استدعاء القاعدة إلى سورية

بعد انقضاء قرابة 22 شهراً على اندلاع الثورة السورية، بات جليا حجم ودور التنظيمات الجهادية المنبثقة عن تنظيم القاعدة، في الصراع المسلح الدائر في سورية، حيث تعتبر جبهة النصرة الواجهة الأكبر لها في الداخل السوري.

عمل النظام السوري في السنوات السابقة للثورة، ومنذ الاحتلال الأمريكي إلى تقييد وضبط العناصر الجهادية في سجونه، لإعادة إطلاقها ثانيه باتجاه العراق، في محاولة منه لدفع المشروع الأمريكي عن سورية، وإشغال المحتل الأمريكي بفوضى أمنية في الداخل العراقي.

وحال عودة هذه العناصر، أعاد النظام تقييدها في سجونه، مع السماح لها بتداول أفكارها وتغذيتها ضمن حدود المعتقلات السياسية، حيث يروي ناشطون كانوا قد اعتقلوا مع بداية الثورة، ملاحظاتهم عن حجم الحرية المتاحة لهذه العناصر في الدعوة للجهاد بين المعتقلين، وفي تناول كتب محظورة في الشارع السوري أساسا، وفي طرح أفكار العمل المسلح بدلاً عن المظاهرات السلمية، وذلك قبل إعادة إطلاق هذه العناصر.

فيما لم يكن الشارع السوري يميل قبل الثورة لهكذا جماعات، إلا بشكل محدود وضيق، ودون الإفصاح عن ميولهم تلك، بل كانت غالبية الشعب تفضل الاتجاهات الإسلامية الأكثر حداثة، أو الأقل تشددا. ولم تشهد سورية على غرار جيرانها عمليات إرهابية كبيرة لهذه الجماعات، إلا بشكل بسيط، طالما تم التشكيك بمنفذيها ومخططيها، ونسبت في بعض الحالات إلى النظام نفسه بهدف تشديد قبضته الأمنية على البلاد، وملاحقة بعض الناشطين السياسيين.

وفي الوقت ذاته كانت المنطقة تشهد نوعا من الصراعات الطائفية، بعد احتلال العراق، والدور الإيراني فيه، إذ أدى هذا الدور إلى بناء منطق طائفي تم تغذيته إعلاميا من قبل أطرافه ليتسع في العراق أولا، وفي محيطه الخليجي ثانيا، عدا عن محاولات التغلغل الإيراني في سورية من خلال حملة تشييع أشرف عليها النظام السوري ذاته، إضافة للدور البارز للقوى الشيعية في لبنان، والتي كانت على تصادم مباشر عدة مرات مع القوى الأخرى منذ عام 2005.

وقد استدعى النظام السوري منذ اندلاع الثورة، الحالة الطائفية تلك، عبر شعارات تمس المعتقد الديني للغالبية السكانية من جهة، وتجييش الطائفة العلوية عبر تخويفها من الطائفة السنية من جهة ثانية، ومن خلال الاستناد الأمني والعسكري على القوة الإيرانية من جهة ثالثة.

فيما أدى الإيغال في استخدام القوة المسلحة لقمع التظاهرات السلمية، إلى ميول عام لمناهضة قوات النظام عبر رفع السلاح أولا لحماية المظاهرات والمناطق الثائرة، ومع ارتفاع وتيرة العنف الموجه من قبل النظام، تحولت الثورة إلى العمل المسلح لإسقاطه.

ونتيجة لاستحضار الحالة الطائفية أولا، وللتدخل الإيراني بشكل مباشر في محاولة قمع الثورة السورية لاحقا، كان المجال أكثر قبولا لفكرة الجهاد في مناهضة النظام وحلفائه. وإن كانت فكرة الجهاد تلك لم تخرج عن إطار القوى المنشقة عن الجيش السوري والقوى المدنية التي رفعت السلاح بجانبه هذه القوى، فيما لم تكن تملك تمويلا حقيقيا أو سلاحا تستطيع من خلاله التقدم عسكريا.

وباعتبار أن الثورة السورية، هي امتداد لحالة الربيع العربي، فإنها كانت مجالا خصبا للتدخل الخارجي، سواء لمساندة النظام أو لتأييد الثورة، وقد عمل النظام منذ البداية على تدويلها من خلال استدعاء القوى الحليفة له ولو سياسيا على الأقل، ورفض كل الطروحات العربية لإيجاد تسوية مقبولة لكل الأطراف.

أدت هذه العوامل لخلق بيئة مناسبة لنمو التيار الجهادي، الذي بدأ يتصدر ساحة العمل العسكري، بتمويل خارجي تفوق من خلاله على الكتائب العسكرية الأخرى، وتنظيم فكري صارم مستقى من خبرة تمتد لعقود سابقة.

واستقطبت هذه البيئة مجاهدين من آسيا وإفريقيا، بمراقبة القوى الكبرى (روسيا والولايات المتحدة)، إذ سهلت كل من باكستان وأفغانستان خروج العناصر الجهادية من أراضيها باتجاه سورية، فيما عملت تركيا والعراق على تيسير دخول هذه العناصر إلى سورية، عدا عن العناصر القادمة من ليبيا وتونس واليمن.

وكأن القوى الكبرى (روسيا والولايات المتحدة) قد جعلت من سورية مصيدة لهذه التنظيمات الجهادية، عبر تسيير وصولها من معابر محددة (الأردن لم يسمح بذلك)، وإغلاق الحدود في وجهها في الاتجاه المعاكس، أي تجميع شتات هذه القوى بعد أن أنهكت في أفغانستان والعراق واليمن وتوجيهها إلى سورية. عبر إدراك واع للطبيعة الفكرية لهذه الجماعات، وإدراك مستقطباتها الجهادية.

وفيما تتهم الولايات المتحدة الروس بأنهم يوفرون تغطية كبرى للأسد للاستمرار في قتل شعبه، تتهم روسيا بدروها الولايات المتحدة بتنمية ودعم القوى الإرهابية في سورية.

لكن روسيا استطاعت أن تتخلص من بعض العبء الذي تمثله هذه الجماعات على حدودها (أفغانستان)، وداخل أراضيها (الشيشان)، فيما تتخلص الولايات المتحدة من عبئهم في أفغانستان والعراق واليمن وليبيا. وتعمل القوتان على تجميع العناصر الجهادية داخل محيط جغرافي مغلق.

في المقابل، فإن الثورة السورية لم تعد مجرد إشكالية بين شعب ثائر ونظام مجرم، بل أصبحت مادة مهمة للتفاوض الدولي على توزيع المصالح وإعادة هيكلة القوة على المستوى الدولي، فلن تقبل روسيا أو الولايات المتحدة بإنهاء الأزمة دون القضاء على هذه المجموعات الجهادية، كذلك حال القوى الإقليمية (إيران وتركيا).

ولعل الهدف من تجميع هذه العناصر، السماح لقوات الأسد بقتل أكبر عدد ممكن منهم، رغم ترافق ذلك بسقوط الآلاف من المدنيين، ومن ثم استخدام القوة الأمريكية المباشرة بعد إسقاط الأسد في تصفية هذه المجموعات، وعبر دور للحكومة المقبلة في ذلك.

ومن المعلوم أن المجلس الوطني والائتلاف الوطني، رفضا التصنيف الأمريكي لجبهة النصرة على قائمة المنظمات الإرهابية الدولية، واعتبارها شريكا أساسيا في القتال ضد قوات الأسد، لكن تواصلا فعليا بين الجهتين لم يحدث، عدا عن أن فعالية القوى السياسية المعارضة غير قادرة على ضبط السلوك العسكري في الداخل أولا، وعلى فرض أجندة سياسية على القوى الكبرى ثانيا.

وقد عمدت الولايات المتحدة إلى التفريق بين جبهة النصرة ومقاتلي الجيش الحر، كتمهيد لإملاء دور على القوى السياسية والعسكرية في المستقبل للقضاء على عناصر هذه الجبهة، أي إشغال الداخل السوري بحراك عسكري مقبل.

في المقابل، فإن تنظيم القاعدة استفاد من تجاربه السابقة في العقود الماضية، وعمل على تأسيس حاضن شعبي له، في عدة مناطق من سورية، وخاصة في حلب، وترويج ذاته كقوة قادرة على مناهضة قوات الأسد، عبر قدرات تسليحية ومالية واسعة، ومساندة عسكرية لكتائب الجيش الحر، أسهمت في السيطرة على العديد من المواقع العسكرية لقوات النظام.

قبل أن يتحول هذا التنظيم إلى فرض توجهه السياسي في البلاد، عبر فكر متشدد، لقي قبولا شعبيا من عدد من الفئات المجتمعية التي وجدت فيه مخلصا من العبء الأسدي عليهم.

إلا أن ملامح الصدام بدأت تتشكل مع القوى السياسية والعسكرية في الداخل السوري، وإن كانت حادثة تفريق إحدى التظاهرات منذ أيام في حلب بقوة السلاح، أو هجوم جبهة النصرة على جهات مسلحة بحجة فسادها، واعتقال بعض الأفراد ذات دلالة أولية، إلا أن قوة جبهة النصرة وإصرارها على المضي قدما في مواجهة قوات الأسد التي ترفع من وتيرة استخدام كافة أنواع الأسلحة، تجعل من هذه الجبهة ذات حاضن شعبي وقوة عسكرية.

وقد استغلت هذه الجبهة حالة الحرب في البلاد، وفقدان الأمن والحاجات الإنسانية الضرورية، والعمل على توفير ذلك لأنصارها، لتقوية مكانتها المستقبلية، وقد بدأت تطرح شيئا من فكرها السياسي المعتمد على الفكر التكفيري من جهة، وعلى رفض الآخر من جهة أخرى.

ومع أن الوضع السوري يبقى معلقا بيد القوى الكبرى، إلا أنه بات من الضروري تنبه القوى السياسية والعسكرية العاملة على إسقاط النظام إلى دور تنظيم القاعدة في المستقبل السوري، وعدم القبول بإسقاط حكم ديكتاتوري لصالح آخر، تحت مبررات الثورة، فالثورة السورية لم تصنعها كتائب القاعدة، بل كانت ثورة شعبية لكافة أطياف المجتمع، ولابد من الحفاظ عليها كذلك.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق