اضطرابات السياسة الخارجية القطرية

لا يمكن تحديد نمط ثابت في مسار السياسة الخارجية القطرية، إذ يغيب عنها مبادئ مستقرة تحكمها وتوجهها، ومصالح عليا تطمح إلى ترسيخها، على عكس نظيراتها الخليجيات على الأقل. وتبقى محكومة بالتطورات المحيطة بها إقليمياً ودولياً، لتشهد قطعاً مع توجه معين بشكل فجائي، والانتقال إلى نهج مضاد مباشرة.

ربما بدأ ذلك منذ مطلع العقد الماضي، وتحديداً إبان الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ففيما كانت قطر هي القاعدة الأمريكية الرئيسة للطلعات الجوية العسكرية، كانت في المقابل قناة الجزيرة الأكثر وجوداً على الأرض العراقية، ناقلة حجم الكارثة والجريمة التي ترتكبها الولايات المتحدة في العراق. وفي ذات الوقت الذي تشهد أراضيها تعزيزاً للوجود الأمريكي، كانت الجزيرة منبراً للمقاومة العراقية، بل وتعرّض مكتبها في بغداد لقصف من القوات الأمريكية راح ضحيته بعض العاملين فيها.

ومن ذلك يمكن ملاحظة سلوكها الخارجي على عدة مستويات طيلة الفترة ذاتها، ففيما كانت تحث خطاها للتطبيع مع إسرائيل منذ مطلع العقد الماضي، لتغدو أكثر الدول العربية غير المجاورة لإسرائيل انفتاحاً عليها، قبل أن تشهد علاقات الطرفين قطيعة فجائية إبان استدراج حزب الله لعدوان إسرائيلي عام 2006، وعلى إثره كانت قطر تلج محور “المقاومة” خارج التنسيق الخليجي، فاتحةً الأفق لعلاقات واسعة ومطردة مع إيران كذلك. وتبنت قطر حينها نظام الأسد، في مواجهة الدول العربية، والخليجية تحديداً، محاولة شرعنة الوجود الإيراني عربياً.

ذات النهج سلكته قطر مع اندلاع الثورة السورية، لتتحول بعد أشهر من قيامها، إلى قطيعة مع نظام الأسد وإيران، رغم ما بينهما من وشائج مصلحية. ولتتصدر المشهد الداعم للشعب السوري طيلة عامي 2011-2012، دافعة إلى إدانة إجرام النظام وتوسيع نطاق القطيعة معه عربياً ودولياً. وترتب على ذلك أيضاً ابتعاد قطري مؤقت عن روسيا داعمة نظام الأسد، رغم اتساع المصالح الناشئة بينهما حديثاً.

ويبدو الانتقال السريع من نهج خارجي إلى آخر، هو السمة الثابتة الوحيدة في السياسة الخارجية القطرية، فبعد ثلاثة أعوام على الثورة السورية، يبدو أن قطر لم تعد تملك ذات الاندفاع نحوها، ولم تستطع أن تتسيد المشهد السوري بالمطلق، في ظل التداخلات الإقليمية والدولية الواسعة، ولتبدأ مرحلة انتقال أخرى في النمط الخارجي للسلوك القطري، باتجاه إيران وروسيا ثانية.

وفيما تعتبر روسيا إلى جانب إيران، الداعم الرئيس للآلة العسكرية لنظام الأسد، والمتسبب في قتل ما يربو على 200 ألف سوري، عدا عن دور روسيا في إعاقة أية دور للمجتمع الدولي عبر تكرار فرض الفيتو في مجلس الأمن، وهو ما يستدعي من الدول العربية، وخاصة الداعمة للثورة السورية، الدفع نحو الضغط على روسيا، سياسياً واقتصادياً، بغية إحداث تغييرات لصالح إنهاء المأساة السورية.

غير أن المصالح القطرية اليوم تتجه إلى رصد ما يزيد عن 2 مليار دولار من صندوق السيادة القطري بغية استثمارات مشتركة في روسيا، لتعزيز العلاقات البينية مع روسيا. وتعمل سياسياً مع روسياً على صياغة موقف مشترك تجاه سورية، في ظل تمسك بوتين بتوجهاته وبنظام الأسد، ما يعني إمكانية تحول كلي في الموقف القطري في حال ثبات هذا التوجه الخارجي الجديد.

إذ قالت وزارة الخارجية الروسية في بيان نشرته على موقعها الإلكتروني الرسمي 6 مايو/أيار، إن قطر مستعدة لتطوير التعاون الاقتصادي والسياسي مع روسيا. بعد زيارة نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف إلى العاصمة القطرية الدوحة، خلال الفترة من 4 إلى 6 مايو/أيار، والتي عقد خلالها اجتماعات مع أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وجاء في تقرير الخارجية الروسية أن أمير دولة قطر أشاد بالسياسة المبدئية والثابتة لروسيا في الشؤون الدولية والإقليمية، وأكد أن بلاده تنظر إلى روسيا كشريك سياسي واقتصادي مهم على المدى الطويل، لبناء العلاقات الثنائية في مختلف المجالات. وتسعى قطر إلى استضافة روسيا وإيران في القمة المقبلة لمنتدى الدول المصدرة للغاز في الدوحة في هذا العام.

يأتي هذا الانتقال الفجائي المعتاد في السياسة الخارجية القطرية باتجاه روسيا، رغم أن العلاقات بين الطرفين قد وصلت عام 2012 إلى مرحلة التهديد الروسي بإزالة قطر كلياً، على لسان فيتالي تشوركين المبعوث الروسي في الأمم المتحدة.

لكن الأبرز في السلوك الخارجي القطري، يبقى السلوك العدائي تجاه المحيط الخليجي، وتحديداً السعودية والإمارات، إذ غالباً ما اكتست علاقات قطر الخليجية بطابع متقلب بين التوتر والسكينة، وفقاً للمتغيرات المحيطة. ولم تستطع قطر إنشاء علاقات ثابتة مع دول الخليج العربي طيلة العقدين الماضيين. حيث تسعى قطر إلى إثبات تمايزها عن بيئتها الخليجية، من خلال توتير تلك العلاقات، والخروج عن التنسيق الخليجي، وصولاً إلى تعزيز مصالح إيران ومطامعها فيه على حساب المصالح الخليجية.

ولا يبدو أن السياسة الخارجية القطرية قادرة على الاستقرار والبناء على محددات ثابتة تمكن الآخرين من بناء علاقات ثابتة وواضحة معها، بل لا يمكن الثقة بهذه السياسة الخارجية طالما أنها تفقد مقومات الاستقرار. صحيح أن لكل دولة حق الحفاظ على المصالح، لكن ذلك يتطلب قدراً من القيم يسمح للآخرين بقبول تلك المصالح، وتعزيز التعاون المشترك.

إن إشكالية السياسة الخارجية القطرية، وإن كانت إشكالية داخلية في الأساس، إلا أنها تمس كل الجهات المرتبطة بها، وضعف مأسستها إحدى أبرز تلك الإشكاليات. وخاصة في ظل غياب واضح ومحدد للدور الذي تطمح إليه قطر، متناسقاً مع إمكانياتها، وهنا لا نقصد المالية، بل الجغرافية والمكانية والسكانية والتاريخية. جميع تلك العوامل هي من يشكل إطاراً لتحديد أفق عمل تلك السياسة، وغيابها يؤدي إلى هذا النهج غير المستقر، القاطع مع سابقه فجائياً، على شكل قفزات غير متناسقة بين المحاور والتحالفات الدولية.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق