الأمن الفكري ومسؤولية العلماء

وصلت يد الإرهاب الآثمة بعد الدالوة والقديح والعنود إلى مسجد قوات الطوارئ في عسير، لتقتل أناساً لا ذنب لهم، ليسوا في معركة ولا في قتال، ولكن كيف تمت استباحة دمائهم، اعتبرتها داعش عملية نوعية، وتقول في بيان لها صادر عنها أن الله يسر لها أسباب التنفيذ على يد جندي الخلافة الغيور أبو سنان النجدي، ناسفا صوب صرح من صروح الردة العائد لما يعرف بقوات الطوارئ، التي كان لها دور كبير في التنكيل بأهل التوحيد وطمس دعوته إلى آخر ضلالات البيان الذي أصدرته داعش وهل غفلت عن قول الله سبحانه وتعالى وعظمة هذه الآية ودلالاتها (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا).

الحلول الأمنية ليست كفيلة بمفردها في القضاء على الإرهاب، لأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر، الذي هو واجب علماء الأمة ومفكريها ومثقفيها، قد تكون هناك عوامل تساهم كرافد للإرهاب، مثل الفقر، والاستبداد، وغياب التنمية، لكن يبقى الفكر هو المحرض الأساسي للتطرف والإرهاب.

إذا لم نتمكن من مواجهة الفكر بالفكر، يبقى الشباب فريسة سهلة للتجنيد، متى ما توفرت حواضن للإرهاب، ولكن نحتاج إلى شيء من المصارحة والمكاشفة دون التشكيك في النوايا والاستعجال في استصدار الأحكام.

من أهم عوامل مواجهة الفكر بالفكر أهمية تجديد الخطاب الديني، وتنقية المناهج من فقه التشدد، التي تعتبر أحد أبرز عوامل التحريض على التطرف، وهذا لا يعني تنقية المناهج من التشدد، منع المدارس الدينية، وقفل مدارس تحفيظ القران الكريم، كما يعتقد البعض، ممن يبحثون عن أساب التطرف، بل إن التعليم الديني عامل من عوامل تجفيف منابع الإرهاب إذا لم يتم أدلجته، لأن السيدة عائشة رضي الله عنها، حينما سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت كان خلقه القران، وقول الله سبحانه وتعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) وكثيرون اهتدوا بالقران.

لكن ينبغي الموازنة بين المناهج، وكلها تدخل ضمن دائرة المناهج التي دعا لها القران الكريم في قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) والقوة لا يمكن تجزئتها، بل تشمل كافة القوى بما فيها القوة العلمية والتنموية والاقتصادية والصناعية والعسكرية.

أساس التطرف بيّنه القران الكريم في عدد من الآيات، بأن هناك فئات من المجتمعات في قلوبهم زيغ ناتج عن الغلو (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب)، (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)، (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)، (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).

والغلو هو تجاوز الحدود، وهو كما التقصير، كل واحد منهما مذموم في الدين، وينهى الدين عن تمويه الحق وكتمانه، بينما أمر بإظهار الحق، حتى ولو تعارض مع قناعات يؤمن بها الأتباع، حتى لا يتحولوا إلى أتباع الهوى ويتحولوا إلى بغاة بعيدا عن الحق.

نحن نحتاج إلى صياغة عقول الشباب ووجدانهم منذ طفولتهم، بعيدا عن الفقه الفج المتشدد، الذي يسود في العديد من المناهج الدراسية، لأن صياغة العقل والوجدان يتحكمان في سلوك وتصرفات الشاب عندما يكبر إيجابا أم سلبا.

فعندما يدرس الطالب فقها غير متبصر، وغير نير، وغير متوازن موضوعيا، يتناسب مع واقعه المعاصر الذي يعيشه، لمجرد أنه فقه فج متشدد تقليدي، ممزوج بالعادات والتقاليد، وفق أمزجة أتباع متشددين، تدخل المجتمع في تناقضات اجتماعية مدمرة، ويعيق التنمية، ويفقد معها المجتمع توازنه واستقراره.

مثل هذا الفقه غير المتبصر، يحول المجتمع إلى أرض خصبة، لاستنبات التطرف، يمكن أن تستثمره أجندات داخلية أو خارجية، بسبب استبعاد الفقه المتبصر، وجعله يواجه معارضة عنيفة وشديدة، من الفقه التقليدي الممزوج بالعادات والتقاليد السائد، والمحروس بالأتباع، باعتبار أنهم يدافعون عن الفضيلة وعن العقيدة الصحيحة، بحجة حماية المجتمع من الانحرافات العقدية والوقوف أمام انتشار الرزيلة.

نحن نحتاج إلى تأصيل المفاهيم وترشيدها، مع شيء من التركيز، والتوضيح الموضوعي، ما أقصده هنا يجب أن يحل الاعتراف بتعددية الآراء، بدلا من قصرها على رأي أحادي، وعلى مدرسة واحدة، بسبب أن مفاهيمنا وتأويلاتنا متعددة وليست موحدة، لكن إصرار الغلاة والمتشددين على احتكار الفهم، والاجتهاد، والرأي، دون غيرهم، بل يودون الحصول على سلطة كسلطة الدولة، لفرض هذه الرؤية الأحادية على المجتمع، أو يريدون من الدولة تفويضهم سلطة على المجتمع، وسلطة على الفكر والوجدان تتنافى مع آيات الأمر بالمعروف (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولله عاقبة الأمور)، أي أنفع الناس للناس من دون إكراه أو تسلط (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، ولكن تكون الدعوة بالإسلام الالحكمة قبل الموعظة الحسنة، وليست وفق التسلط، والتغيير بالقوة والإكراه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور).

من يمارسون هذه السلطة هم أتباع وليسوا من العلماء المراجع الدينية المعتبرة، فابن عثيمين مثلا يعتبر أن (الحق يعرف بالرجال، وليس العكس، فقال لا تجعلوا الحق مرتبطا بالرجال، لأن الرجل لا يأمن على نفسه الفتنة، ربما يعتقد أنه معصوم، وأن كل ما يقوله مشروع)، فمنذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما مدح أحد الصحابة صاحبه قال له ويحك قطعت عنق صاحبك.

وسبق أن حاول المنصور في عهده، أن يبحث عن فقه وسطي، فطلب من الإمام مالك -179، أن يدون كتابا جامعا وسطا بين مدرسة ابن عمر المتشددة، وبين مدرسة عبد الله بن عباس المتساهلة، وهو معيار فقهي لا حديثي، فكتب موطأه، الذي يحتوي على 1720 حديثا، ولكن الإمام مالك رفض أن يعمم كتابه على الأمصار كما رغب المنصور، وهو مخالف لنهج الدين، ونهج المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنه يرفض أن يفرض رأيه الذي يحتمل الصواب والخطأ.

وكل مصنف يجمع الأحاديث على طريقته فالإمام أحمد -241 جمع أكثر من 30 ألف حديث، وهو يرى أن الحديث الضعيف أحب إليه من آراء الرجال، بينما البخاري -256 جمع 2602 حديثا، ومسلم -261 جمع 4000 حديثا، وابن ماجة -273 جمع 4000 حديثا، وأبو داود -275 جمع 4800 حديثا، بينما يرى الإمام أبو حنيفة -150 خلافا للإمام أحمد أن القياس والاستحسان أحب إليه من الحديث الضعيف، بل يرى الإمام مالك أن الاستحسان والقياس تسعة أعشار العلم، والإمام الشافعي -204 رأي على خلاف من استحسن فقد شرع، هذه التعددية التي كان يؤمن بها السلف.

الإشكالية ليست في إتباع العلماء الكبار، والمراجع الدينية الذين يعرفون تلك التعددية في الآراء، بل المشكلة في الأتباع الذين يعتقدون أنهم حراس العقيدة، وحراس الفضيلة، ولولاهم لهلك المجتمع، وانحرف عن جادة الصواب فضلوا وأضلوا.

لكن يجب على المراجع العلمية والدينية أن تتبع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وتتبرأ من خطاب الأتباع المتطرف، والمتشدد، الذين انحرفوا عن الجادة، مثلما تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم من عمل خالد بن الوليد، وقال إني أبرأ إليك مما صنع خالد.

لأن أصحاب هذه الخطابات المتشددة، يقولون ما يقوله غيرهم، على سبيل التقليد والتكرار، وربما على سبيل الحشد، والتشويش، والتظاهر بالعلم، رغم أنها أراء تعارض آراء كبار أئمة العلم، أو ينتقي التابع منها ما يريد، ويخفي الآراء الأخرى التي تخالف آرائه المتشددة، وكثيرون يعرفون التفاصيل الدقيقة، ولا يصلون إلى روح الدين، ومن ثم ليسوا أهلا للاجتهاد، لأن الانشغال بالتفاصيل الكثيرة، تجعله ينحصر في مذهب التقليديين، رغم أنه متحدث مفوه، ويحفظ ما لم يحفظه غيره، عن طريق الاستظهار، وبارز وله أتباع في التواصل الاجتماعي وهي ليست مقياسا كما في البخاري ومسلم (الناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة) أدخل البخاري هذا الحديث في باب رفع الأمانة.

هذا النوع من الفقه المتشدد لا يخرّج لنا طالب علم حر في التفكير، وغير قادر على الإطلاع على الجانب الحقيقي من نشاط الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يساعده في الوصول إلى بغيته، والانعتاق من أن يصبح أسيرا للتراث التقليدي، يحرمه من إخضاع اجتهاده للفحص والاختبار.

لأن العلم يبقى العامل الأكبر تأثيرا في صياغة عقل الشباب ووجدانهم، لا العكس، حتى لا يتوهم البعض بأن الدين مسؤول عن التطرف، بل الغلو هو المسؤول عن خطاب التطرف، بسبب أنه يحتكر الحقيقة، ويرفض الآراء الأخرى، فيصبح موجها وتابعا، وكأنه آلة يتم توجيهها عبر التقليد والتراث، دون تفحيص أو تمحيص، ويتتبع أحوط الآراء، وأشدها حتى يصل إلى مرحلة من التصلب، وهو ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب، عندما نهاهم عن الغلو وهو أعنف من الرهبانية، التي هي انقطاع للعبادة، ولكنها تخالف الطبيعة البشرية التي فطر الله الناس عليها، عندها يأتي الانحراف ولكنه يكون مسؤولا عن نفسه ولكن الغلو ضرره على المجتمع يهدد استقراره.

هؤلاء الأتباع اختزلوا كثيرا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، خصوصا حديث (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، وقصروا معنى هذا الحديث على جماعة بعينها، دون غيرها، وكأنهم لم يقرءوا قول الله سبحانه وتعالى (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)، فالطائفة هي أوسع مما فسرها البعض، بل تشمل أمة، كما في الآية، لديها سلطة وحكم، تسيطر على حياة الناس، وليس جماعات تفرض سلطات متعددة، تخلق الفوضى، وتتقاتل فيما بينها، كما يحدث الآن بين داعش وجبهة النصرة وغيرها من جماعات تخرج على سلطة الدول، تخلق الفوضى، والنزاعات والصراعات، نتيجة فقه معتل، مخالف للواقع، ولمصالح الأمة، تتغذى عليها سياسات دول، وتنفيذ أجندات، لتدمير جسد الأمة، وفرصة لتصوير الدين الإسلامي بأنه دين إرهابي.

يجب البحث في العمق، والغوص في أعماق عوالم الجماعات الجهادية، وعلى رأسها داعش، وكيف نجحت في تجنيد النشء، كأذرع للتنفيذ، لأن العلماء لم يتحركوا منذ أن استهدفت مساجد الشيعة في باكستان، والتي تعرضت لهجمات مرات ومرات، انتقلت التفجيرات الآن إلى مساجد السنة، وستنتقل إلى بقية المجمعات المدنية كما في العراق، خصوصا بعدما تعرضت الأماكن السياحية في تونس، ومن قبل في مصر منذ أكثر من عقدين من الزمن.

البحث في العمق يكشف حقائق كثيرة، وكيف أن الأيديولوجية المسكوت عنها، تنتشر كما تنتشر النار في الهشيم، والآن بعدما نمت تربة التطرف، واتسعت دائرتها، وأصبحت تهدد كافة المجتمعات الآمنة، وفي أي لحظة يمكن أن يتم قتل أعداد لا يمكن أن نتوقعها.

تربة التطرف لا يمكن أن تنمو دون فتاوى شاذة، وتأويلات منتقاة، ومتشددة، تعتمد التكفير، وهو الأصل الذي اعتمدت عليه جميع الجماعات المتشددة، والمتطرفة، منذ خوارج الأمس وخوارج اليوم، وكما لاحظنا في بيان داعش بأن التفجير في عسير لجماعات مرتدة، ولحكومات كافرة، ومجتمعات دخلت مرحلة الجاهلية، بسبب بعدها عن الدين، ويعتبرون المساجد التي يستهدفونها مساجد ضرار، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره الله بعدم الصلاة في المسجد الذي بناه المنافقون، ولم يأمره الله بقتل من فيه خصوصا من المنافقين الذين بنوه.

شبهة التكفير هي من أهم الشبه، التي تعتمد عليها تلك الجماعات، تنبه لها الإمام علي بن أبي طالب لتلك الشبهة، وأرسل عبد الله بن عباس قبل قتال الخوارج في مناقشتهم في شبهة التكفير التي يعتمدونها في خروجهم على الإمام علي رضي الله عنه، حتى رجعت مجموعة كبيرة من الخوارج، بعد الحوار الذي تولاه عبد الله بن عباس معهم، وحارب الإمام علي البقية.

هؤلاء الأتباع يجهلون حقيقة هذا الدين عندما نزلت آية (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، لأن النساء في الجاهلية اللاتي لا تلدن تنذر إن أتاها ولد تهوده أو تنصره، فنزلت الآية في رجل من الأنصار من بني سليم، يقال له الحصين، له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلما، ولكن بعد إجلاء بني النضير رفضا التخلي عن النصرانية فأختصم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية أن يكرهما على الإسلام.

بل يجهل مثل هؤلاء كذلك أن أساس الدين الإسلامي، هو الدعوة للسلام، فعندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قاصدا العمرة حرنت ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه رضوان الله عليهم خلأت القصواء، فقال صلى الله عليه وسلم ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، يا ويل قريش لقد أكلتهم الحرب (والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة فيسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت لحرب، بل يمد يده للسلام، وأنه لا يريد لمكة، كما أرادها حملة الفيل، تفهمت قريش الرسالة، وأرسلت الوفود، وتعامل صلى الله عليه وسلم مع تلك الوفود بدبلوماسية رفيعة، تتناسب مع طبيعة تلك الوفود، ومستوى الرسل التي ترسلهم قريش للتفاوض.

فأرسلت قريش في البداية عروة بن مسعود الثقفي، وهو رجل حرب، وعندما أراد مس لحية رسول الله لينال من هيبته، فقرع المغيرة يده بعقب رمحه، ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، وهو صاحب رأي ودهاء وقرار، ووقع وثيقة الحديبية التي اعترض عليها الصحابة، ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم عند مشورة زوجه أم سلمة، بأن يخرج يذبح ويحلق رأسه وسيتبعه الصحابة، وكانت أول مشورة لامرأة في الإسلام.

حقن الرسول صلى الله عليه وسلم دماء المسلمين وغير المسلمين، وحقق اعترافا رسميا بكيان الإسلام، ورسالته الهدف الأسمى من هذا الدين، ولم يدخل الرسول مكة المكرمة إلا بعدما نقضت قريش الاتفاقية الموقعة بين الجانبين، وانضمت أكبر القبائل العربية خزاعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

من يجهل حقيقة تلك التنظيمات، فهناك تكتيكات سياسية لدى تلك الجماعات، مثل تكتيك داعش ضد الحكومات العربية لتضمن حياد المجتمع الدولي، وهو تكتيك شبيه بالتكتيك الذي استخدمه الإخوان في مصر في الفصل بين الهرم السياسي والشعب، لضمان تأييد الولايات المتحدة، وهو ما حصل بالفعل، ويشترك داعش والإخوان في الوصول إلى دولة الخلافة، وإن كانت التكتيكات، تختلف بين التنظيمين، وحتى في الأيديولوجيات، لكنهما يشتركان في الرؤية الفوضوية.

رغم أن الخلافة ليست نظاما، أو نظام الإسلام القويم، والرشيد، وليس مرتبط اسم الدولة الإسلامية وغيابها لا يضعف الأمة الإسلامية وهوانها على الأمم، وليست وصية، بينما هي شورى بين المسلمين، فيما اسمها مشتق من قول الله سبحانه وتعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) أي الإنسان على إطلاقه مسلما كان أو كافر وهم ليسوا سواء منهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم عادل سابق بالخيرات، (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)، فالهدف الأساسي من الاستخلاف هو تطبيق العدل، والإسلام ذكر الملك، والخليفة، والأمير، وولي الأمر، والسلطان، ولا يلزم المسلمين واحدة منها، وإنما الهدف من السلطة والحكم تحقيق العدل (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).

قال الشافعي لابن عقيل لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل السياسة ما كان من فعل يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يفعل به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، وإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف منطق الشرع فصح، وإن أردت لا سياسة إلا ما يطبقه الشرع فغلط، فأي طريق يأتي بالعدل والقسط والمصلحة فهو من شرعة الله وفق القاعدة (حينما تكون المصلحة فتم شرع الله).

نحن هنا لا نناقش كثيرا البعد السياسي لتلك التنظيمات، بقدر ما نناقش كيف تمكنت تلك التنظيمات من استهداف صغار السن المفتونين بوسائل التواصل الاجتماعي، وكيف نجحت تلك التنظيمات في توظيف قضايا المعتقلين السياسيين الإسلاميين، رغم أنني أعتقد أن أغلب مثل هؤلاء المسجونين يعارضون أطروحات وأيديولوجيات تلك التنظيمات، فقط تستخدم تلك التنظيمات الظلم الكبير، والانتقام الذي روجته تلك التنظيمات منذ الستينات من القرن الماضي.

الجيل الجديد من الشباب، جيل يجهل الفهم العقدي الصحيح من الدين، ما يجعله فريسة سهلة للإيقاع به، وتجنيده، وإقناعه بأن الأنظمة العربية كافرة، وخصوصا حكومة السعودية، باعتبارها في شبه الجزيرة العربية التي يوجد فيها الحرمين الشريفين، مستفيدة تلك التنظيمات من انتشار الأسلوب الثوري والفوضوي بعد ثورات الربيع العربي.

تبقى الحواضن الفكرية، هي أكبر الحواضن التي تحتاج إلى مواجهة فكرية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في يخرج من ضئضئ هذا … الحديث، تلك الجماعات ينطبق عليهم ما قاله المصطفى القلوب مملوءة بالتطرف بالكبر بالغل، لأن التطرف هو احتقار الغير وهو في الجنة وغيره في جهنم، وأنه في العقيدة الصحيحة وغيره عقيدته غير صحيحة، والله سبحانه وتعالى ليس متحيزا لأحد (ليس بأمانيكم وأماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون فتيلا)، بل قالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه) هو شيء من الهوس والجنون أن يقصروا حتى محبة الله لفئة محدودة من أجل استباحة دماء الناس، وأموالهم، لأن التكفير منزع يقود إلى الفسق والفجور، بينما طريق الله مفتوح لكل إنسان (والله يدعو إلى دار السلام)، (إني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني).

الخوارج كانوا محبين لعلي رضي الله عنه، ولما رجع علي للحق، وأراد أن يحفظ دماء الأمة، استكبروا عليه، وقالوا لا حكم إلا لله، وكفروه، بينما كان موقف سيدنا علي رضي الله عنه، عندما جاءه بعض الناس، وقالوا هؤلاء الخوارج كفار، قال لا من الكفر فروا، قالوا منافقون، قال هم يذكرون الله كثيرا بينما المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا، قال هم إخواننا أضلهم الله وأعماهم.

التكفير مصدر مهم للإرهاب، فهناك بعض الأتباع لم يتمكنوا من زنة الأمور، وأطلقوا الكفر على كل أصحاب الأعمال المخالفة، حكموا عليهم بالشرك والضلال، لأنهم تربوا في هذه المدرسة، رغم إخلاصهم وصدق نواياهم، لكن التقليد جعلهم أسرى أفكار أساتذتهم بكفر مخالفيهم، وأن هذه الأعمال شركية وهم ضالون مضلون، ما يجعل مثل هؤلاء الشباب يرهب ويفسد، وهي صور من صور إرهاب مترقبة، بسبب أن بعض الأساتذة لم يحسنوا، بسبب المنهج المتشدد الذي تبنوه.

نتيجة التداخل المخل بين فقه القتال وفقه الجهاد، واختلالات فقه الولاء والبراء، وأزمة العلاقة مع الآخر، رغم وجود آية واضحة وجلية (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)، ما جعل قيم المشترك الإنساني تضطرب، لأنهم اكتفوا بالآية (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، استنبط منها العلماء قاعدة الولاء والبراء، ولكنها ليست مطلقة بل مقيدة.

هؤلاء الأتباع يبثون الكراهية والبغضاء وهو شعور مركب وشعور مرضي (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا)، أي يصبح الأتباع مخدوعين بالإيمان بأنفسهم، لأن الحب يعمي عن ارتكاب الأخطاء، والكره يعمي عن الفضائل، الكراهية تربك الحياة وتشلها وتعتمها، بينما المحبة تنسقها وتطلقها وتنيرها.

الكراهية تجعل الإنسان مشلول التفكير ولا تجعله قادراً على الإبداع وعلى العكس المحبة والتسامح هي ضد الكراهية وضد الشخصنة وهي عقد نقص وشعور بالعجز والكراهية وهي معركة نفسية خاسرة.

من المبادئ والقيم أن تبتعد عن الكراهية، والكره والبغضاء، حسب حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (الكره والبغضاء الحالقة لا أقول تحرق الشعر ولكن تحرق الدين)، وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم دخل رجل في ملاسنة مع الصديق أبي بكر ولم يوقر حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر ولما رد أبي بكر قام الرسول من المجلس فقال أبي بكر للرسول صلى الله عليه وسلم جزء مما كان يقوله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم كان ملك كريم يرد عليه وحينما ردت عليه أتى الشيطان وذهب الملك فلم أرد أن أحضر في حضرة الشيطان.

هناك جملة من الشباب كانوا حربا على أهلهم في أمور قد تكون منكرة، لكن منكر عقوق الوالدين أكبر، خصوصا عندما يتعلق بقطع الأرحام، بحجة ارتكاب المنكرات التي يراها، وقد تكون غير منكرة عند غيره، وما يخرجه على أهله سوى صور تبخيسية، وصور نمطية اتهامية، نتيجة ثقافة يائسة، يراد منها نظرة عنفية، ونظرة تخوينية، لكن من ينظر إلى منهج رسولنا الكريم، لحفظ الأعراض، والنهي عن التجسس حتى على الزوجة، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم حتى تستعد المغيبة، وتتصف الشعثة، حتى لا يشرعن للمرضى النفسيين أن يتسلل الشك إلى قلبه، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم رشد الغيرة، وحافظ على حقوق المرأة، كما الرجل، فعندما نزلت آية الملاعنة، قال سعد زعيم الأنصار أننتظر يا رسول حتى آتي بشهود، ولله يا رسول لأسل سيفي وليفعل الله بي ما يشاء فقال صلى الله عليه وسلم أتعجبون من غيرة سعد فإن الله أغير منه، أي أنه لم يؤيد غيرة سعد، ولو قتل الرجل زوجته لقتل، لأن منهج الإسلام واضح.

وهناك فرض حجاب نساء الرسول على نساء الأمة، بينما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن تنتقب المرأة وتلبس القفازين في الحج والعمرة كما في صحيح البخاري (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)، ولم يحدد الإسلام إلا ما ظهر منها حسب حاجة المرأة، وملكة سبأ حينما دخلت الصرح كشفت عن ساقيها (قيل ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها)، وفي زمن الرسول في الحديث الصحيح أورده البخاري كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله هن والرجال في إناء واحد، كما في حديث بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وثبت عند الإمام أحمد في مسنده وأبي داود من حديث مصيبة الجهنية قالت (اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد).

وفي الحديث الصحيح يدخل الرجل على امرأة مغيب ومنع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد بمفرده على امرأة إلا ومعه رجل آخر أو أكثر، حتى تنتفي الشبهة فكيف يحرم مثل هؤلاء الأتباع اختلاط المرأة بالرجل، خصوصا من أجل العمل، وفرض لباس أمهات المؤمنين على المسلمات، وهو يخالف حديث الرسول في منع المرأة أن تنتقب وتلبس القفازين في الحج والعمرة، ولكن إن رغبت هي أن تلبسه في غير الحج والعمرة فلا يمنعها ولكنه ليس بواجب.

لقد شاب فقه العلاقة بين الرجل والمرأة اضطراب وخلل، جعل إرادة الأمة مرهونة لمثل تلك التشوهات، نتيجة تأزم فقهي نتج عن ذلك أزمات اجتماعية.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق