الإسكان: الملف الشائك

يعتبر ملف الإسكان أحد الملفات الشائكة في الوقت الحاضر، وما وصل إليه من كونه أحد أبرز التحديات التنموية والاقتصادية والاجتماعية، أغلب المعالجات كانت في الفترة الماضية جزئية بعيدة عن المعالجة الشمولية.

إذا أردنا أن نحل مشكلة الإسكان، علينا أن نعالج أولا التشوهات الهيكلية في السوق العقاري التي كانت سائدة منذ فترة طويلة وساهمت في قلة المعروض وفي ارتفاع الأسعار نتيجة المضاربات واحتكار الأراضي كمستودع للقيمة.

من المؤشرات المهمة حول تطورات السوق العقاري، كشفت مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات ومؤسسة النقد العربي السعودي ومقارنتها بالبيانات الصادرة عن وزارة العدل، حيث كشفت عن إنشاء نحو 1.5 مليون وحدة سكنية خلال الفترة من 2009-2014 بتكلفة إجمالية بأسعار الشراء بلغت 542.1 مليار ريال وفقا لبيانات وزارة العدل، لم يتم بيع سوى 100.9 ألف وحدة سكنية بنسبة 6.8 في المائة من إجمالي الوحدات السكنية المبنية التي تم إنشاؤها خلال تلك الفترة.

يعود ذلك لعدة أسباب، بسبب افتقار السوق في الفترة الماضية إلى آليات لتمليك المساكن، وغياب سوق عقاري متنافس، وغياب مصادر التمويل، وأهم عامل وقف أمام بيع الوحدات الارتفاع في أسعار الوحدات بما لا يتناسب مع دخول المواطنين، الذي وقف عائقا أمام تملك المواطن، لأن المواطن لا يستطيع أن يتحمل هذه الأسعار المرتفعة، حتى ولو كانت عبر التمويل، رغم انخفاض هامش الربح الذي يطالب به المطورون العقاريون من 180.7 في المائة عام 2012 إلى 91.7 في المائة عام 2014.

العامل الرئيسي يعود إلى ارتفاع أسعار الأراضي، وبسبب ارتفاع أسعار الأراضي رفض أيضا 120 ألف متقدم لصندوق التنمية العقاري من استلام قروضهم عام 2014، كما لا يستطيع صندوق التنمية العقاري تمويل جميع المتقدمين، ووصل عدد المتقدمين بشرط الأرض بنهاية عام 2014 نحو 448326 طلب، ومن دون شرط الأرض سيصل العدد أضعاف هذا الرقم.

لذلك أنشأت الدولة آليات جديدة لمعالجة قصور صندوق التنمية العقاري، بإنشاء وزارة الإسكان، باعتماد 250 مليار ريال لبناء 500 ألف وحدة سكنية في جميع مناطق المملكة، وزيادة رأس مال صندوق التنمية ب90 مليار ريال، وصلت قيمته إلى 224 مليار ريال و144 مليون ريال بنهاية عام 2014.

يجب أن نعترف أن صندوق التنمية العقاري، وحلول وزارة الإسكان غير كافية، إذا لم تتجه الدولة نحو تمكين مشاركة القطاع الخاص بعد تأهيله، حتى يكون قادرا على خفض تكاليف الإنشاء بنسبة 20 في المائة لاستخدامه تقنيات حديثة، وهو الأقدر على قيادة هذا القطاع.

 وفي كثير من دول العالم يصل التمويل لقطاع الإسكان 90 في المائة من إجمالي القروض المقدمة، بينما في السعودية لا تتجاوز كثيرا عن خمسة في المائة، لذلك نجد أغلب شركات التطوير العقاري تعتمد على التمويل الذاتي، فتكون منتجاتها محدودة لا تلبي الطلب المحلي، كما لا تزال نسبة التمويل العقاري يمثل نسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يمثل نسبة 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا والولايات المتحدة.

 ويتوقع أن تصل قيمة القروض أكثر من تريليون ريال، وهي فوق إمكانيات البنوك، لذلك يمكن للدولة أن تتجه إلى تحقيق فكرة تأسيس بنك يشتري القروض العقارية من البنوك لتوسيع قاعدة الإقراض، حتى تتمكن الدولة من حل أزمة الإسكان وهي في نفس الوقت تساهم في تنويع قنوات الاستثمار في السوق.

انخفاض أسعار النفط أثرت على أسواق الأسهم، وعلى أسعار الأصول، لكنها لم تؤثر على أسعار الأراضي، بسبب احتكار مساحات كبيرة من الأراضي، وهناك 400 مليون متر مربع قابلة للتخطيط في الرياض ومثلها في جدة، وحسب بيانات فإن 50.5 في المائة تمثل نسبة الأراضي البيضاء من إجمالي المساحات داخل النطاق العمراني، تعادل 3761 كيلو مترا مربعا، وهي بيانات لم تحسب المناطق غير المستغلة تجاريا وهي مساحات كبيرة جدا قابلة للاستغلال على المدى الطويل.

يجب أن تتجه الدولة نحو الإسكان الجماعي المتمثل في مدن الضواحي بعد ربطها بالمركز، وقد نجحت سنغافورة في تأسيس 3 ملايين وحدة سكنية حديثة، وهي تجربة يمكن أن تستفيد منها السعودية، كما يمكن أن تتجه نحو إعادة بناء المناطق الشعبية داخل النطاق العمراني، وفق نظام البناء المتعدد، لأن الوحدات السكنية يجب أن تكون في الضواحي، أو في مناطق بعيدة عن المركز بالإضافة إلى فرض رسوم على الأراضي البيضاء التي تتجه الدولة نحو فرضها، ستساهم في فك احتكار الأراضي، وستساهم في خفض أسعار العقار بشكل خصوصا البعيدة عن المركز.

 لكن الأراضي التجارية لن تنخفض أسعارها بل ستزيد، لكن من الضروري اللجوء إلى البدائل والخيارات الأخرى، بدلا من التركيز على خيار واحد.

 يمكن التوجه نحو توفير ابتكارات عديدة، مثل تغيير استراتيجية صندوق التنمية العقاري من التمويل العقاري بالكامل للمقترض إلى إقراضه الثلاثين في المائة من القرض مع الفوائد، والسبعين المتبقية ستكون من البنوك، حتى لا تترك البنوك تتلاعب في فرض فوائد تراكمية على المواطنين، أي أن الدولة توفر حماية للمواطنين من ابتزاز البنوك، وهو حل بديل من محاولات وزارة الإسكان خفض دفعة التمويل العقاري إلى 10 في المائة، في حين ساما ترفض وتصر على استقرار قطاع التمويل أهم، كما يجب على البنك أن يعتمد على رهن العقار لا على رهن الراتب في تسديد ال 70 في المائة من القرض على المواطنين المقترضين بهدف توسيع دائرة الإقراض لأكبر شريحة ممكنة من المواطنين.

وهناك عدد من الحلول يمكن أن تتجه إليها الدولة، لتوفير أراضي، مثل إزالة تسوير الأراضي غير المحياة في المناطق الزراعية وخارج العمران التي منحتها الدولة من قبل، وحصر المساحات الحكومية المملوكة للدولة داخل النطاق العمراني ومنحها لوزارة الإسكان، ويمكن للدولة أن تتجه إلى نزع ملكية الأراضي السكنية داخل النطاق العمراني التي تحتاجها وزارة الإسكان أو المطورين العقاريين، وتعويض أصحابها وفق أسعار السوق خصوصا الأراضي غير المستغلة وغير المخططة.

وقد ذكر في صحيفة الاقتصادية في 16 أكتوبر 2015 على لسان وزير الإسكان بأن تخفيض أسعار العقارات ليس الهدف الاستراتيجي ، بل توفير المساكن المناسبة، يجب أن يكون هناك هدف أكبر نحو توفير المسكن المناسب، ونحو تخفيض أسعاره كهدف استراتيجي، من خلال توفير عدد من الحلول، والتوجه نحو خلق منافسة بين المطورين بمشاركة المستثمر الأجنبي الذي يمتلك خبرات لا يمتلكها المستثمر والمطور المحلي، خصوصا الشراكة مع المستثمر الأميركي الذي يمتلك خبرة واسعة، وسرعة في توفير منتجات سكنية متنوعة تتناسب مع دخول المواطنين مع الالتزام بكود بناء موحد.

رفض المواطنين استلام قروضهم العقارية، كان بسبب ارتفاع أسعار الأراضي التي تمثل نحو 60 في المائة من نسبة العقار، فيمكن التوجه نحو خفض نسبة تكلفة الأرض إلى 35 في المائة من تكلفة العقار، أو أقل خصوصا بعد توعية المواطنين باللجوء إلى السكن المناسب أو في الأدوار المتعددة، وليس شرطا في وحدات خاصة بهم، لأن الأراضي المتاحة لن تستوعب بناء وحدات خاصة، والمرحلة السابقة ليست بالضرورة أن يتم تطبيقها في المرحلة الحالية، بسبب ظهور عدد من المتغيرات الجديدة التي طرأت، منها زيادة الكثافة السكانية، وهناك حدود للتمدد الأفقي للمدن الذي يرهق الخدمات المكلفة على الدولة.

 التشوهات الهيكلية في سوق العقار التي حدثت خلال عقود مضت يجب أن يتم القضاء عليها، بعدما كان سوق العقار في الفترة الماضية يستثمر في منح الأراضي التي وزعتها الدولة على المواطنين في المضاربات العقارية التي رفعت الأسعار بشكل غير مبرر نتيجة غياب قنوات استثمارية بديلة، والتركيز على سوقي العقار والأسهم.

أزمة الإسكان ليست عصية على الحل، ولكن يجب ألا تكون الحلول جزئية، بينما يجب التركيز على أساسيات سوق العقار، والاتجاه نحو خلق سوق عقار.

وقد توصلت العبقرية الصينية إلى بعض الحلول لمواجهة الازدحام وتخفيضه بنسبة 30 في المائة، بابتكار حافلات ثلاثية الأبعاد ضخمة تسير بسرعة 60 كيلو مترا في الساعة، وتعمل بالطاقة الشمسية، وتستطيع الواحدة منها نقل 1400 راكب في كل رحلة في جزئها العلوي، بينما ترك جزؤها السفلي فارغا كي تمر عبرها السيارات، كيلا تؤدي ضخامة الحافلة إلى عرقلة مرور المركبات السائرة خلفها، وكذلك نحن قادرون على ابتكار حلول لأزمة الإسكان وفق ابتكارات عديدة.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق