إيران في مواجهة العرب من جديد

للمرة الثانية خلال أشهر معدودة تتصدّر عُمَان المشهد الخليجي، من خلال الاستقبال الحاشد الذي أعدّته للرئيس الإيراني حسن روحاني، في ظل توترات إقليمية وبينية في المجال الخليجي؛ في تأكيد منها على استمرارية نهجها التقاربي مع إيران، بما يتضادّ مع مفهوم الأمن الخليجي، بل والأمن العربي ككلّ.

إذ طالما شكّلت إيران أحد أكبر التهديدات للعالم العربي، وخصوصاً لمنطقتي الخليج العربي والمشرق العربي، وصاغ سياسيون ومفكرون وكتاب عرب، جملة التهديدات التي تشكّلها إيران في سعيها الدائم للتغلغل في الدول العربية، والهيمنة عليها، مطالبين بإعادة النظر في مفهوم الأمن القومي العربي وآلياته، وخاصّة بعد أن توسّع الهيمنة الإيرانية من العراق إلى لبنان فسورية، وهي تؤصل لنفوذ واسع في اليمن عبر الميليشيات الحوثية.

ولطالما بُنِيت السياسات الخليجية، والسعودية بالأخص، على إدراك حجم هذا التهديد، والعمل على نزع مسبباته وأدوات وُلُوجِه إلى الداخل الخليجي. فكان تحرّكها لاحتواء الاضطرابات البحرينية جزءاً من ذلك الإدراك، ومسارعة لتفاديه.

رغم كل تلك المؤشرات والدلائل والسياسات، ورغم الدور الإجرامي لإيران في غير بيئة عربية، إلّا أنّ سلطنة عُمَان تمضي بعيداً في تأكيد علاقاتها خارج النسق العربي، وبما يتضادّ مع مصالح جوارها الخليجي، ومحيطها العربي.

بل يتعارض في الوقت ذاته مع المصالح الاستراتيجية العُمَانية على المدى البعيد، والتي لا يرى صانع القرار فيها، سوى مصالح آنية وربما شخصية في تقاربه مع إيران. وخاصّة أنّ هذه العلاقات المميزة تعود لعشرات السنوات، كنتيجة مباشرة لمساهمة إيران في حماية النظام السياسي في عُمَان واستقراره في مواجهة الاضطرابات الداخلية. وكنتيجة غير مباشرة لأبعاد تاريخية بين ضفتي الخليج العربي، كان لعُمَان وإيران فيه علاقات تبادلية مميزة.

وفي حين أنّ الأمن العُمَاني لا يواجه تهديداً من أيّة جهة حالياً، لوقوع عمان في أقصى العالم العربي، وخارج إطار الصراعات الإقليمية والدولية؛ فإن البحث عن تحالف، أو علاقات تؤدي في النتيجة إلى تحالف مع إيران، تبدو غير عقلانية سياسياً. وخاصّة أنّها تجعل منها بوابة إيران لكافة دول جوارها (السعودية، الإمارات، اليمن)، وبالتالي تَحوُّلها إلى مركز انطلاق وتهديد لأمن جوارها العربي.

ولا تشكّل الزيارة الحالية لروحاني، مجاملات دبلوماسية أو إطاراً للاحتفاظ بالعلاقات، بل تبتعد إلى أكثر من ذلك بكثير، وخاصّة بعد الدور الذي ساهمت فيه عُمَان بتقريب وجهات النظر بين القوى الغربية وإيران، والتوصُّل إلى اتفاق جنيف المؤقت فيما يتعلق بملفها النووي.

للزيارة هذه أبعاد أخرى، إذ إنّها تؤسِّس لتوسُّع إيراني كبير في عُمَان، وتؤهلها لأن تكون مجال نفوذ إيراني خالص. من خلال ضخّ استثمارات إيرانية ستبلغ قبل نهاية العام الحالي 10 مليار دولار، منها مليار دولار لإنشاء أنبوب لنقل الغاز الإيراني إلى عُمَان، والذي سيتدفق منه قرابة 60 مليار دولار من صادرات الغاز الإيرانية.

كما أنّها تفتح المجال أمام إيران إلى إعادة تصميم وهيكلة المدن والموانئ العمانية، بإشراف إيراني كامل، مترافق مع تغلغل في قطاعات المال والمصارف العُمَانية. بل إنّ روحاني سيلتقي مفتي السلطنة، في مسعى إلى إحداث تغلغل ثقافي هُويّاتي على المستوى الديني-المذهبي، وهو ما سيؤدي في النتيجة إلى عملية إعادة إنتاج الهوية العُمَانية إيرانياً، من خلال التبشير المذهبي أولاً، ومن ثم فرض الوصاية المذهبية لاحقاً، كما حصل في أكثر من بيئة عربية.

لكن الأبرز هو إفساح المجال برياً أمام إيران، لتتنقل كيفما تشاء إلى الداخل الخليجي العربي، من خلال سعي الطرفين إلى إنشاء جسر يعبر مضيق هرمز، مع أن جزءاً من مضيق هرمز يقع ضمن المياه الدولية التي هي ملك لجميع الدول، ولا يجوز هيمنة دولة منفردة عليها. وهو ما يقود البلدين إلى مواجهة أمام القانون والمجتمع الدوليين. فبعد تصريحات إيرانية حول إغلاق مضيق هرمز، طالما شكلت مبرراً للتحشيد العسكري في منطقة الخليج العربي، تتنازل اليوم عُمَان عن هذا المضيق سلمياً إلى إيران لتتحكم فيه أمنياً وعسكرياً على المدى المتوسط والبعيد، تحت ذرائع التجارة البينية وتعزيز العلاقات.

كل ما ستكسبه عُمَان من تلك الاتفاقيات، كان بالإمكان اكتسابه وبشروط أفضل لو كان عبر المناقصات الدولية المفتوحة، أو من خلال التعاون مع الجوار الخليجي، القادر على تلبية الاحتياجات العمانية، النفطية والتطويرية. غير أنّ ما سيكسبه صانع القرار على المستوى الشخصي يبدو هو المتحكم بنمط تلك العلاقات، علماً أنّ الأمن العماني مكفول في الأساس خليجياً عبر إطار مجلس التعاون الخليجي وقوات درع الجزيرة، ولنا في تجربة البحرين أكبر دليل على ذلك.

ورغم الطابع التعاوني لتلك الاتفاقيات، إلا أنّها تذكرنا بالاتفاقيات التي كانت تفرضها الدول الغربية على مستعمراتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من خلال التحكّم بكافة مفاصل الاقتصاد والأمن والإدارة والموانئ، مقابل استمرارية السلطات المحلية. فيما تتدفق السلع الأجنبية إلى تلك المستعمرات التي لا تملك ما تصدره بدورها.

إنّ نتائج هذه الزيارة على المحيط الخليجي والعربي لن تظهر خلال المدى القصير، بل إنّ أبعادها التهديدية ستكون واضحة في المدى المتوسط، كما حصل بعد تغلغل إيران في العراق وسورية ولبنان، وبعد استحكام ميليشياتها في اليمن. خاصة مع تحول عمان تدريجياً إلى قاعدة إيرانية، وتحديداً من خلال الموانئ التي ستقع بيد الحرس الثوري الإيراني.

بصيغة أخرى، يجد المشروع الإيراني مجالاً عربياً جديداً ليحوله إلى قاعدة انطلاق عسكري باتجاه دول الخليج العربي، وسيكون إيصال السلاح إلى الميليشيات الحوثية عبر الصحراء العُمَانية أكثر يسراً من منه في شحنات السلاح البحرية التي ضبط منها الكثير.

وحيث تعترض دول الخليج، وبالأخص السعودية والكويت والإمارات على سلوك دولة قطر، الذي ترى فيها تهديداً للأمن الخليجي، فإنّه من باب أولى، أن تتصدى كذلك للمخطط الإيراني الموجّه ضدّها عبر سلطنة عُمَان، وأن تسعى لإعادة استيعابها ضمن المنظومة الخليجية، عبر تنويع آليات التعاطي وتحديث مفهوم الأمن المشرك فيما بينها.

كما أنّ الاضطرابات والاحتجاجات المجتمعية ليست ببعيدة عهد عن سلطنة عُمَان، وقد أثبتت التجارب العربية الأخرى، أنّه لا يمكن ضبط الحراك المجتمعي قمعياً بواسطة قوة خارجية، وأنّ مصالح المجتمع تعلو دائماً على مصالح النخبة الحاكمة. وفيما لم تستطع إيران ضبط الحراك الثوري السوري بكافة الوسائل للمحافظة على سلطة الأسد، فإنّها بالتالي لا يمكنها تقديم الكثير لأيّة سلطة عربية أخرى، وإن كانت قد نجحت نسبياً في فترات تاريخية سابقة في ذلك، فإنها المعادلات المجتمعية-السلطوية قد تباينت كثيراً.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق