الأبعاد السياسية لزيارة أمير الكويت إلى إيران

ترتفع حدة الاشتباك الإقليمي في إقليم الشرق الأوسط، بين محورين رئيسين، يشكلان ضفتي الخليج العربي، في امتداد جيو-استراتيجي يشمل عدة دول عربية، تتوزع بين هذه المحورين. ففيما تتسع الهيمنة الإيرانية على العراق وسورية ولبنان، استطاعت دول الخليج ضبط المسار السياسي في مصر، وإعادتها إلى الحاضنة العربية، بما يتفق مع المصالح الأمنية لدول الخليج العربي، كما استبقت ذلك، بحسم ملف الاضطرابات المذهبية البحرينية، بفرض الهوية الخليجية عليها في مواجهة محاولات إسقاطها في يد الحرس الثوري الإيراني عبر استغلال مدخل ثورات الربيع العربي فيها، فيما تتسع الجهود الخليجية لتحجيم دور الحركة الإرهابية الحوثية في اليمن، وسلب إيران موقعاً متقدماً فيها.

رغم ذلك، تبقى سورية الساحة الأكثر اشتباكاً بين طرفي الصراع الإقليمي، لناحية تحكمها بالمشرق العربي ككل، وامتداد نتائج ما يجري فيها إلى الساحات المجاورة كافة، ويحدد شكل الحسم فيها، مسار الصراع الإقليمي من جهة، ومستقبله، في ظلّ إعادة توزيع للقوة بين دول شرق الأوسط، وتعديل ميزان القوى والمصالح المترتبة عليه فيما بينها، وفقاً لنتائج الملف السوري.

ويدرك كلا الطرفين، بنسب متفاوتة، إشكالية الملفات العالقة في المشرق العربي، ودورها في تصعيد القيم العسكرية للصراعات والتنافسات القائمة، وعليه فإن عدم الخروج من تلك الإشكاليات بطرق توافقية بين الطرفين الرئيسين (السعودية وإيران)، يفتح المجال واسعاً، أمام احتمالات حرب إقليمية واسعة، قد تحصد ملايين الأرواح، وتغير الخريطة الجغرافية والديموغرافية للمنطقة.

وتستبق السعودية ذلك، بمحاولة فتح مسارات جانبية في الأزمة القائمة، عبر البحث في سبل سياسية ودبلوماسية تخرج المنطقة من وضعها الراهن، وتبحث في حلّ كافة الإشكاليات القائمة بين الطرفين، ولو عبر تحييد بعض المناطق عن ساحات الصراع، وإيجاد مخارج سياسية للملف السوري. ويظهر هذا الجهد السعودي، عبر الدعوة التي وجهها وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل إلى نظيره الإيراني محمد جواد ظريف الشهر الماضي، لإجراء جلسات حوار، أو بالأصح تفاوض سياسي حول تلك الإشكاليات.

في هذا السياق تحديداً، وحيث يشكل الأمن الخليجي، أمناً كلياً واحداً، تأتي زيارة أمير الكويت لإيران، بغية تهدئة الساحة الخليجية والمشرقية من جهة، والبحث عن أطر لجلسات الحوار تلك في حال نشوئها، بعد أن رفض وزير الخارجية الإيراني، الدعوة السعودية.

ولا يمكن قراءة الحدث خارج هذه التوجهات، إذ تظلّ السعودية الظهير الأمني الرئيس لدولة الكويت، ودول الخليج العربي كافة، وخاصة منذ عام 1990، ودورها في تحرير الكويت. ومنه فإنّ الزيارة الكويتية لإيران، هي جهد سياسي إضافي ينصب في المساعي السعودية الراهنة، في محاولات مستمرة عربياً، لإحداث شرخ في الأزمة القائمة بين الطرفين، قبل الولوج في احتمالات تصعيدها نحو مسارات أكثر حدة.

وتنشط السياسة الخليجية عامة، والسعودية خاصة، في إيجاد تلك المخارج السياسية، بعد أن تغيرت معادلات القوة في دول الخليج في الأعوام القليلة الماضية، وباتت هذه الدول تمتلك ترسانة تتفوق على نظيراتها الإقليميات، وخاصة إيران، وصولاً إلى امتلاك السعودية مؤخراً صواريخ تحمل رؤوساً نووية، قادرة على ضرب كافة الأراضي الإيرانية، لذا فإن من المنطقي محاولة فرض مسار سياسي، يعيد تعريف القوة والمصلحة، وفق هذه المعادلات الجديدة من القوة، التي لم تدرك إيران أبعادها العسكرية بعد.

وتسعى الكويت إلى لعب هذا الدور، وخاصة أنها تترأس القمة العربية، ومجلس التعاون الخليجي في هذه الفترة، بما يمنحها شرعية عربية، تستند إليها في سعيها للقيام بأدوار سياسية ودبلوماسية، عدا عن محاولة حلحلة الملفات العالقة بين الكويت وإيران منذ عدة أعوام، ومن أبرزها الحدود المائية والنفطية المشتركة، وقضايا تصدير الغاز والمياه إلى الكويت.

ورغم هذا الجهد العربي الاستباقي لحلحلة الإشكاليات القائمة في المنطقة، وإيجاد مخارج حقيقية للأزمات الراهنة، إلا أنه لا يمكن التعويل على ذلك إيرانياً، خاصة أنّ النظام الإيراني، غير معني بمشاركة المصالح مع البيئة الإقليمية، ضمن إطار معادلة صفرية ما زال يعتقد أنه قادر على حسمها لصالحه، وأن الجهود الدبلوماسية القائمة، لا تدل إلا على تنازلات تقدمها الأطراف الأخرى، في مواجهة التوسعية الإيرانية عربياً.

ورغم محاولات الرئيس الإيراني الحالي، إصباغ طابع انفتاحي على سياساته، بغية إعادة ترويج إيران ضمن البيئة العربية خاصة، والدولية بشكل أعم، إلا أن سياساته تبقى محكومة بنمط النظام القائم في طهران، لناحية تسيد المرشد على كافة مسارات العمل السياسي فيها، عدا عن تحكم الحرس الثوري بكل مفاصل الدولة، وخارج إطار سلطة الرئيس الإيراني، وهي تشكل في مجموعها التيار المتشدد الرامي إلى توسيع الحالة العسكرية إقليمياً، ضمن سياسية قديمة يتم بث الروح فيها “تصدير الثورة”، وفي حالة تصادم مع كافة الأطراف الأخرى، ولا يمكن لهذه الجهات أن تسمح حتى للرئيس الإيراني، بالخروج عن نسق مصالحها وتوجهاتها وأيديولوجيتها، حتى في حال صدقت تصريحات روحاني.

وخاصة أن إيران سعت من خلال هذا الزيارة، إلى توظيفات إعلامية تتجاوز الأبعاد المنوطة بها، إلى ترويج فكرها السياسي، ومحاولة إظهار الزيارة الكويتية ضمن الرؤية الإيرانية، كما حصل إبان تزوير خطاب الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وبشكل يتنافى مع أبسط البرتوكولات الدبلوماسية.

وفي هذا الإطار، يتجاهل خامنئي الغرض الرئيس للزيارة الكويتية، ويندفع في الحديث عن أمن المنطقة في تهديد غير مباشر، حين يربط بين سلامة دول المنطقة والتقارب مع إيران من جهة، ويدفع إلى تصدير الأزمة التي أحدثتها سياسة إيران في المنطقة إلى المنطقة ذاتها، بحديثه عن دعم دول المنطقة للإرهاب والتكفيريين، في إشارة غير مباشرة إلى دول الخليج العربي.

ويُحمِّل بطبيعة الحال، وكما السياسة الإيرانية دوماً، مسؤولية ما يجري إلى إسرائيل، كشماعة تستند إليها الأنظمة القمعية (المحور الإيراني)، لتبرير سلوكها العدواني على شعوب المنطقة، متجاهلاً وبشكل كلي، احتلال جيشه الثوري والميليشيات التابعة له، للأراضي السورية طيلة الأعوام الثلاثة الماضية، وإيغالها في دماء السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين. وباحثاً عن اصطفاف عربي خلف إيران في مواجهتها الإقليمية لتوسيع النفوذ في مواجهة القوى غير العربية (إسرائيل وتركيا)، بحيث تستبدل الدول العربية قوة إقليمية مهيمنة بأخرى.

كما لا يمكن التعويل على مجرد التصريحات الدبلوماسية الإيرانية، حول أفق التقارب مع دول المنطقة، وعن سلمية وودية العلاقات المشتركة، والرغبة في مزيد من الانفتاح والتقارب، وخاصة أن لإيران تاريخ في نقض تصريحاتها والانتقال إلى فعل مضاد لها كلياً. فإبان حكم الرئيس الأسبق محمد خاتمي، عمدت إيران إلى ذات التصريحات التهادنية تجاه دول الخليج العربي، دون أن تقدم فعلاً ملموساً يدفع إلى إنهاء إشكاليات المنطقة بصورة نهائية، ولتعود فترة حكم الرئيس السابق أحمدي نجاد، إلى منطق القوة والتدخل في شؤون دول الجوار، وصولاً إلى الهيمنة على العراق وسورية ولبنان.

فعلى صعيد العلاقات الكويتية-الإيرانية، فقد شهدت تصعيداً خطيراً في الفترة السابقة لتسلم روحاني للسلطة، بلغ حد التهديد بشن حرب على دولة الكويت، وتفعيل خلايا التجسس الإيرانية فيها، وتنشيط الولاءات الطائفية في مواجهة السلطة والمجتمع الكويتيين.

حيث سبق وأن هدّد عضو اللجنة البرلمانية لشؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية الإيرانية محمد كريم عابدي عام 2012، باحتلال الكويت عبر فيلقي القدس وبدر بحجة حماية الشيعة فيها. وقال عابدي، إنّ “اللجنة البرلمانية لشؤون الأمن القومي الإيراني درست واستمعت إلى تقارير عن الإجراءات المتخذة لحماية أهل البيت في الكويت في حال حدوث أي اختلال أمني هناك .. ونحن نتابع الاوضاع هناك، خصوصاً مع ورود معلومات عن أصوات إرهابية تطالب بالانتقام من أهل البيت وتقوم بجمع وشراء السلاح .. إنّ ما حدث من دخول جيوش من دول الخليج إلى البحرين لن يتكرر، ولن نسمح بتكرار حدوثه بالكويت، فظروف وموقع البحرين جغرافياً وعسكرياً تختلف نهائياً عن الكويت، وإنّ من حق الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدخول الى الكويت لحماية الشيعة هناك، مثلما بررت دول من الخليج دخولها للبحرين بأنّه لحماية السنة هناك، فمن يعتقد أنّه يستطيع الرد على إيران لا يعلم أنّ بوسع الجمهورية الإسلامية متى رغبت أن تسلب الأمن من الأنظمة في دول الخليج”.

وتشكل الكويت بالنسبة لإيران البوابة الشمالية للخليج العربي، ومنطقة تماس جغرافي مع جنوب العراق، حيث التمركز الشيعي الموالي لإيران، عدا عن البعد التاريخي في العلاقات الإيرانية-الكويتية، باعتبار الكويت أحد أبرز داعمي العراق في حربه مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي. وعليه فإنّ الفهم الاستراتيجي الإيراني لن يخرج عن تلك المحددات، وإن انتهجت نهجاً سلمياً في علاقاتها الدبلوماسية معها. وخاصة أنّ دولة الكويت من أبرز داعمي مفهوم الأمن الإقليمي الخليجي، وتطويره من خلال مشروع الاتحاد الخليجي، على خلاف دولة عمان التي هددت بالانسحاب من المنظومة الخليجية في حال اعتماد المشروع، وعلى خلاف دولة قطر التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع إيران منذ قيامها.

ورغم النجاح الدبلوماسي والإعلامي، والتغطية التي حظيت بها هذه الزيارة، إلا أنها تبقى رهناً بالسلوك الإيراني المقبل، والمشكوك فيها أصلاً، لكنها تسجل محاولة خليجية لتجنب حرب تبدو مقوماتها جاهزة، ضمن بيئة دولية متوترة أصلاً، وغير قادرة على ضبط الانفلات الإقليمي شرق الأوسطي، في مرحلة يبدو أنها بداية تشكل معطيات دولية وإقليمية جديدة كلياً.

وتخطأ إيران، إن حاولت تحميل تلك الزيارة، ما هو أبعد منها، سواء بفهم مغلوط حول أهدافها، وبأنها تأتي ضمن إطار تنازلات خليجية لها. أو من خلال سعي إيراني لاستمالة دولة الكويت إلى طرفها في صراعها مع دول مجلس التعاون الخليجي، خارج النسق الأمني الخليجي. أو حتى من خلال فهمها بأنها وسيلة لتعزيز النفوذ الإيراني في دول الكويت، عبر المداخل المذهبية المعتادة. وهو ما تعول عليه إيران، في محاولة اختراق البيئة الخليجية عبر علاقات جانبية ثنائية مع أطرافها، تعتقد أنها قادرة على توظيفها في مواجهة السعودية لاحقاً.

وخاصة أن هذه الزيارة توافقت مع عقد جلسة لوزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي، برئاسة دولة الكويت، لتنسيق الأبعاد السياسية لها من جهة، والبحث في النتائج المترتبة عليها سياسياً وأمنياً، ضمن إطار تنسيقي لا تستطيع إيران تجاوزه، مهما كانت علاقاتها الجانبية مع دول الخليج العربي.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق