استنفار تركي في سورية بتنسيق سعودي يقابله قلق إيراني

كان الانسحاب الأمريكي المفاجئ من منطقة الشرق الأوسط بعد مجيء أوباما إلى البيت الأبيض بعدما أشعل بوش الابن المنطقة بحرائق واسعة بحجة وجود أسلحة دمار شامل في العراق وبحجة أخرى تطبيق الديمقراطية التي بشر بها المحافظون الجدد في البيت البيض حينذاك، نجد أن الأمريكية ستيفان والت لخصت واقع السياسة الخارجية الأمريكية عندما وصفتها (الدبلوماسية الأمريكية غالبا ما تعمد إلى إقحام واشنطن في صراعات وتعقيدات لا تستطيع الفوز بها ولا التهرب منها).

ما يحدث اليوم تغيرات بحالة القطبية العالمية بعد الأزمة المالية العالمية 2008 التي ساهمت في صعود دول ناشئة على حساب الدول المتقدمة صحيح أنها حتى الآن لم يدخل العالم مرحلة التعددية القطبية، لكن على الأقل لم تعد الولايات المتحدة تمارس أدوارها السابقة نفسها بوصفها الطرف المهيمن والمنفرد بالقرار الأممي.

 بل حتى استدارة أوباما نحو آسيا التي بدأها عام 2010 لم تؤتي أكلها، رغم ذلك يريد الأمريكيون بأن يستمروا سادة العالم ويستخدمون الآخرين حتى لو تم تدمير العالم ولا تهمهم أرواح الشعوب ما دامت هي غير حريصة على دماء شعوبها ولا يهم البيت الأبيض طول المدة أي أن نفسهم طويل جدا، بينما الروس يريدون النفوذ والندية مع أمريكا لكنهم لا يستطيعون الصبر طويلا بسبب أنهم لا يتحملون التكاليف مثلما تتحمل أمريكا.

هناك تغيرات عسكرية جذرية في سوريا بقيادة تركيا بعد تطبيع العلاقات مع روسيا حيث تجد روسيا تطبيع علاقتها مع تركيا مقدمة على العلاقات مع إيران رغم أنها علاقات جيواستراتيجية ذات أهمية لا تقل عن تركيا لكن روسيا لا تثق كثيرا بإيران، فيما يمكن أن تحقق روسيا مكاسب جيواستراتيجية عميقة مع تركيا على المدى الطويل، رغم أن تركيا ستوازن بين العلاقات بين الشرق والغرب، خصوصا وأن أمريكا لن تستغني عن تركيا كحليف، ولن تقيم تركيا علاقة على حساب علاقة أخرى وهي نفس الاستراتيجية التي تتبعها دول الخليج بقيادة السعودية.

وأصبحت تركيا والسعودية يحددان رؤيتهما للحل السياسي في سوريا، لكن مع عدم تجاهل روسيا رؤية الدور الإيراني من أجل أن تحقق روسيا أجندتها الخاصة في المنطقة ليس فقط في سوريا، ولم يعد الدور الكردي الذي استخدم كورقة مشاغبة من قبل روسيا والولايات المتحدة قد توقف مع تطبيع تركيا علاقتها مع روسيا.

 ومع زيارة بايدن إلى تركيا الذي قدم اعتذار الولايات المتحدة بسبب مواقفها حول الانقلاب الفاشل في تركيا لذلك تعهد بخروج الأكراد من منبج ومنع تمددهم غرب نهر الفرات الذي اعتبره خط احمر، ومطالبة الأكراد بالانسحاب إلى شرق نهر الفرات، ما يعني أن حلم الأكراد بتشكيل كيان كونفيدرالي، تلك التغيرات حسمت قيام مثل هذا الكيان لصالح الجيش الحر وفي نفس الوقت يحمي الداخل التركي.

زيارة أردوغان لبوتين أقام شبكة كاملة من الحماية لهذه الخطوة، وفي نفس الوقت حان الوقت لنهاية داعش لصالح تركيا والمعارضة السورية وليس لصالح الأكراد والنظام السوري خصوصا على الحدود التركية السورية.

وللمرة الأولى تتدخل تركيا علنا في سوريا وبشكل مباشر، لمواجهة العدو الأول لتركيا الحركة الكردية، لكن في المقابل هناك تراجع في الدور التركي في حلب حيث تدخل مرحلة تهدئة، وكذلك ما يحدث في داريا في الغوطة الغربية لدمشق بفرض النظام السوري شروطه حيث أمام المدنيين والمسلحين بالخروج إلى إدلب.

تحول تركيا إلى لاعب كبير في الأزمة السورية بعدم انكفاء نحو الداخل خصوصا بعد التدخل الروسي في سوريا، وزاد هذا الانكفاء بعد ضرب الدفاعات التركية للطائرة الروسية، وهناك حديث عن توحد الفصائل السورية في شمال سوريا.

هناك دور أمريكي بعدما تحسنت العلاقة مع تركيا التي أتت بعد زيارة بايدن ولكنها أمسكت بالعصا من الوسط تدعم الأكراد شرق نهر الفرات وتمنعهم من تجاوز هذا الخط وتعتبره خط أحمر.

نجحت تركيا ما لم تنجح من قبل في تشكيل منطقة آمنة بطول 70 كيلو مترا الفرات شرقا ومارع غربا وعمق يتراوح بين 25-30 كيلو مترا تمنع إقامة شريطا كرديا تعتبره تركيا خطا أحمر.

اكتفت روسيا بالتعبير عن قلقها من توسع دائرة الصراع بين أنقرة والأكراد، وطالبت بالتنسيق مع الحكومة السورية، لكن يبدو أن تزكية واشنطن للتوغل التركي في الأراضي السورية أقوى من أن تحصل أنقرة على إذن من دمشق التي لا تمتلك في الوقت الراهن لا الإمكانات ولا القدرة على فتح جبهة جديدة، رغم ذلك يعتقد عدد من المحللين السياسيين أن هناك تقارب تركي سوري مدفوعا بتقارب تركيا مع  إيران وروسيا حليفا بشار الأسد، تؤكده الهجمات الأخيرة للجيش السوري النظامي على الأكراد في الحسكة التي تعتبر بادرة حسن نية يظهرها الأسد لنظيره التركي رجب طيب أردوغان التي أثنى في سابقة منذ اندلاع الصراع على الرئيس السوري وتخلت تركيا عن المطالبة برحيل الأسد، حيث أن الدبلوماسية السعودية حاضرة في الأزمة السورية من أجل منع تقارب تركي إيراني على حساب وحدة سوريا، حيث أن تركيا يهمها النفوذ في سوريا والعراق، بينما يهم العرب وحدة أراضي سوريا لكن العرب غائبون سوى السعودية التي حريصة على الوقوف أمام مثل تلك المقاربات على حساب وحدة سوريا لكن تعيه تركيا.

لذلك تركت تركيا مصير بقاء الأسد للدور السعودي، فبعد زيارة كيري للسعودية 24/8/2016 وجدت أن موقف السعودية لم يتغير تجاه بقاء الأسد، وهو ما جعل البيت الأبيض يعلن يوم 26/8/2016 بأن موسكو باتت تشاطر واشنطن بشأن مصير رئيس النظام السوري ويؤكد أن لا إمكانية لاستمراره في إدارة شؤون البلاد.

فيما شنت صحيفة كيهان الإيرانية في 25/8/2016 هجوما عنيفا على تركيا متهمة إياها بإتباع أجندة أجنبية في سوريا، وهي صحيفة تتبنى آراء المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، قالت بأن تركيا تسعى لإيجاد موطئ قدم لها في سوريا لمساندة القوات المناوئة للأسد، حيث تعتبر إيران الجيش السوري الحر جماعة إرهابية.

 وتعتبر الصحيفة أن إبلاغ تركيا روسيا بقرارها هو خدعة، وتعتبر تركيا أنها تتبع سياسة الوجهين تجاه سوريا في إشارة إلى تطبيع العلاقات مع بشار الأسد، ما يعني أن التدخل التركي في سوريا ينهي الاحتكار الإيراني في سوريا، هذا ما يجعل إيران تركز على تكوين مليشيات جديدة في العراق تتحرش بالأكراد البيشمركة الموالية لتركيا، وترسل مليشيات إلى سوريا للقتال هناك، نتجت عن انشقاقات في جيش المهدي أو جيش السلام الذي شكله مقتدى الصدر حيث إيران منزعجة من مواقف الصدر بسبب أنها لم تتمكن من السيطرة عليه.

فشلت إيران في إغراء الروس وأردوغان وغرام أوباما الذي تركهم يندفعون بكل اتجاه وكأنه أعطاهم الضوء الأخضر وهي استراتيجية أمريكية قديمة، ونرى حسن نصر الله يعتقد أنه بعد انتصاره في حرب 2006 مع إسرائيل أصبح قوة إقليمية، وبعد انتصاره في سوريا سيصبح قوة عالمية، خصوصا وأن لديه سرايا المقاومة المنتشرة في المدن والبلدات السنية في لبنان تقدر بنحو خمسين ألفا.

 اعتمد قاسم سليماني عليه كثيرا، لكن بعد الهزائم المتواصلة في سوريا على أيدي الفصائل المعارضة، حاول نصر الله في أحد خطاباته  يتقرب لداعش بقوله أننا في خندق واحد نقاتل عدو مشترك وهي الولايات المتحدة، فيجب التوقف عن معاداة الحزب، ما يعني أن الحزب يكشف عن حقيقته لكافة مؤيديه في حربه تجاه إسرائيل عام 2006، بأن الحزب ينفذ أجندة إيرانية فارسية وليست مقاومة كما يدعي الحزب وكما تدعي إيران.

يعتقد الإيرانيون أن لديهم ضوء أخضر من أوباما في كافة أنحاء المنطقة على غرار شاه إيران بأن تكون شرطي المنطقة بل هم تعدوها إلى الهيمنة الكاملة على المنطقة، لذلك هم يريدون كل شئ من العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن، واقتربوا من روسيا ولكن دون تطابق، لذلك يتذمر منهم الجميع، والحل النهائي لديهم الاغتيال، وليس لديهم أي رادع من ممارسة التهجير والتقتيل والتطهير العرقي والمذهبي، فهم الأقل تقبلا للتسوية التي تتبعها الدول العظمى بعد مرحلة الصراع زمن الحرب الباردة، بل هم مستعدون بالتضحية بكل الشيعة سواء من العرب أو من الأفغان أو الباكستانيين وغيرهم، فهم مضطربون ولديهم حقد أعمى تاريخي تجاه العرب وخاصة تجاه السعودية.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق