إيران .. ومحاولات الغزو الشيعي لموريتانيا على جبهات مختلفة

بدأت محاولات إيران بتصدير المد الشيعي إلى موريتانيا مع نهاية سبعينيات القرن الماضي ومطلع الثمانينيات، بعد سيطرة الخميني وأتباعه على مقاليد السلطة في طهران، حين استأنفت السفارة الإيرانية في نواكشوط نشاطاتها التبشيرية عبر توفير آلاف المنشورات الشيعية من كتب ومجلات وكراسات تروج للمذهب الشيعي، خصوصا بعض المؤلفات التي أصدرها بعض كبار علماء وكتاب الشيعة من أمثال محمد باقر الصدر ومحمد علي شريعتي ومحمد حسين فضل الله وغيرهم، وقد أثارت تلك المنشورات جدلا كبيرا في أوساط الشباب الموريتاني خصوصا الذين كانوا يحاولون تلمس خيط التيار الإسلامي الذي طرأ على البلاد مع عودة بعض الطلاب الموريتانيين من مصر وتونس والمشرق العربي، منخدعين بشعار الثورة الإسلامية الإيرانية، لكن مفتي موريتانيا حينها والإمام الأكبر بداه ولد البصيري كان صارما في التصدي لمحاولات نشر المذهب الشيعي في البلد، فوقف ضده بقوة وحذر منه منبها الشباب الموريتاني إلى خطورة الانخداع بالخطاب الإيراني الشيعي، ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية كان موقف موريتانيا مؤازرا للعراق ضد إيران فتوترت العلاقات بين البلدين ووصل الأمر إلى حد القطيعة الدبلوماسية بينهما.

حضور للعقيد الشيعية في التعاطي مع الحكم في موريتانيا:

وفي نهاية عام 1984 وصل إلى الحكم في موريتانيا العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع بواسطة انقلاب عسكري، فشنت وسائل الإعلام الإيرانية حملة على موريتانيا بسبب اسم رئيسها الجديد “معاوية”، وعلق متحدث باسم الحكومة الإيرانية حينها على التطورات في موريتانيا بالقول “إن اسم الرئيس الجديد لا يبشر بخير”، في استحضار مكشوف لعقيدة الشيعة التي تبغض الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، واستمرت القطيعة بين البلدين حتى شهر أغسطس عام 2005، حينما قاد العقيد “علي ولد محمد فال” انقلابا عسكريا أطاح خلاله بحكم “معاوية ولد الطايع”، فعاد الإيرانيون ثانية لتوظيف المعتقدات الشيعة في تعاطيهم مع الشأن الموريتاني، وتداولت وسائل الإعلام الإيرانية الخبر بعناوين مريبة من قبيل: “وأخيرا أطاح علي بحكم معاوية في موريتانيا”، وسعى الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد إلى لقاء الرئيس الموريتاني الجديد علي ولد محمد فال، على هامش قمة المؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة نهاية عام 2005، وهو اللقاء الذي أسفر عن عودة العلاقات بين البلدين، وفتح سفارتين لكل منهما في عاصمة البلد الآخر.

الغزو القادم من الجنوب:

وخلال فترة القطيعة الدبلوماسية بين موريتانيا وإيران منذ مطلع الثمانينيات وحتى نهاية عام 2005، لم يكف الإيرانيون عن محاولات اختراق المنظومة الدينية والفكرية الموريتانية، وتصدير المد الشيعي، وذلك عبر غزو عقدي وفكري كانت دول إفريقيا الغربية المجاورة لموريتانيا مسرحا له، حيث ظهر التشيع لأول مرة في جمهورية السنغال المجاورة لموريتانيا في نهاية ستينيات القرن الماضي، بعد زيارة قام المرجع الشيعي موسى الصدر للمنطقة، وإقامة عالم الدين الشيعي اللبناني عبد المنعم الزين في السنغال، حيث احتك الشيعة اللبنانيون والسنغاليون بالتجار الموريتانيين في السنغال وغرب إفريقيا، وتمكنوا من استقطاب بعضهم، وإن كانوا أقلية، وإقناعهم بالمذهب الشيعي، كما انتهز الإيرانيون فرصة التعاطف الذي كان يحظى به حزب الله اللبناني في الشارع العربي عموما والموريتاني خصوصا، بوصفه فصيلا مقاوما للاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يكشف عن حقيقته الطائفية عشية اندلاع الثورة السورية، واصطفافه إلى جانب نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري.

كما استغل الإيرانيون التقارب البين بين الصوفية والتشيع، خصوصا أن موريتانيا تعرف انتشارا واسعا للطرق الصوفية، ويرتبط الصوفيون فيها في الغالب الأعم بمرجعيات وحواضر في السنغال وغرب إفريقيا، ويعرف عن الصوفيين تعلقهم بآل البيت وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وهي البوابة التي يحاول منها الإيرانيون التغلغل شيعيا وكسب عواطف الناس، معتمدين في ذلك على مبدأ التقية الذي يشكل أساسا قويا في معتقداتهم، ينضاف إلى ذلك قيام المؤسسات الإيرانية باستخدام المال لتصدير المذهب الشيعي وشره عبر تمويل الجمعيات والشخصيات ذات الولاء الشيعي، أو تلك التي يسعى الشيعة لاكتسابها.

بدايات الظهور الشيعي في موريتانيا:

وكان أول ظهور علني للشيعة في موريتانيا سنة 2006 عندما أعلن رجل موريتاني في الخمسينيات من العمر يدعى “بكار ولد بكار” اعتناقه للمذهب الشيعي، واصفا نفسه حينها بأنه غير شيعي غير متمذهب، فلا هو يميل إلى مذهب الاثنا عشرية، ولا إلى النصيرية ولا إلى اليزيدية، وكان على قدر كبير من الجهل بالدين بل وأقرب إلى الأمي منه إلى المتعلم، لكنه كان الوحيد الذي امتلك الجرأة على إعلان تشيعه وسط مجتمع سني محافظ، وبدأ يتصل بوسائل الإعلام للإعلان عن نفسه، قبل أن تتلقفه السفارة الإيرانية، التي مولته ووفرت له فرص السفر إلى مدينة قم الإيرانية للقاء المرجعيات الشيعية وتلقي التعليمات منها، حيث كشف عن حقيقة اعتناقه للمذهب الشيعي الاثنا عشري، وتقول مصادر إن ولد بكار يقوم في بعض ضواحي العاصمة بتنظيم بعض النشاطات الشيعية كاحتفالات عاشوراء ويوم الغدير وغيرها، وكانت أول محاولة للتمظهر العلني للشيعة في موريتانيا سنة 2011 عندما حاول “بكار ولد بكار” جمع عدد من أتباعه، وأغلبهم من أفراد أسرته وبعض العوام من ذوي العوز المادي والجهل المعرفي، وذلك بغية إحياء ذكرى عاشوراء في منزل بحي عرفات جنوب العاصمة نواكشوط، وقد تصدى لهم عدد من الأئمة وعلماء الدين، محذرين السلطات من مغبة التهاون مع المد الشيعي في البلد، ووصف بعض العلماء الموريتانيين محاولات إيران التغلغل عبر المد الشيعي بأنه لا يقل خطورة عن دعوات التطبيع مع إسرائيل، بل و أخطر منه نظرا للنوايا الإيرانية الخبيثة، وتلبسها بلبوس الإسلام، وقد أسس “بكار ولد بكار” جمعية تحمل اسم جمعية “الطاهرين” آل البيت، إلا أن السلطات الموريتانية رفضت الترخيص لها، فأعاد تأسيسها من جديد تحت اسم “جميعة بكار للثقافة والعلوم” حيث تم الترخيص لها، وبدأت نشاطاتها الثقافية للتغطية على نشاطاتها الشيعية وتوفير منبر مرخص لتلك النشاطات.

وقد طالب “بكار ولد بكار” في أكثر من مرة بتمكينه من تأسيس حسينية في نواكشوط خاصة بالشيعة الموريتانيين، زاعما أن أتباعه أصبحوا بالآلاف، وهو رقم يقول العارفون بحقيقة الرجل إنه بمالغ فيه.

عائدون من السنغال ينشطون في موريتانيا:

ومع ظهور بكار ولد بكار، بدأ بعض الموريتانيين الذين تشيعوا سرا في السنغال بالعودة إلى بلادهم وكشف النقاب عن حقيقتهم، ومن أشهرهم، المدعو “أحمد يحيى ولد بلال”، وهو رجل في الخمسينيات من عمره ينحدر من وسط علمي محافظ، درس الفقه واللغة العربية وتضلع فيهما، قبل أن يعتنق المذهب الشيعي، وقد استدعي إلى إيران للقاء المرجعيات الشيعية وتلقي التعليمات هناك، كما زار لبنان في إطارا أنشطته المذهبية، وله علاقات واسعة بالشيعة في السنغال، وقد استطاع جذب بعض أفراد أسرته وتوظيفهم لنشر المذهب الشيعي.

إضافة إلى المدعو محمد الشيخ حيدرة، وهو تاجر موريتاني ثري، يملك استثمارات كبيرة في دول غرب إفريقيا، كان نشاطه الشيعي يقتصر على السنغال وغامبيا وغينيا وغيرها، قبل أن يقرر العودة إلى موريتانيا لاستئناف نشاطاته فيها عشية عودة العلاقات الدبلوماسية الموريتانية الإيرانية، ويصفه الكثيرون بأنه الذراع المالي والعلمي لإيران في المنطقة، وله العديد من المؤلفات التي يدافع فيها عن المذهب الشيعي ويتنبأ بانتشاره في موريتانيا وغرب إفريقيا، ويركز في دروسه وأنشطته على الترويج لبعض المعتقدات الشيعية كزواج المتعة وسب بني أمية وبعض الصحابة والخلفاء الراشدين، وهو على خلاف ظاهري على الأقل مع بعض المتشيعين الموريتانيين الذين يتهمهم بالجهل والانتهازية، خصوصا “بكار ولد بكار”.

كما أعلن في موريتانيا عن ميلاد جمعية تسمى “رابطة أهل البيت في موريتانيا”، وهي جمعية يترأسها الدكتور أحمد بمبا، ورغم أن بعض المواقع والهيئات الشيعية تعتبرها إحدى الهيئات الشيعية الهامة في موريتانيا، إلا أن القائمين على تلك الجمعية ينفون علاقتها بإيران أو سعيها لنشر المذهب الشيعي، مؤكدين أنها جمعية صوفية بحتة وأن اسمها لا يعني بالضرورة تشيعها، وما تروج له بعض المراكز الشيعية في العراق وإيران من تبعيتهم لها، مجرد كذب وافتراء، ويقول الأمين العام لرابطة أهل البيت، “إننا نحترم الشيعة وندعو للتقارب معهم لكن لا نرتضي مذهبهم تماما”، لكن العارفين بالجمعية ومن يقف وراءها يؤكدون أنها جمعية شيعية وأن تبرأها من المذهب الشيعي ليس إلا امتثالا لمبدأ التقية السائد في أوساط الشيعة.

الغزو الاقتصادي والثقافي والسياسي:

واقتصاديا سعت إيران إلى استغلال الرفض الشعبي في موريتانيا للعلاقات الدبلوماسية التي أقامها نظام ولد الطايع مع إسرائيل للترويج لنفسها كرافض للتطبيع وكبديل اقتصادي وسياسي عن إسرائيل، وعشية إعلان الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد عبد العزيز عن قطع العلاقات مع إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلي من نواكشوط، قام وزير الخارجية الإيراني الأسبق منوشهر متكي بزيارة لنواكشوط أعلن خلالها أن إيران ستتكفل بتمويل وتأهيل مشروع مستشفى أمراض السرطان الذي كانت إسرائيل قد وعدت بإنشائه وتأهيله، ويقول بعض عمال المركز إن “منوشهر متكى” صرح أمام العاملين في المستشفى خلال زيارته لنواكشوط، بالقول “إننا قادمون”، لكن إيران لم تف بوعدها مما دفع الحكومة الموريتانية للتكفل بالمستشفى وتهيئته، وفي سنة 2010 قام الرئيس الموريتاني بزيارة إلى طهران تم خلالها التوقيع على اتفاقية في مجال النقل، قامت بموجبها إيران بتوفير عشرات من باصات النقل لصالح شركة النقل العمومي الرسمية في موريتانيا، كما تعهدت بتوفير 200 سيارة صغيرة لتلك الشركة، لكن تبن لحقا أن الباصات كانت من الطراز الرديء وقد تهالكت وخرجت من الخدمة قبل أن تكمل سنتها الأولى، الأمر الذي هدد بإفلاس شركة النقل العمومي لولا تدخل الدولة ومنحها للشركة تمويلات إضافية، أما السيارات الصغيرة فلم يتم توفيرها حتى الآن.

وعلى المستوى الثقافي سعت السفارة الإيرانية في نواكشوط لدى رئاسة جامعة نواكشوط ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي من أجل السماح بفتح قسم للغة الفارسية وآدابها في جامعة نواكشوط، كمدخل ثقافي للتغلغل الشيعي في المنظومة التعليمة، كما أعلنت عن توفير خمس منح سنويا لطلاب موريتانيين في مجالات العلوم السياسية، لكن السلطات لم تسمح حتى الآن بفتح القسم المذكور بجامعة نواكشوط رغم مساعي السفارة الإيرانية لذلك.

كما ارتبطت السفارة الإيرانية بعدد من السياسيين الموريتانيين الذين تحدثت وسائل الإعلام الموريتانية عن اعتناقهم للمذهب الشيعي، لكنهم يصرون على أن علاقاتهم بإيران هي علاقة تأييد سياسي فقط لا دخل للبعد العقدي فيها، وذلك في إطار الحلف الداعم للنظام السوري وطهران تحت مسمى “حلف الممانعة” ولا يخفي هؤلاء عداءهم للعديد من الدول العربية خصوصا دول الخليج العربي، التي يعتبرونها عدوا لإيران، لكن على المستوى الشعبي هناك إجماع على رفض إيران والحذر من مساعيها لتفكيك المجتمع الموريتاني عبر محاولات نشر المذهب الشيعي.

محمد محمود

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق