الاستراتيجية الأمريكية في سورية: انسحاب كامل أم تكتيكي؟

انعقدت قمة سوتشي بين رؤساء الدول الثلاثة -تركيا وروسيا وإيران- بشأن سورية، وبدا فيها غياب واضح للحضور الأمريكي، فيما يبدو للوهلة الأولى أنه محاولة إقصاء للدور الأمريكي في سورية، بسبب ضعف هذا الدور أصلاً على الأراضي السورية.

لكن إذا ما تم تتبع مسار الوجود الأمريكي في سورية منذ بدء الثورة السورية، يتبين بأن أمريكا فاعل أساسي في المشهد السوري، وأن هناك إستراتيجية أمريكية شاملة تريد أمريكا تنفيذها في سورية.

مع بداية الثورة السورية دعمت أمريكا فصائل المعارضة السورية المسلحة بقدر معين يتيح لمقاتلي الفصائل الدفاع عن أنفسهم وتحقيق بعض التقدم على قوات النظام السوري، دون تمكنهم من حسم الأمور لصالحهم، بل إن أمريكا منعت الدول الداعمة للثورة السورية من تقديم الأسلحة النوعية لهم، كما أنها رفضت -أو عرقلت على أقل تقدير- إنشاء مناطق آمنة شمال وجنوب سورية، ولم تقبل بفرض حظر للطيران في سورية أيضاً.

هذه الإجراءات التي اتبعتها أمريكا، كان من شأنها أن تبقي رحى الحرب دائرة في سورية بين قوات المعارضة المسلحة وقوات النظام السوري، على مبدأ –لا غالب ولا مغلوب-، وهو ما أدى إلى تفاقم الأمور في سورية، وانزلاق البلاد إلى مزيد من التفتت على الصعيدين الجغرافي والاجتماعي، وهو الأمر الذي تريده أمريكا.

دفع الحضور الأمريكي في سورية، روسيا إلى التدخل في سورية في 30 أيلول من العام 2015، وجاء هذا التدخل للحفاظ على الوجود الروسي على المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، وهو الأمر الذي لطالما سعت إليه روسيا في العديد من دول العالم.

ومن الممكن اعتبار التدخل الروسي في سورية جزءاً من الإستراتيجية الأمريكية التي تهدف لإغراق روسيا في المستنقع السوري واستنزافها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، غير أن روسيا لم تكن تملك العديد من البدائل، فإما التدخل في سورية، وإما إقصاؤها عن المياه الدافئة في تلك الدولة.

كما أنه من المهم التنويه إلى أن النظام “البعثي” في سورية هو حليف لروسيا، ولا تريد روسيا أن تظهر أمام العالم بمظهر المتخلي عن حلفائه، ولا تريد أن يحدث في سورية كما حدث في العراق.

منذ بداية التدخل الروسي في سورية، عملت روسيا على تسريع إنهاء الحرب “لصالح النظام السوري”، عبر استخدامها المفرط لآلتها العسكرية أحياناً، واستخدامها لوسائلها الدبلوماسية والسياسية أحياناً أخرى، وهي تعلم أن إطالة أمد الحرب في سورية لن يكون بصالحها، كما أنها تريد أن تظهر بمظهر الممسك بزمام أمور حل الأزمة السورية.

في موازاة ذلك، عملت أمريكا على إفشال مساعي روسيا، وتأكيد حضورها في المشهد السوري بشكل مباشر عن طريق التهديد باستخدام القوة العسكرية تارة، وباستخدام هذه القوة بالفعل تارة أخرى-كالقصف الأمريكي لمطار الشعيرات في محافظة حمص-، أو بشكل غير مباشر عبر دعم فصائل مسلحة معينة في سورية، كما عملت على إفشال العديد من المؤتمرات المتعلقة بسورية.

ومن المعروف أن أمريكا لطالما استخدمت مثل هذه الوسائل في حربها الباردة مع روسيا في عدد من الدول الأخرى، كأفغانستان وأوكرانيا.

ولا يمكن الحديث عن سورية دون المرور على الدور الإيراني فيها، والذي تراجع نسبياً بعيد التدخل الروسي في سورية، غير أنه من الممكن القول أن أمريكا تعاملت مع الوجود الإيراني في سورية على أنه مرحلة مؤقتة وستنتهي، وذلك بسبب العديد من المعطيات أهمها الوضع الداخلي الهش للنظام الإيراني.

يدرك الناظر لخريطة الأحداث في سورية حجم الوجود الأمريكي في المشهد السوري، حيث عملت أمريكا على إنشاء كيان كردي شمال سورية، تستخدمه كورقة ضغط على كل من روسيا والنظام السوري وحتى تركيا، أما شرق سورية -العراق- ففيها وجود عسكري أمريكي بالأصل، وجنوب سورية أقامت أمريكا قاعدة التنف العسكرية على الحدود الشمالية للأردن، وفي الجنوب الغربي هناك إسرائيل، التي اعترف لها دونالد ترامب بالقدس عاصمة لها، وغرباً هناك لبنان التي لا تدين بالولاء لروسيا على أقل تقدير.

وبالتالي يشكل الحضور الأمريكي حول سورية ما يشبه الطوق إلا من جهة البحر المتوسط والشمال الغربي، وهو الأمر الذي تدركه روسيا التي سارع رئيسها فلاديمير بوتين إلى إعلان انتهاء العمليات العسكرية لبلاده على “التنظيمات الإرهابية” في سورية أواخر العام 2017، وأعلن احتفاظ بلاده بقاعدتي حميميم وطرطوس، وهما الحلم الذي لا تود روسيا أن تخسره، كما أنها لا تريد أن تستنزف أكثر من ذلك في الحرب السورية.

لا تزال أمريكا تسعى لإطالة زمن الحرب في سورية على الرغم من التراجع الكبير في صفوف المعارضة المسلحة، وسقوط مناطق كبيرة جداً في يد النظام السوري وحلفائه، الأمر الذي دفع البعض للقول بأن أمريكا تخلت عن سورية، وهو ما يعني إطلاق يد الروس فيها، غير أن خريطة الأحداث في سورية تشير إلى عكس ذلك، لذا من الممكن أن نشهد مجدداً عودة الدعم لفصائل من المعارضة السورية المسلحة، حتى تعيد الأحداث في سورية إلى نقطة الصفر مجدداً، وهو ما سيرهق جميع الأطراف في سورية، ويوصلهم إلى طريق مسدود للحل, وبالتالي النحو باتجاه تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ، وهو الأمر الذي تريده أمريكا ولوحت به أكثر من مرة عبر طرحها مسألة فيدرالية سورية.

بعيداً عن الإستراتيجية الأمريكية أو الروسية في سورية، تبقى إرادة الشعب السوري فوق الجميع، وبالتالي يتوجب على عقلاء سورية ورموزها الواعية وضع إستراتيجية تحفظ للشعب السوري حقوقه وتضحياته، وتفضي في نهاية الأمر إلى سورية الموحدة الحرة العادلة التي تحفظ وتحترم حقوق جميع السوريين.

محمد هيثم

كاتب سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق