إيران وخروج المجتمع على الدولة الدينية

تبدو دعوة ايران العلنية الى اقامة تحالف يضمها والحكمين العراقي والسوري وحركات من بلدان أخرى بعد اجتماع ثلاثي في طهران، في معرض «المؤتمر الدولي لعالمٍ ضد العنف والتطرف»، بمثابة تأكيد إضافي على ان توسيع نفوذها الاقليمي لا يزال وسيبقى أولوية راسخة، اياً تكُن مصائر التفاوض حول ملفها النووي وعلاقاتها بالولايات المتحدة وبالقوى الدولية. واذا اخذنا في الاعتبار نوعية وكمية الأخطار والكلفة العسكرية والاقتصادية التي رتَّبتها وتُرتبها هذه السياسة والاحتكاكات التي تنتجها مع قسم من مكونات العراق السياسية والطائفية وغالبية السوريين وسائر القوى الاقليمية، فإن التفسير الراجح للتمسك بها يكمن في منشئها وصيرورتها كضرورة عضوية لبقاء النظام الخميني نفسه.

بالمعنى المذكور يمكن فهم انعدام ارادة حكومة الرئيس روحاني القادم من سراي «الثورة الاسلامية» بإجراء اي تغيير جدي في سياستها الاقليمية تحديداً، وفي جعل الاحتفاظ بهذه السياسة وتدعيمها عنصراً ثابتاً يبدو ان سياسة «الانفتاح» والتلميع لم تشملها في أية لحظة، وهذا على رغم اعتراض قسم من «الإصلاحيين» الذين دعموا روحاني، وأبرزهم هاشمي رفسنجاني رئيس «مجمع تشخيص مصلحة النظام» الذي أشار مؤخراً بكلمات واضحة إلى عدم الاهتمام بآثار «التنازع بين المسلمين» و «تمسكنا بالخلافات السنية الشيعية وبشتم الصحابة والاحتفال بيوم مقتل عمر، حتى باتت هذه الأعمال عادية للكثيرين واعتبر البعض أداءها جزءاً من العبادة».

يقول أمير عبد اللهيان مساعد وزير الخارجية أن «الجمهورية الاسلامية باتت اليوم الأكثر نفوذاً في المنطقة ولا شك انها تستخدم هذا النفوذ لضمان امنها القومي ومصالحها القومية وامن المنطقة»، مستفيداً في ذلك من سيادة مفهوم خاطئ ومُضَلَل في التأويل الإعلامي قوامه أن السياسات الخارجية للدول تعكس وتمثل مصالحها أياً كانت قواها الحاكمة، وذلك من دون النظر إلى أنها تتحدد بالدرجة الأولى بخيارات هذه القوى وبخاصة عندما تكون الأخيرة على درجة عالية من الإرادوية والأسطرة والخلاصية والعنف في آنٍ واحد. وليس حجم الخسائر الاقتصادية والسياسية «غير الطبيعية» التي قبلها النظام الإيراني وحمَّلها لشعبه ليغدو القوة «الأكثر نفوذاً في المنطقة»، كما صرَّح اللهيان، سوى تأكيدٍ لذلك.

وبوصفه نظاماً استثنائياً تم بنيانه تاريخياً على شرعيتين «شعبية» ودينية، فإن ما يخافه النظام أكثر من سواه هو المتصل بشرعيته الشعبية وتراجع القبول بالشرعية الدينية كمعيار في تكوينها. وهذا ما يجعل هدف سياسته الخارجية اضافة إلى استمرار شحن موجات الأسطرة والخلاصية التوسعية حماية نفسه في الداخل من تآكل هذه الشعبية بعد تجاربه المريرة مع الحركات الطالبية في نهاية التسعينات ثم مع «الموجة الخضراء» عام 2009. فقد شكلت تظاهرات استنكار تزوير الانتخابات الرئاسية حينها، على رغم القمع الدامي، تحذيراً جدياً للنظام الذي نمَّى «الربيع العربي» لديه هجساً بمستقبله لم يبدده التأويل الإعلامي الخامنئي الذي اعتبره في البداية دليلاً على صحوة اسلامية غذَّتها الثورة الإيرانية، وهذا قبل أن تمزق الثورة السورية صدقيته وتندفع طهران إلى مشاركة الأسد مجازره وحربه الكلية عليها وعلى حواضنها الشعبية.

وعلى الضد من محاولته الاحتماء بالتضليل الاعلامي، دقت أحداث سورية ثم انتقاضة العشائر والمدن العراقية ناقوس الخطر للنظام بنهاية مرحلة بسط الهيمنة التدرجية على المنطقة عبر دعم الأنظمة الممانعة والحركات الجهادية، كما بنهاية مرحلة احتواء» السنة» وتحييد وزنهم الديموغرافي والسياسي. وهذا ما عنى فعلياً زيادة مخاطر الانكفاء الخارجي وتحوله إلى عامل تسريعٍ في إبراز هشاشة نظامٍ حبس إيران في وضعٍ اقتصادي متسم بتزامن التضخم وتراجع النمو معاً وزيادة معدلات البطالة (30 في المئة وفق تقديرات صندوق النقد الدولي)، وخصوصاً بين الشباب والنساء، نتيجة العقوبات والمشاكل البنيوية وضعف الاستثمارات، وفي وضع اجتماعي متردٍ بسبب زيادة التفاوتات وتقليص التقديمات والضمانات لمُهَمَّشي الريف وضواحي المدن. ووفق تقرير «الاتحاد الدولي لرابطات حقوق الانسان» فإن نصف الايرانيين يعيشون تحت خط الفقر.

في هذا السياق يأتي مشروع الموازنة الجديدة ليكرر تلك السابقة من حيث «إعطاء الأولوية» لإنعاش الاقتصاد الذي كان عصب برنامج روحاني الانتخابي وتخفيض الاعتماد على موارد النفط والغاز، والميل الضمني إلى تطبيق اقتراحات صندوق النقد الدولي بعد بعثتيه الأخيرتين إلى طهران، واهمها إجراء اصلاحات هيكلية مهمة في القطاع المصرفي وعلى النظام الضريبي وخصوصاً شمول مداخيل المؤسسات الدينية (وأهمها التابعة لإدارة المرشد السيد خامنئي) وشبه العامة (وأهمها التي يملكها ويديرها الحرس الثوري والجيش). وإقرار البرلمان الذي يسيطر عليه المحافظون قبل ايام لتدابير في هذا الاتجاه إنما يؤشر إلى رضوخه لمنطق «هيئة تخطيط الرأسمالية العالمية» كنتيجة لعمق الأزمة وخوف النظام من استمرارها ولمراهنته على تجاوزها برفع العقوبات وعودة الاستثمارات الاجنبية. وتبقى مقترحات رفع الدعم في ميادين الغذاء والمحروقات والمساكن الاجتماعية التي قد يكون إقرارها صحيحاً اقتصادياً، وسلبياً سياسياً على الحكومة. وبهذا المعنى يمكن وضع الحملة التي افتتحتها الأخيرة ضد الفساد ليس كتصفية حسابات بين بعض مراكز النظام وحسب بل أيضاً كوسيلة لتجديد الثقة المتناقصة به وترميم شرعيته.

لكن تآكل الأخيرة يتعدى الوضعين الاقتصادي والإجتماعي إلى القضايا المجتمعية ودور الدولة الدينية. ويسرد «اخبار ايران» بالفرنسية وقائع حساب انستغرام باسم «ابناء أثرياء طهران» فيُظهر حفلاتهم الباذخة وسياراتهم الفخمة ولباسهم بحجة ابلاغ العالم كم هي جميلة العاصمة وأهلها وخطأ مماهاتهما بسلبية صورة الشرق الأوسط. والخبر هذا يشير إلى عمق التفاوتات، لكنه يؤشر ايضاً إلى تحرر الشباب في حياتهم الشخصية وفي ما وراء الجدران من نواهٍ يطبقها الباسيج في الأماكن العامة. وكان تحقيق لوزارة التربية شمل جمهوراً مختلطاً من 141000 تلميذ ثانوي أظهر ان 75 بالمائة منهم أقاموا، أو أنهم يعتبرون، العلاقات مع شركاء متعددين طبيعية وأن 80 في المئة منهم اقاموا علاقات جنسية قبل نيل الثانوية العامة.

فعلى رغم استمرار القمع يبرهن المجتمع عمق ضيقه بالنظام ونواهيه وامتيازات أجهزته، ويشبِّه محللون ذلك ببدء عملية الخروج من الدين (اقتداء بمفهومٍ لمارسيل غوشيه)، لكنه على الأرجح بدء الخروج على الدولة الدينية وإعادة النظر في شرعيتها.

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق