الإرهاب يعيد ترتيب العلاقات الدولية

بعد خمس سنوات من الصراع السوري الذي بدل وجه العالم، من بروز داعش، خراب دول الجوار، صعود إيران، زعزعة أوربا، الدور الروسي كان دورا حاسما في قلب موازين القوى على الأرض لا يمكن تعويض هذه الانكفاءة، الأرض ليست لبشار، والتركيبة السكانية لم تكن تصب في مصلحة القوة الإيرانية التي لن تستطيع تغيير مسار المعركة على الأرض، أي أن الأزمة السورية لم تعد أزمة محلية عارضة.

قبل زيارة كيري لموسكو، حذرت موسكو واشنطن من تأخرها في مناقشة ملف وقف إطلاق النار في سوريا، وكانت زيارة كيري لموسكو الثالثة في سنة واحدة، القضية الأبرز هي مصير الأسد، ومصير محادثات جنيف، لم يعد الشعب السوري بمفرده يدفع الثمن بل والعربي والتركي والأوربي، فيما تعتقد أمريكا أنها محصنة من تلك الأزمة.

وكما وضع بول بريمر العراق على طريق الحرب الأهلية عندما بدأت إيران تستهدف القوات الأمريكية في العراق بعدما قدمت له الخدمات اللوجستية حتى تخرج منه ويصبح العراق ساحة إيرانية، ولكن خرجت أمريكا بعدما وضعت إيران في مواجهة مع العرب السنة، أي تهيئة بيئة حاضنة للإرهاب، ما يعني أن الولايات المتحدة تتحمل الفوضى في العراق، وهو ما يفسر تضارب الأنباء حول نشر مارينز أميركيين في العراق على خلفية توتر الوضع الأمني، ما جعل فصيل مدعوم من إيران يهدد إذا لم ينسحبوا سنتعامل معهم كقوة محتلة.

 كذلك الروس عازمون على إقامة الدولة العلوية في سوريا، لكن سارعت الولايات المتحدة إلى إقامة قواعد عسكرية أميركية موازية للقواعد العسكرية الروسية في سوريا، أجبرت روسيا على الخروج جزئيا من سوريا، بعدما ضربت المعارضة السورية طائرة ميراج للنظام السوري بصاروخ حراري فهمت روسيا أن سوريا ستتحول إلى أفغانستان ثانية للقوات الروسية ،فاضطرت للخروج الجزئي لإنقاذ اقتصادها المنهار.

حتى الاتحاد الأوربي يبيع روحه لأجل صفقة مع تركيا، وهي جزء من الخطة الأمريكية التي تتقن استخدام ورقة الإرهاب من أجل أن تحل تركيا مكان روسيا كمعبر لنقل الغاز من الشرق الأوسط إلى أوربا، ما فرض على روسيا أن تحاول وقف الخطة الأمريكية بحضورها إلى سوريا، رغم ذلك ذلك وجدت روسيا أن حضورها يصب في صالح الخطة الأمريكية التي تستهدف استنزاف الاقتصاد الروسي، مما فرض على روسيا الانسحاب الجزئي لإنقاذ اقتصادها المتهالك.

يريد الاتحاد الأوربي الحفاظ على صفقته مع تركيا بعدما حشدت هنغارية جنودها وأغلقت حدودها في وجه اللاجئين، فيما يعد مثالا كلاسيكيا لسياسة حل مشكلتك على حساب زيادة مشاكل جارك، حتى أن كاميرون رئيس وزراء بريطانيا اتهم بالتفريط في حقوق بلاده في موقفه المؤيد لمشروع اتفاق المهاجرين مع تركيا التي يتهمها ساسة المدرسة التاتشرية، مثل وزير العدل، ووزير الدولة لشؤون التوظيف، بتوجيه اتهام إلى تركيا بابتزاز الاتحاد الأوربي، حتى أن هذه المدرسة اتهمت كاميرون أنه لا يمتلك مهارة الأتراك في المفاوضات مع بروكسل، خصوصا وأن بروكسل تخشى على 20 تريليون دولار أصبحت فوق لغم الإرهاب، وحتى شينغن أصبحت في خطر وهي منجز سياسي تتغنى بها أوربا.

 يمكن أرادت أوربا الاستغناء عن الولايات المتحدة، وبالفعل لا زالت اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة متعثرة، لكن بعد موجة الإرهاب التي ضربت فرنسا وبروكسل ستخدم الولايات المتحدة، ويفرض على أوربا على أنها غير قادرة عن التخلي عن الحاجة إلى الولايات المتحدة، وستسرع في توقيع الاتفاقية، ومزيد من محاصرة روسيا لتنفيذ الأجندة الأمريكية في جعل تركيا تحل محل روسيا، وتسمح لها بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي حسب المخطط الأميركي.

لكن مع سياسات أوباما المثالية والمزعزعة لاستقرار الشرق الأوسط، نتيجة التراجع الأميركي عن منطقة الشرق الأوسط تركت فراغا مفتوحا لقوى أخرى، وما كان روسيا إلا أن تحركت لملء الفراغ، أي أن الولايات المتحدة جعلته مصيدة للأعداء، لكن بعض المحللين يرون أن أوباما اتبع سياسة احتواء إيران من خلال دعم خطط الصين وروسيا للصعود على القمة، وهي سياسة ليست حصيفة ويحول أمريكا من أمة لا غنى عنها إلى أمة تتراجع.

 تركت الولايات المتحدة الإرهاب يسرح ويمرح كورقة تستخدمه لتنفيذ عدد من الأجندات، وهو ما يفسر نشاط ماكينة داعش الدعائية والإعلامية التي وظفت الكثير من الشباب المسلم من جميع أنحاء العالم، مما حول منطق الولاء لدى هذه العصابة إلى شركة عابرة للحدود تبحث عن ممثلين، وبفضل وسائل التواصل الحديث أضحى العالم بأسره ساحة مفتوحة.

بالطبع بعد تشكيل السعودية التحالف الإسلامي العسكري لم يخيف المليشيات الشيعية مثل الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن بل وحتى القاعدة وداعش بأن نهايتهم قد قربت، ما جعلهم يبحثون عن ملآذات آمنة، والانتقال إلى سرت الليبية كمركز لداعش بدلا من الرقة والموصل وسيطرتهم على جيب يمتد 200 كيلو مترا على الساحل الليبي، تتوسطه مدينة سرت التي يخططون لجعلها مركزا لهم في حال تم دحرهم في سورية والعراق.

تريد الولايات المتحدة أن تتعايش أوربا مع حقيقة أن الهجمات قد تصبح أمرا شائعا وبوتيرة متزايدة، وكأن الإرهاب أصبح أمرا واقعا جديدا في أوربا، حتى تجعل أوربا تغير من علاقاتها مع العرب في منطقة الشرق الأوسط خصوصا بعد الدفاع المستميت التي مارسته فرنسا نيابة عن المملكة العربية السعودية في الملف النووي مع إيران، وكذلك في الملف السوري.

 لكن بعدما أصبح الإرهاب أمرا واقعا في أوربا ستغير فرنسا من منهجها وتقاربها مع العرب خصوصا مع دول الخليج، وبشكل خاص مع المملكة العربية السعودية، لكن كانت السعودية جاهزة لمثل تلك الخطط بتشكيل التحالف العسكري الإسلامي لضرب الإرهاب أينما وجد، وهي على استعداد للتنسيق الأمني مع أوربا بعدما كانت ترفض أوربا في السابق، وهي التي حمت الجماعات الإرهابية الهاربة من المنطقة تحت حجج وذرائع كثيرة، وأكبر مثال على ذلك من قام بالعملية الانتحارية في بروكسل حذرت منه تركيا بعدما رحلته إلى بروكسل، لكن تراخي السياسات الأمنية في بروكسل جعلها عرضة لمثل تلك الهجمات.

تريد الولايات المتحدة أن تتشارك أوربا معها في وضع عدد من التساؤلات من أهم تلك التساؤلات من يدفع الأوربيين إلى جدار التطرف والخوف من المسلمين؟، رغم أن انفجار العنف له بذور اجتماعية وأشواكه سياسية بقيادة الولايات المتحدة واستخبارات دول أخرى، حيث تعتبر الحركات الاجتماعية المتطرفة ظاهرة سوسيولوجية على مر التاريخ، وغالبا ما تلتحف بالنصوص الدينية المجتزأة، وتجعل لها أهمية بالغة في التجييش والتجنيد، خصوصا حينما يشيخ كل فرد نفسه، ويبتعد عن العلماء الراسخين في العلم، كما أن العقيدة المتطرفة ما كانت لتنمو لولا غياب أو حضور في منتديات المتطرفين أو صمت العلماء والمفكرين بجانب غياب الفكر النقدي بشكل عام.

مثلما أيقظ بول بريمر الفتنة التاريخية بين الشيعة والسنة في العراق، التي قادت إلى حرب وفرز طائفي حتى تحول الشعب العراقي إلى كانتونات منعزلة، بعدما كان الشعب العراقي متعايش بين كافة الطوائف، بل وحتى أنه شعب متزاوج بين الطوائف خصوصا بين الطائفتين السنية والشيعية، ولا توجد حدود فاصلة بين تلك الطوائف.

 فإنه كذلك اللعب بورقة الإرهاب أيقظ اليمين المسيحي واليهودي المتطرف في مقابل الغلو عند المسلمين، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن أبي عامر عبد الله بن لحي قال حججت مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدما مكة، قام حين صلى صلاة الظهر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة – يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء كما يجاري الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا ودخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به. رواه أبو داود والإمام أحمد في مسنده، أي أن هناك القدر الكوني والقدر الشرعي، والقدر الشرعي مطلوب لدفع الغلو ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).

 حتى أن هؤلاء الغلاة أصبحت لهم خطوط سياسية وتوجهات أصولية، في ظل استفادة التطرف من التطرف المضاد، وإحياء الغربة الثقافية من العنصرية التي أذابتها الديمقراطية والدولة الوطنية في الغرب التي ساوت بين جميع المواطنين بلا استثناء وجعلت الجميع بلا حقوق منقوصة، كما كانت سائدة سابقا، فيما أصبحت أمريكا عالقة في خطيئة العبودية، حتى أن خمس الذين صوتوا لترامب في كارولينا الجنوبية يعتقدون أن أبراهام لنكولن كان مخطئا في تحرير العبيد.

أصبح المسلمون أمام تحدي الاندماج في مجتمعات أوربا وأمريكا بعدما نادى ترامب بإعادة التعذيب، واقترح كروز بتسيير دوريات في الأحياء ذات الغالبية المسلمة، أي أن مرشحي الحزب الجمهوري الأميركي يتنافسون في طرح مقترحات تستهدف المسلمين، ليس سرا أن أغلبية الأميركيين قلقة لأربعة أسباب لها صلة بالأجانب: الخطر الأجنبي المتمثل في الإرهاب، فشل وقف هجرة الأجانب غير القانونيين منهم، التعددية والتنوع ( غير البيض)، التأدب السياسي الحذر في انتقاد الآخرين.

بدأ الإعلام خصوصا الأوربي يهتم بموضوعات الشرق الأوسط خصوصا في سوريا وتونس وليبيا، والعلاقات بين أمريكا وإيران، وأهمية اعتقال المطلوب الأمني في أوربا صلاح عبد السلام، وقمة بروكسل واتفاق بشأن التعاون مع تركيا لمواجهة أزمة اللاجئين، لإعادة ترتيب أوراق العلاقات الدولية بناء على المعطيات الجديدة.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق