احتلال الجزر الإماراتية بين دبلوماسية الوفاق الدولي، ونظام الأمن الجماعي

مقدمة

منذ بداية العام 1970، أصبحت السياسة الخارجية الأمريكية أمام وضع استثنائي، أدى إلى تأييد فكرة الانعزالية، وعدم التدخل في الشؤون الدولية، لاسيما بعد تداعيات حرب فيتنام، وما تركته من آثار في المزاج الامريكي، الذي كان شديد الانتقاد لفكرة التدخل العسكري الأمريكي في العالم.

ومنذ ذلك التاريخ أيضاً، بدأت السياسة الخارجية الأمريكية، تأخذ نمطاً جديداً في علاقتها مع القوى الإقليمية والدولية، يقوم على ردة الفعل، التي ظهرت لتصحح مسار السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال ما سمي بـ”دبلوماسية الوفاق الدولي”، كأداة جديدة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، لاسيما بعد أنْ كسر الاتحاد السوفياتي قاعدة التفوق الامريكي في مجال الأسلحة الاستراتيجية.

احتلال الجزر الإماراتية، والدور الإيراني في إطار لعبة الأمم

ظهر التواطؤ والعجز الدولي واضحاً أمام الغزو  الإيراني للجزر الإماراتية، سواء على صعيد واقعية العلاقات الدولية، أو على صعيد  دور  منظمة الأمم المتحدة، فأصبح الوضع القانوني للجزر الإماراتية الثلاث، مهدداً بالصمت و التخلي  الدولي، الذي جاء في سياق من العلاقات الدولية، التي  أفرزت دبلوماسية الوفاق الدولي بين القطبين العالميين (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي)، حيث سمح هذا الوفاق لإيران في استغلال هذا الظرف الدولي، من خلال قدرتها  على  استغلال  الواقع الدولي، الذي لا يؤمن إلا بالمصالح الذاتية للدول، و هو ما يتعارض بشكل واضح وبيّن مع ميثاق الأمم المتحدة، قواعد القانون الدولي العام.

عملت القوى الغربية على إيجاد قوة اقليمية تحافظ على المصالح الغربية في منطقة الخليج العربي، وقد برزت إيران كقوة مرشحة للعب مثل هذا الدور، الذي تمكنت من خلاله القيام بعملية الاستيلاء غير القانوني على الجزر الإماراتية.

إبان تلك المرحلة، كان المزاج الدولي كما المزاج الأمريكي، يميل إلى دبلوماسية الوفاق الدولي، وتخطي عقيدة الصراع، الذي وضع جميع الأطراف الدولية – لاسيما في حروب الهند الصينية- أمام طريق مسدود ، تلاشت معه السياسة الخارجية وأهدافها، لصالح سباق التسلح والانتحار المتبادل.

 من جهة أخرى، أخذت إيران الضوء الأخضر من القوى الغربية، التي روجت لنظرية “أمن الخليج” كنظرية غربية تسعى إلى إبقاء الوضع الراهن في الخليج العربي، وعدم محاولة إثارة استفزازات إقليمية، قد تجر الدول العظمى إلى العودة إلى عقيدة الصراع، والإخلال بدبلوماسية الوفاق الدولي، مما يتعارض وتحقيق المصالح الحيوية للقوى الدولية، الأمر الذي وضع هذه القوى في حالة من الصمت، الذي شرعن لإيران استيلائها غير المبرر على هذه الجزر.

وعليه، أقدمت إيران في العام 1970، على احتلال الجزر الإماراتية عن طريق القوة العسكرية، في غطاء من المصالح الإقليمية والدولية، وتخلي بريطانية عن مسؤولياتها في منطقة الخليج العربي، وانكفاء الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي للمحافظة على دبلوماسية الوفاق الدولي فيما بينهما.

مناطق النفوذ بديلاً عن نظام الأمن الجماعي

أصبحتْ مسألة احتلال إيران للجزر الإماراتية، في نظر الدولتين العظميين، أشبه بعمل تكتيكي في إطار تبادل المصالح في مناطق النفوذ، بحيث لا ينال من الوضع الاستراتيجي بين القطبين، الذي يتأسس على اتفاقيات الوفاق الدولي، مما حال أيضاً، دون تدخل الأمم المتحدة، لمواجهة العدوان الإيراني، وحال دون قدرة المجتمع الدولي ودوره في تطبيق نظام  الأمن الجماعي، الذي نصت علية المادة 43 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تضمنت “يتعهد جميع أعضاء الأمم المتحدة في سبيل المساهمة في حفظ السلم والأمن الدولي، أن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن بناء على طلبه وطبقا لاتفاق أو اتفاقات خاصة ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدولي”[1].

كما حال دون ردع العدوان عن طريق الأمم المتحدة استناداً لما تضمنته المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي نصت ” ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء  الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالا لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فوراً، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس – بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمدة من أحكام هذا الميثاق- من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه”[2].

في السياق ذاته، تعالت أصوات المفكرين الاستراتيجيون في الولايات المتحدة للدفاع عن فكرة الحرب المحدودة، والوفاق بديلاً عن الحرب الشاملة وسباق السلاح النووي؛ بما يُؤمّن مصالح الولايات المتحدة في أماكن محددة من العالم، لاسيما في الشرق الأوسط وفي منطقة الخليج العربي على وجه الخصوص.

أصبحت إيران أيام الشاه، الحليف الاستراتيجي الأقوى، في الوقت الذي لم يعد الحديث عن التدخل العسكري، أمراً ذا أهمية في إطار دبلوماسية الوفاق الدولي، التي لم تعد تنظر إلى العالم من خلال الميثاق الأممي، ونظام الأمن الجماعي، الذي ينظر إلى العالم كوحدة جغرافية، يتعين فيه الدفاع عن أية بقعة من بقاع العالم، استناداً إلى قواعد وآليات دولية مشتركة، أساسها التصوّر الأصلي لتأسيس منظمة الأمم المتحدة في التعاون والتفاهم بين الدول المعنية بحفظ السلم والأمن الدوليين.

وهكذا، أنضوت مسألة احتلال إيران للجزر الإماراتية، في إطار سياسة الأحلاف أو مناطق النفوذ، التي ولدت من رحم سياسات الصراع والتناقض الإيديولوجي بين معسكرين اقتسما السيطرة على العالم؛ قبل أن يتوافقا في الخروج من عقلية الصراع المطلق أو الانتحار المتبادل.

أمام هذا الواقع اقتصر دور الأمم المتحدة ونظامها الجماعي، في التعامل مع الأزمات والمشكلات التي تدخل في إطار الصراع بين القطبين العالميين، أما ماعدا ذلك فهي مجرد أزمات أو مشكلات غير ذات أهمية، أو مشكلات لا يريد الطرفان حلها لسبب من الأسباب[3]، الأمر الذي حال دون قدرة الأمم المتحدة في القيام بأي دور يذكر في قضية الجزر الإماراتية، فتحوّل الدور الذي تضطلع به قواعد ومبادئ القانون الدولي العام، من دور أساسي ومركزي إلى دور هامشي.

منذ ذلك التاريخ، أخذتالأطماع الفارسيّة تتجدد بالسيطرة على منطقة الخليج العربي، لاسيما بعد أن أعلنت بريطانيا عن عزمها الانسحاب من منطقة شرق السويس، وسحب قوّاتها من الخليج العربي مع نهاية عام 1971.

 وعلى هذا الأساس، اتجهت الحكومة الإيرانية الشاهنشاهية إلى تغيير سياستها بطريقة تتوافق مع المصالح البريطانية لوراثة مناطق نفوذها، والسيطرة على منطقة الخليج العربي بشكل خاص. وقد أعلن شاه إيران محمّد رضا بهلوي آنذاك عن عزمه بشغل الفراغ الذي سينشأ عن الانسحاب البريطاني، مستغلاً تخلي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عن فكرة الاصطدام العسكري فيما بينهما.

في نهاية العام 1971، وتزامناً مع اتفاقيات دبلوماسية الوفاق الدولي بين القطبين العالميين (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي)، قامت القوات البريطانية بالانسحاب من الخليج العربي، الذي ترافق مع قيام العدوان الإيراني على الجزر الإمارتية واحتلالها بقوة السلاح.

الموقف البريطاني ومحاكاة دبلوماسية الوفاق الدولي

بالرغم من إدانة الصحف البريطانية للموقف البريطاني، الذي يحتم عليها حسب القانون الدولي  مسؤولية حماية هذه الجزر، إلا أن بريطانية وقفت متفرجة على إيران وهي تستولي على جزيرتي طنب وأبو موسى، وقد أظهرت المراسلات التي دارت بين وزارة الخارجية البريطانية ومندوبها السامي في الفترة التي سبقت الانسحاب البريطاني، بالتزامن مع احتلال الجزر، تخلي بريطانية عن تعهداتها بحماية الجزر، واكتفائها بتصريحات دبلوماسية لا تقدم ولا تؤخر، بقدر ما تكشف عن الرغبة البريطانية في عدم التصادم مع الشاه في إيران، وهو ما يخفي تساهل وتواطؤ بريطاني ممنهج في عدم معالجة موضوع الجزر الإماراتية، حتى في المراحل التي لحقت الاحتلال.

لم تحسب بريطانية أي حساب للرأي العام البريطاني أو العربي، كميزة أظهرت طبيعة سياسة الحكومة البريطانية في منطقة الخليج العربي، التي عزلتها عن العالم، حتى أن أخبار هذه المنطقة لم تكن تصل إلى المسؤولين البريطانيين سواء في لندن أو دلهي. بالإضافة لذلك فقد عانت منطقة الخليج العربي ضعفاً اقتصادياً، بسبب عدم اكتشاف النفط على السواحل بعد[4]، مما جعلها غير ذات ثقل أو تأثير اقتصادي، وبالتالي ضعفاً في التأثير السياسي.

 

خاتمة

لقد ظل الموقف الإيراني متعنتاً في إصراره على احتلال الجزر، وليس مستعداً لأية مناقشات تتعلق بالوثائق والحقوق والمطالب التاريخية، أو المثول أمام المحاكم الدولية، ويعود ذلك لضعف الدور الفاعل للنظام العربي الإقليمي، وكذلك بسبب عدم وجود موقف خليجي حازم ومحدد، يجعل من إيران أو الدول العظمى تأخذ موضوع الجزر الثلاث على محمل الجد، سواء لجهة الضغط السياسي والدبلوماسي على إيران، أو الضغط عن طريق المنظمات الدولية، وقواعد ومبادئ القانون العام، التي اعتبرت أن التدخل العسكري في أراض الغير، عدواناً حاصلاً ومحققاً، وتهديداً فعلياً لحفظ السلم والأمن الدوليين، لاسيما مع الممارسات الإيرانية اليوم التي تعمل على تحويل الجزر إلى قواعد عسكرية، تحسباً لأية مواجهة محتملة ضد سياساتها المتمثلة بالتمدد والسيطرة على كامل منطقة الخليج العربي.

د. محمد خالد الشاكر

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث 

 

هوامش

1 – انظر ميثاق الأمم المتحدة، المادة 43، فقرة1.

2 – انظر:ميثاق الأمم المتحدة المادة 51.

3-  انظر: حسن نافعة، “دور الأمم المتحدة في تحقيق السلم والأمن الدوليين في ظل التحولات العالمية الراهنة”،  في كتاب ” الأمم المتحدة  ضرورات الإصلاح في نصف القرن، وجهة نظر عربية “، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، أيلول  1996، ص 119.

4- Rosemarie Said Zahlan, The origns of the U.A.E( London: Macmillan press, 1978).p 129.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق