الاحتلال الإيراني يدافع عن مكتسباته في المنطقة العربية خصوصاً بعد فشله في الحفاظ على مكتسباته في اليمن

الاحتلال الإيراني يدافع عن مكتسباته في المنطقة العربية خصوصا بعد فشله في الحفاظ على مكتسباته في اليمن

احتجاجات وحراك تظاهري يستهدف استعادة وإصلاح الدولة ضد الفساد الطائفي تمتد من العراق إلى لبنان، ولا شك أن قوة الاحتجاج العراقي كانت مدنية عابرة للطوائف تتجسد في دمجه بين المطلبي الاجتماعي والاقتصادي وبين السياسي، رغم أن المطلب السياسي لا يصمد وحده إذا غاب المكون المطلبي، ولعل هذا سر نجاعة تلك الاحتجاجات التي أربكت الاحتلال الإيراني.

انطلقت تلك الاحتجاجات من البصرة في يوليو، احتجاجا على أزمة الكهرباء في ظل موجة الحر الشديد التي شهدها العراق وكثير من دول المنطقة، وتردي سائر الخدمات في بلد نفطي غني، وزاد من زخم تلك الاحتجاجات سقوط قتيل يدعى منتظر الخلفي الذي لقب بوعزيز العراق، ثم شهدت بغداد في 29 يوليو إضراب عمال السكك الحديدية احتجاجا على تأخر تسلم رواتبهم، ثم كان التجمع الأبرز يوم 31 يوليو في ساحة التحرير، ومن ثم امتد من العاصمة إلى محافظات الجنوب الأخرى.

انطلقت احتجاجات موازية في لبنان على غرار الاحتجاجات في العراق في 22 أغسطس، واستمر زخمها يتصاعد حتى أصبحت صادمة لمحتكري التكلم باسم الشعب من الزعماء الحزبيين والطائفيين، خصوصا بعد استخدام حسن نصر الله لغة وحيدة تتجاهل الشعب اللبناني، ويصر دائما على ترهيب معارضيه، خصوصا عندما يكرر عبارة الخيارات المفتوحة، وتبريره الدائم المستمر أن مشاركته في حرب خارج لبنان في سوريا من أجل حماية لبنان، بينما عملت العكس وجلبت الخطر لمنطقة البقاع، ولا سيما لبلدة عرسال السنية، وبعلبك ذات الغالبية الشيعية، وفجرت التشاحن الطائفي في عاصمة لبنان الشمالية طرابلس، وعطل الشغور الرئاسي لأكثر من سنة.

أطلق العبادي في التاسع من أغسطس حزمة إصلاحات وافق عليها مجلس الوزراء في اليوم نفسه، وشملت الإصلاحات بإبعاد جميع المناصب العليا في العراق عن المحاصصة الحزبية والطائفية، وجدت تأييداً من المرجعية الشيعية في النجف، خرجت على إثرها مسيرات مؤيدة لإصلاحات العبادي، لكنها تزامنت مع أزمات داخل البيت الشيعي، خصوصا بعد دعوة لجنة برلمانية لمحاكمة المالكي في 16 أغسطس، لكن على الفور حذرت إيران المحتلة للعراق في اليوم التالي، واعتبرت المالكي خطاً أحمر، واجتمع مباشرة رئيس الوزراء بقاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني نتج عنه خلاف بين الطرفين خرج على إثره قاسم سليماني من الاجتماع غاضبا، وحاول مقابلة السيستاني لكنه رفض مقابلته.

تفاقمت الأزمة بعدما طالبت المرجعية بإصلاح الجهاز القضائي، اعتبرت طهران أن المالكي وقاضي المالكي مدحت محمود، خطين أحمرين لإيران المحتلة لا يمكن للعبادي أن يتجاوزهما ولا للمرجعية الشيعية في النجف.

وإن كانت الحالتان العراقية واللبنانية ذواتي التعدد الطائفي أكثر وضوحا وأدوم صراعا، لكن العراق واقع بين احتلالين ساهم في تمزيق العراق، لكن يشترك البلدان في كل منهما أحزاب دينية تدين لولاية الفقيه في طهران، ومليشيات موالية لها تستقوي على الدولة، وتؤمن بالمغالبة لا بالمشاركة، وصراع على السلطة لا إدارتها.

بينما اليمن يقع بجوار السعودية التي تتفوق بثقل إسلامي واقتصادي ودبلوماسي التي أفشلت الاحتلال الإيراني من تعزيز مكاسبه أو تثبيتها في اليمن، واعتبرت السعودية اليمن خطاً أحمر مثله مثل الكويت والبحرين وبقية المناطق الخليجية، ووكلاء إيران في اليمن هم الآن بين كماشة للقضاء عليهم، وإعادة الشرعية إلى الدولة، ولن تسمح السعودية لأي تدخل في الشأن اليمني، لا إيراني، ولا أممي، رغم أنها اعتمدت على قرار أممي 2216، الذي كان ضربة قاضية لم يتوقعها الجميع في أن تعتمد السعودية على هذا القرار، رغم محاولات الالتفاف عليه من أطراف إقليمية ودولية.

يبقى النموذج السوري التي أجمعت مختلف الأطراف على مرجعية اتفاق جنيف 1 الصادرة في يونيو 2012 لأي حل سياسي محتمل، الذي يشترط حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات، لكن يبقى الاتفاق غير ممكن تطبيقه وترجمته على أرض الواقع، بينما نجحت المبادرة الخليجية في إقصاء علي عبد الله صالح في اليمن بعد تمنع في نوفمبر 2011، خرج من السلطة بعد ضمان حصانته، وموافقة مجلس النواب اليمني على تلك الحصانة.

تستغل إيران انشغال السعودية في تحرير اليمن من وكلائها، بتعزيز نفوذها في سوريا، رغم التنسيق السعودي التركي في سوريا، وحول الأزمة السورية هناك قرارات صدرت من مجلس الأمن مثل القرار رقم 2139 ومن قبله القرار رقم 2209، بخصوص حل الأزمة السورية وفق مؤتمر جنيف 1، وتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات، إلا أنها وبالتنسيق مع دي مستورا لتسويق خطته التي لا تعتمد على بيان جنيف 1، ولا يحدد مصير الأسد، التي ترفض المعارضة بالمطلق أي وجود له في المرحلة الانتقالية المرتقبة.

عاصفة الحزم سرعت الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الست رغم أن الحرس الثوري يعتقد أن التوقيع على الاتفاق سيحمي الثورة الإيرانية، لكن في الواقع فإنه في نفس الوقت بدأ يتقهقر المشروع الطائفي في المنطقة، البداية كانت بتحرير اليمن من هذا المشروع، لكن دي مستور مثل المبعوث الأممي لليمن الذي حاول الالتفاف على القرار 2116 في اليمن ولكن رفضت السعودية الاستجابة لمطالبه أو إعطائه فرصة التدخل بأن يلتف على القرارات الأممية التي صدرت حول الأزمة السورية.

يحاول دي مستورا تسويق خطته التي عرضها على مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والإفريقية حسين أمير عبد اللهيان في مقر السفارة الإيرانية في بيروت، ولا ترى المعارضة السورية بأن خطة دي مستورا توحي بإرادة جدية لحل الأزمة السورية.

الحالة السورية هي صراع على سوريا، ولا يزال محتدما، وإيران لا تزال مصرة على الاستيلاء على دمشق وعلى أراضي واسعة من سوريا، فيما يتساءل لافروف عن أن يكون الأسد شرعيا فيما يخص أغراض تدمير الأسلحة الكيماوية في الوقت الذي ليست له شرعية لمكافحة الإرهاب، لكن نسي لافروف أن تسليم بشار الأسد الأسلحة الكيماوية هو تفادي للضربة الأمريكية، ولم يكن تسليمه للأسلحة اختياريا، ولكن لافروف لم يذكر أن بشار الأسد استخدم الكيماوي ضد شعبه، لذلك هناك تساؤل: ما هي الفخاخ التي تنصبها أمريكا لإيران ولروسيا في سوريا؟

لو عادت بنا الذاكرة قليلا إلى خشية القوى الخارجية، خصوصا بريطانيا، التي كانت تخشى في ذلك الوقت الاستقلال الفعلي لمصر، لذلك دأبت على عزل الثورة العرابية عندما صممت على عزل العرابي من منصبه كوزير للحربية وإقالة الحكومة الوطنية، وتبع ذلك إصدار بريطانيا مذكرة مشتركة مع فرنسا بها نفس المطالب، وأرسلت بحريتها إلى الإسكندرية استعدادا للضغط على مصر لتنفيذ أهدافها، بينما كانت الدولة العثمانية في ثبات سياسي عميق غير قادرة على حماية البلاد في عام 1882.

وبعد أن ضغطت الحركة الوطنية الشبيهة اليوم بالاحتجاجات في العراق وفي بيروت، وفرضت على الخديوي أن يعين عرابي وزيرا للحربية، إلا أن بريطانيا سايرت التوجه الدولي، وأعدت العدة من أجل احتلال مصر، وبالفعل قصف الأسطول البريطاني الإسكندرية.

أما على المستوى الدولي عقد مؤتمر الأستانة (إسطنبول) بمشاركة أوربية واسعة في يونيو عام 1882، عندما أعلنت الدول ومنها بريطانيا أن لا أطماع لهم في مصر وهي نفس الخطابات التي تتكرر اليوم ويستخدمها الدبلوماسيون، لكن أصر المبعوث البريطاني على إضافة جملة في ما عدا الأحوال القهرية، وهي الأساس التي استندت إليها بريطانيا في احتلال مصر بعد أسبوعين من عقد المؤتمر، ما جعلت الشعب المصري ينقم على الخديوي في تسليم مصر للأجانب، أو اعتبرته دمية في يد الأجانب لا يمتلك القرار لصالح دولة مصر، ودعم الوطنيون ثورة عرابي، خصوصا بعدما عزله الخديوي، لكن تلقى عرابي هزيمة في معركة التل الكبير، حتى استسلم عرابي للقوات البريطانية، وتم احتلال بريطانيا لمصر،  ونفي عرابي إلى خارج مصر ثم رجع إلى مصر عام 1901.

فالعراق عانى من احتلالين، وسوريا تعيش اليوم حالة من الصراع عليها إلى أن تتم تسويات بين الفرقاء الدوليين في سوريا.

صحيح أن الاحتجاجات مدنية عابرة للطوائف، فإن العبادي وجد نفسه في موقف صعب بين رغبة جماهيرية مطالبة بالإصلاح، وإرادة سياسية أقوى منه، وبالفعل نجح شركاء العبادي وخصومه في امتصاص صدمة الإصلاحات الأولى، وبدء مرحلة إفراغها من محتواها، عبر صيغة تبادل تفاهمات، بعدما التقى العبادي بالسفير الأمريكي في العراق، الذي أعلن دعمه لما يقوم به العبادي بما يتوافق مع الدستور وهي عبارة التفافية غامضة تعني أن أمريكا ترفض إصلاحات العبادي التي توافقت أمريكا فيها مع إيران عبر محاصصة طائفية توافقية وهي سبب الفساد المستشري في العراق وهو ما تدركه المرجعية الدينية.

ونجحت إيران في إيقاف ملاحقة ابنها المدلل نوري المالكي بتهمة سقوط الموصل بيد تنظيم داعش، بل وضعت إيران خطاً أحمراً أيضا أمام التعرض لرئيس مجلس القضاء الأعلى مدحت المحمود يد المالكي، ولم تكترث بالمطالبات الشعبية كما لم تكترث بمطالب المرجعية الشيعية في النجف الذي رفض السيستاني استقبال قاسم سليماني.

ولم يأتي هذا من فراغ، بل كانت إيران أذكى من بريطانيا، التي احتلت مصر، ولم تتمكن من البقاء فترة طويلة، بأن شكلت إيران مليشيات شيعية عراقية تابعة لها في العراق، واشتركت مع بول بريمر في تسريح الجيش العراقي الذي انضم أفراده المسرحين إلى داعش لمقاتلة مليشيات الحشد الشعبي الشيعية.

يرفض البرلمان العراقي تمرير الحرس الوطني، وحتى الآن الحشد الشعبي أقوى من الجيش العراقي، الذي لم يتمكن من تحرير الموصل ولا الأنبار من يد داعش، وهو ما يجعل الجيش غير قادر على وقف خروقات الحشد الشعبي الذي يصول ويجول في العراق لممارسة التطهير العرقي ضد السنة، كان آخرها قيام مليشيات باختطاف 42 معتقلا بالقرب من مدينة الدجيل يستقلون 20 سيارة رباعية الدفع كانوا في طريقهم إلى بغداد لاستكمال إجراءات إطلاق سراحهم بعد أن ثبتت براءتهم من التهم الموجهة إليهم.

علينا ألا يصيبنا اليأس لأن الإصلاح يبدأ بخطوة تتبعها خطوات، وإذا كانت ولاية الفقيه في إيران وجهت صفعة للمرجعية في النجف، بعدما وجهت المرجعية في النجف صفعة للمرجعية في طهران، عندما رفضت استقبال قاسم سليماني، والجولات لم تنتهِ، فكما وقفت المرجعية الإيرانية في وجه احتجاجات إيران ضد الفساد عام 2009، فإنها تحاول وقف الاحتجاجات في بغداد، ولكنها ليست الجولة الأخيرة، بل قد تبدأ جولات، وتبدأ باحتجاجات مشتركة في إيران والعراق عبر تنسيق مشترك بين الشعبين.

المرجعية في النجف تتقاطع مع نظرية ولاية الأمة على نفسها للفقيه اللبناني الراحل الإمام محمد مهدي شمس الدين التي ترفض نظرية ولاية الفقيه، لذلك بدأت مرجعية النجف تتحرك من أجل أن تعيد للعراقيين ولايتهم على أنفسهم، وإعادة علاقتهم بالجوار العربي، وخصوصا مع السعودية، من الذين صادروها تحت نظر الدبابة الأمريكية باسم الدين والمذهب وأهل البيت وحماية المكاسب الشيعية، بينما هي من أجل حماية مكاسب المشروع الإيراني في المنطقة.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق