث عن قوة التسامح

عندما انعقد أخيرا “مؤتمر ماردين” الذي أقامه المركز العالمي للتجديد والترشيد وبالتعاون مع جامعة أرتكلو في تركيا، ثار بعده جدل كان متوقعاً في بعض جوانبه، لهذا بدا المؤتمر وكأنه حرك نهر الثقافة والفكر الإسلامي بطروحاته النوعية، وكان الجانب الإيجابي من النقاش والذي قاده من دون منازع الدكتور عبد الوهاب الطريري حفظه الله، يتعلق بتلك الملاحظات العلمية تصحيحا وتساؤلا وبأسلوب هادئ وأخلاقي. أما الجانب الثاني من الجدل الذي تمثل أغلبه في ردود غاب فيها أحيانا الحد الأدنى من المنطق والموضوعية والأخلاقية، ولنمثل لعدم علمية هذه الردود نكتفي بالمثال التالي وهو اعتراض أحدهم على بيان ماردين فقد أعلن بأنه حتى ولو كانت هناك فتوى خاطئة تبيح قتل الآخر(العدو) فالأولى السكوت وإغفالها حتى يحقق من يطلقون على أنفسهم الجهاديون أهدافهم بالنيل من العدو!

فأي خطل في هذا الفكر، والرجل يغفل هنا الحق الذي تقوم عليه الشريعة. والعدل الذي هو مبتغاها. وواجب العلماء في التبيين والنصح والتبليغ، وفي تقديري الخاص أن عدم التلقي والاستبشار بهذا النوع من المراجعات والنقد البناء لدى بعض المهتمين وطلبة العلم يعود لمشكلة كبيرة تتعلق أولاً بغياب مفهوم الفضاء العام الذي يمثل مساحة عامة لتلاقي الأفكار وجدالها بالتي هي أحسن، فهذا التقليد غائب اليوم – للأسف – رغم معرفتنا له تاريخيا.

يضاف إلى ذلك طبيعة المتلقين فهم إما أفراد مشبعون بنوع من الفكر الخاطئ فهم إيديولوجيون لا يقبلون الرأي الآخر، أو جماعات عضوية ضيقة الأفق. فغياب المحاججة والعقلانية بالمعنى الفلسفي والفكري هو سبب هذا الضياع الثقافي وتراجع الانفتاح على الرأي المخالف، كما أن هناك مستوى من الفلسفة التشريعية ومن الخطاب ومن الأدوات استخدمه مؤتمر ماردين، وخصوصاً جرأته وانفتاحه على قناعات وقيم ومفاهيم العولمة، لا نقول شكَّل صدمة لكنه في الحد الأدنى يعتبر غريباً تماماً على البنية الفكرية والثقافية لأغلب الأوساط التي تتدثر بالمقولات والنماذج التراثية في هذه الظروف.

وهذا ما لاحظناه من خلال الحساسية المفرطة لدى الخطاب المضاد من عبارات كالأخوة، والإنسانية، والتسامح، والقانون، والعولمة، ولهذا نقترح أن يكون هناك ومن خلال “التوصيل” اهتماماً خاصاً بقناعات الأفراد ومخاوفهم، وأن تضع النخبة من الفقهاء والمفكرين في المستقبل نصب أعينهم خطاباً يسير سير أضعفنا، وفي الأسطر التالية سنحاول قراءة الجانب المتعلق بالسياسة والعلاقات الدولية في توصيات ماردين، ذلك أن أغلب التيارات الفكرية والثقافية – للأسف – في منطقتنا العربية والإسلامية لم تستطع أن توسع أو تجدد حتى الآن أفق رؤيتها ونظرتها للعالم، رغم التطور الهائل الذي طال المفاهيم التقليدية للزمان والمكان والحدود، مصداق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم “تكون الأرض كالقصعة بين يدي الآكل”، وذلك بالرغم من اهتمام هذه التيارات بموضوع الدولة – التي تمثل مفهوماً وشخصاً ووحدة في الفكر السياسي والقانوني والدولي – جديداً نسبياً على الجغرافيا السياسية والثقافية للعالم، إلا أن هذه التيارات ظلت أسيرة مبادئ عامة لما يجب أن تكون عليه علاقة الدولة الإسلامية مع الآخر – الدولة الافتراض في هذه اللحظة من التاريخ – وهي نظرة مستقاة في الغالب من الأحكام الفقهية القديمة التي كتبت في أغلبها للسلطة حينئذ، والتي تشكل موروثا على أهميته وغناه، من السذاجة إن لم يكن من تغييب العقل الاعتقاد بإمكان تطبيقها أو إنزالها على الواقع المعاصر للمسلمين وللعالم.

وتكمن أهمية هذه الملاحظة بعد ما لاحظته من سجال أعقب مؤتمر ماردين الذي جعلنا ندرك بأن هناك تياراً عريضاً بأكمله من أبناء المسلمين وفي هذا العصر قد أغلق منافذ التفكير والتدبر في الواقع العالمي وحقيقة واقعنا ووضعنا كمسلمين، فحصر العلاقة بين المسلمين وغيرهم بالصراع والحرب، جاهلاً أو متجاهلاً كل الجوانب الأخرى التي قد تمثل مجالاً موجباً للعلاقة وللتعارف وللتعاون. ومتجاهلاً عدم النهي عن البر بالآخر مهما كان مخالفاً في العقيدة والفكر والرأي ما لم يكن معتدياً مقاتلاً أو مضيقاً على المسلمين في القيام بدينهم. من هنا الأهمية الخاصة والنوعية لمؤتمر ماردين الذي حاول أن يراجع موضوع تقسيم الدار كمسألة اجتهادية في الفقه السياسي الإسلامي، لإدراك صاحب الدعوة والمجتمعين من العلماء والدعاة للحاجة الماسة في هذا الزمان (بعد 700 سنة) لتجلية تلك المبادئ ومراجعتها وتعميق الاجتهاد حولها، وهو أمر مطلوب وواقعي، مطلوب لأن تراث العلماء على أهميته وغناه ومشروعية الاستنجاد به يبقى تراثاً، فلا عصمة عند المسلمين إلا لكتاب الله وسنة المصطفي صلى الله عليه وسلم. وواقعي لأن تراكيب الوضع الدولي وتقاسمه شهدت من التغير في الشكل والمضمون ما لم يعهده تاريخ البشرية جمعاء، وهو تغير باد في كثرة الشخوص (الوحدات) الدولية وتخصصها وتنوعها، وتداخل نطاقاتها (المحلية والإقليمية والدولية)، وتفاوت الدول، وبروز مرجعيات تمثل مواثيق ومعاهدات ذات سمة عالمية وقعت عليها أغلب الدول المسلمة – لاحظ غياب دولة موحدة – فالعلاقات اليوم لا يمكن حصرها في نمط واحد ولا في علاقة واحدة بين دولة وأخرى فحسب بل تعدت إلى العلاقة مع مجموعات الدول المتنوعة الأنظمة والسلطات والأديان والمواقف، ومع مجموع التكتلات، والمنظمات والجمعيات، بل حتى الشركات والأفراد والتيارات ذات “النزعة العابرة ” وهي علاقات تتنوع من الثقافة إلى الاقتصاد والتجارة إلى السياسة والتعاون. وبالطبع مع ما يعتري ذلك من الصراع والاتفاق.

فإذا كان هذا الذي وصفناه من التطور قد حصل في بيئة العلاقات بين الناس والدول ورافقه الكثير من التغير والتطور في الأفكار والثقافة على المستوى العالمي, فكيف يمكن أن يغفله فكر حي كالفكر الإسلامي، وشرع كشرع الإسلام، صفته العالمية ومهمة حملته الشهادة على الناس؟ لاشك أن الإصرار على البقاء ضمن نظرة فقهية قديمة للعالم كانت تناسب أوضاعاً معينة – مهما كان مغريا – سيسم المسلمين المعاصرين بقصور النظر وضبابية الرؤية وبالعجز عن التطور. إن الثروة الوحيدة التي نمتلكها بعد القرآن والسنة هي العقل والفهم الذي يجعلنا ندرك كيف نحفظ وجودنا ونقيم خلافتنا ونخطط لدعوة إخواننا في الإنسانية إلى النور والحياة. لهذا من الإيجابيات الهامة – إضافة لما تفضل به الدكتور الطريري الداعية المؤثر والعالم المنفتح على الحوار واختبار الأفكار في سجالاته الجميلة التي اطلعت عليها – هي محاولة هذا المؤتمر المساهمة في صياغة التصورات النظرية التي تجعل من الشرع منطلقاً ومن الواقع العالمي مجالاً وموضوعاً للنظر والنقد في ضوء المتغيرات الكبيرة التي حدثت في تاريخ و بيئة العلاقات الدولية التي تعصف اليوم بفعل العولمة بالمشهد العالمي. وهذا الفهم لبيئة التغير وحجمه هو ما سمح للمؤتمر أن يصوغ مصطلحاً ومفهوماً جديداً يتجاوز تصنيف الدار التقليدي وهو “فضاء تسامح” وهو مفهوم جدير بالنظر والتفكر إذ يرى في الأرض اليوم دار سلام، وهو مقصد شرعي بلا شك أن يعم السلام في أرض الله عباده، وليس معناه أن يكون الناس ملة واحدة بمؤمنهم وكافرهم، وليس من معانيه بالضرورة محو ونفي الاختلاف مطلقاً، لمخالفة هذا الأمر للسنن.

ومفهوم “فضاء تسامح” هو مفهوم يجعل من المسلمين قوة سلام في العالم لا قوة حرب وتدمير كما يروج البعض، ويعيد الثقة في بعث قدرة المسلمين على المجادلة والحوار والإقناع، وهو دليل قوة الدين والحضارة والثقافة. وهو بهذا يسحب البساط من أمام أدعياء الجهادية، ومن تحت مروجي “الإسلاموفوبيا” الذين يشوهون سمعة المسلمين والعالم الإسلامي بافتراءاتهم وقراءاتهم المجتزأة وأهدافهم المعلنة والخفية. وهذا المفهوم غير تنكري بل واقعي، لا يتنكر للاستثناءات الأخرى لفضاء التسامح وخصوصاً بؤر الصراع والتوتر التي تشتعل فيها الحرب وعلى رأسها فلسطين المحتلة والعراق وأفغانستان، بل يعلنها كما هو واضح وبديهي مساحات للتحرير والمقاومة بناءً على الشرع والقانون، ويدعو مناضليها ومجاهديها للوحدة والتعقل والإقناع كي تكسب القضية.

وفضلاً عما تقدم فهذا المفهوم مناسب للوضعية التاريخية التي تمر بها الأمة الإسلامية، وضعية التفرق وذهاب الريح، إذ ليس من مصلحتنا بل لا قدرة لنا بأن نحارب العالم من حولنا، ولسنا مطالبين بذلك لا شرعاً ولا عقلاً، ونقدِّر أن هذا الاصطلاح الجديد “فضاء تسامح” لا يقوم من فراغ بل ينطلق من فهم عميق بمقاصد الشرع الكلية ومن فلسفة الإسلام في التعامل مع الآخر “المخالف” ومن تقاليد الإسلام العملية في إكمال الخير والترفق في إزالة الشر.

ينطلق من فهم مسؤول ومستوعب لحقائق الوضع الدولي وللأوضاع الإستراتيجية وتوجهات القوة في العالم، بل ويلمح إلى فرصة مثالية علينا اقتناصها كمسلمين، تكمن في محاولة جعل الآخر يقتنع بأن يحتكم إلي القانون الدولي وإلى مؤسسات الشرعية الدولية التي أقامها بنفسه وأن ينبذ الازدواجية في المواقف والمعايير، بدل الاحتكام الدائم إلى منطق القوة. هذا الفهم للواقع والنص، هو ما دفع مؤتمر ماردين للدعوة إلى عدم المراهنة على التصورات غير الشرعية وغير الواقعية، التي تجعل المبادرة بالحرب في يد كل إنسان، أي إنسان! ليس ذي دولة ولا سلطان، فأمر الجهاد هو من أعمال الدول بالدرجة الأولى وليس للإنسان الفرد والمواطن سلطة تتجاوز الدولة في تقرير أمر جلل كالقتال، ونتيجة الأعمال التي تجعل من الجهاد أمراً شخصياً يقوم به فرد أو جماعة معروفة، لا تفيد شيئاً سوى جعل الآخر يتسلح بعقيدة الحروب الوقائية والاستباقية والتي عانت وتعاني منها الأمة الإسلامية، التي ليست اليوم على استعداد حقيقي وواقعي لمواجهتها، فليس من المصلحة أن تناقض الوسيلة الغاية.

إن الفكر الفقهي والسياسي والثقافي للأمة الذي يقوم عليه العلماء والمفكرون ويمثل مضموناً لإستراتيجيتها، مدعو أن يتوجه إلى ضمان وتحقيق “المصالح” وحفظها بالحوار والإقناع مهما امتلكنا من أدوات القوة، مع عدم إغفال إعداد القوة لاستعمالها إذا لزم الأمر في مكانها وزمانها المناسبين. والمطلوب اليوم ليس الحماس الأجوف ولا التهور العاطفي وإنما بناء القوة بمفهومها الواسع، قوة العقل وقوة الحوار وقوة الصناعة وقوة التجارة وقوة العلم وقوة الفهم وقوة الإعلام وقوة السلاح. باختصار قوة الإنسان المستخلف في عقيدته وأخلاقه وفكره وجهاده وانضباطه.

سعد بن عبد الله بن بيه

كاتب ودبلوماسي موريتاني

نقلاً عن صحيفة المدينة السعودية

الوسم : فكر إسلامي

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق