اشتداد التجاذب بين السعودية وإيران بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني

لا شك أن التعاطي مع الاتفاق النووي باعتباره أحد عناصر معادلة جديدة تؤثر في مسارات المنطقة، وبدلا من جنوح إيران نحو التهدئة، والتسويات، وإبداء مجموعة من الحلول، اتجه الحرس الثوري نحو مزيد من إرباك المشهد الإقليمي، من اجل إطالة عمر الاضطرابات المندلعة في المنطقة، خصوصا في المناطق الساخنة التي تعتبرها مناطق تابعة للهيمنة الإيرانية.

بدأت إيران في إرباك المشهد الإقليمي بتصريح نوري المالكي نائب الرئيس العراقي تجاه السعودية عندما طالب بوضع السعودية تحت الوصاية الدولية، كرد على المجتمع الدولي الذي وضع إيران تحت الوصاية الدولية، تهدف تلك التصريحات الاستفزازية إلى تأكيد فصل بغداد عن محيطها العربي لتحصل على موافقة أميركية، وضرب أي تقارب عراقي سعودي.

أتت تلك التطورات بعد التفاهم الأمريكي الإيراني في العراق بعد توقيع الاتفاق النووي مؤخرا، أدى إلى رفع الفيتو الأميركي عن فصيلين من الحشد الشعبي مدعومين من إيران هما عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله من المشاركة في تحرير الأنبار مقابل رفع تحفظ هذين الفصيلين عن مشاركة الطيران الأميركي، مع الإبقاء على تحفظهما بشأن رفض وجود قوات أميركية، وكذلك إقامة قواعد عسكرية ثابتة في العراق، واكتفى كارتر وزير الدفاع الأميركي إلى أن المشاركة السنية في الحملة على الرمادي أساسية لنجاحها.

تلك التطورات تفرض على السعودية السعي بشراسة إلى منع طهران من تثبيت الهيمنة على العراق، تلك التطورات تكشف المؤامرة الحقيقية التي قادها المالكي في عهده عندما سمح بتسليم ستة ألوية بأسلحتها لداعش، بعدها أعلنت داعش عن الدولة الإسلامية، ما يمثل انتقام المالكي من ثورات السنة في الأنبار، ضد تهميش المالكي للسنة، واتهامهم بالإرهاب.

 انتقم المالكي من السنة الثائرين ضده الذين كانوا سببا في إسقاطه، لكنه نجح في  إثبات أن السنة إرهابيون، وهو جزء من مخطط تثبيت هيمنة المشروع الفارسي، والطائفة الشيعية على السلطة في العراق، مع استمرار المخطط في تهميش السنة، والهيمنة على مناطقهم، بعد تحريرها من داعش على أيدي الحشد الشعبي، مع مشاركة محدودة من السنة، من أجل أن تبدو الولايات المتحدة بأنها تدافع عن حقوق السنة في العراق.

فرضت تركيا أجندتها على أمريكا لمواجهة الأكراد وداعش معا، والسماح لأميركا باستخدام قواعدها الجوية، خصوصا قاعدة أنجرا في جنوب تركيا لضرب داعش، بينما اتجهت السعودية هي الأخرى إلى فرض أجندتها في بيروت، لأنها ترفض أن تستمر إدارة لبنان كدولة فاشلة، وترفض تسويات الحد الأدنى، وستقف إلى جانب سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية للوقوف ضد ذهاب ميشال عون إلى تصعيد مستوى الاشتباك مع الحكومة اللبنانية، مستهدفا اتفاق الطائف الذي حمي لبنان طيلة الفترة الماضية من الانهيار.

 ميشال عون مدعوم من حزب الله، الذي يقاتل في سوريا، وبدأ يعاني تآكلا في قواته، لكن من أجل تعويض خسائره، وحماية جبهته الداخلية من التفكك والتأثير في مصير لبنان، خصوصا بعدما دعمت السعودية الجيش اللبناني بعتاد عسكري نوعي عزز من قوة الجيش بعدما كان حزب الله القوة الكاسحة في لبنان اتجه إلى تحريك حليفه ميشال عون لتصعيد الموقف ضد الحكومة.

تسعى السعودية بعد الاتفاق النووي، إلى استعادة الهويات الوطنية في كافة دول المنطقة، وستركز في الآونة الحالية على ساحتين هما اليمن ولبنان، وإعادة تكوين السلطة في هذين البلدين بالبناء على المرتكزات الفعلية للهوية الوطنية.

عند زيارة وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق إلى باريس أكد المشنوق على بقاء حكومة الرئيس تمام سلام التي تعمل، ولن تستقيل، ومهمتها ليست توفير انتخاب رئيس للجمهورية، بقدر ما هي المحافظة على الجمهورية، ولا يمكن المخاطرة بها لزيادة الفراغ على الفراغ، خصوصا وأن انتخاب رئيس في لبنان يتوقع بعد نهاية الأزمة في سوريا، بسبب أن الأزمة الدستورية في لبنان لن يتم فصلها عن مسار أزمات المنطقة.

تدرك السعودية أن الرهان الغربي على عودة إيران بشكل طبيعي إلى المجتمع الدولي ليست مجانية، ولها ثمن، لذلك تقف السعودية أمام دفع هذا الثمن، الذي يكون على حساب الهويات الوطنية في المنطقة العربية، لأن إيران تستهدف جانبين رئيسين في المنطقة العربية هما الهوية العربية والوطنية، والقضاء عليهما عن طريق خلق الصراع المذهبي والإثني عبر تشكيل مليشيات تابعة تسيطر على الوضع الهش الذي فرضته لتفتيت الجسد العربي حتى لا تقوم لهم قائمة.

السعودية على يقين بأن إيران تصر على أن تكون جزءا من الفوضى في المنطقة، ولن تقبل إيران أن تكون مشاركا في خلق الشرعية والدولة الوطنية، التي تراها تتعارض مع مشروعها الفارسي الثوري رغم أن الشعب الإيراني 40 في المائة يعاني الفقر نتيجة العقوبات المفروضة على إيران من قبل المجتمع الدولي ونتيجة ممارسات الملالي الذين يحرسون تنفيذ المشروع الفارسي.

وكما استثمرت المفاوضات النووية، هي أيضا تريد أن تستثمر قلق الغرب في إنجاح تلك المفاوضات، حتى لا تنهار، حتى يدفع لها الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الثمن على حساب دول المنطقة.

لكن السعودية ستقف لها بالمرصاد أمام تسلم مثل هذا الثمن على حساب المناطق العربية، ومواجهة حالة التفكك في الدول والمجتمعات، وستكون السعودية كتركيا التي دافعت عن مصالحها، ووقفت أمام محاربة داعش دون محاربة الأكراد الذين يهددون أمنها.

السعودية لن تقف أمام استراتيجية أوباما الجديدة التي يدعو لها بتعدد القوى في المجال الدولي والإقليمي، خصوصا بعد أفول قوة الولايات المتحدة المطلقة، حتى لا تتحمل تكاليف نيابة عن قوى عالمية وإقليمية، وتريد أن تتوزع التكاليف على الجميع، بدلا من تحملها الولايات المتحدة بمفردها، ولكن يجب أن تكون تلك الاستراتيجية وفق قانون النظام الدولي لا وفق المصالح.

الشيء الوحيد الذي لم يختلف فيه أوباما عن سلفه بوش هي أولوية محاربة الإرهاب، لأنها تستخدم الإرهاب ورقة كما تستخدم إيران الإرهاب ورقة لتحقيق أجندة دولية وإقليمية، بينما أولوية الدول الإقليمية في تركيا والسعودية عودة الدولة الوطنية في سوريا، ومواجهة التمدد الإيراني القائم على الصراع والإرهاب، وتريد السعودية تشكيل محور إقليمي من السعودية وتركيا لمواجهة هذا التمدد، في حين ترفض بقية الدول العربية المشغولة بمواجهة استعادة الأمن في دولها كما في مصر وتونس.

هناك تعامل سعودي عاقل في التعامل مع المتغيرات في المشهد الإقليمي والنظام الدولي، والخطير أن إيران تقرن التفكك الذي تمارسه عبر وكلائها وربطه بالإرهاب، لتحقيق هدف مركب، والتوصل إلى تحقيق تفككين، تفكيك دولتي، وتفكيك مجتمعي، الذي يؤدي إلى التفتيت، وليس إلى التقسيم، حتى تمنع بروز قوى إقليمية عربية، قادرة على مواجهتها، وهي تنفذ مخططات دولية بأجندات إيرانية.

وهو ما يجعل السعودية تقف بكل ما أوتيت من قوة، من تشكيل قوات عربية مشتركة بقيادة مصر، تنضم إلى عاصفة الحزم بقيادة السعودية، التي ستنتهي مع عودة الدولة الوطنية الشرعية في اليمن، وكذلك مسؤولية مصر في عودة الدولة الوطنية الشرعية في ليبيا، تساهم في خلق جبهة عربية موحدة ومتماسكة فيما بعد، تقف أمام النفوذ الإيراني على المدى البعيد.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق