إيران تحشد لــ” كربلاء أخرى”: تداعيات ما بعد الجيبوبوليتك الطائفي داخل سايكس بيكو

منذ النفير العام الذي أعلنته المراجع الدينية العراقية، مروراً بالتدخل المباشر للحرس الثوري، وانتهاءً بدعوات حكومة المالكي لبناء جدار الفصل الطائفي حول بغداد، وإيران تحشد ما تبقى من سياساتها الطائفية، الأمر الذي يكشف سير الأحداث- ولأول مرة – خارج طريقة ” الكونترول”، أو التمكين الطائفي الإيراني في العراق.

والسؤال الذي يطرح: ما هو موقع إيران، وهي تتهدد اليوم في صلب عقيدتها الاستراتيجية، لاسيما في بلد مثل العراق، المدخل الوحيد لها والورقة الأقوى، والحلم التاريخي لتمدد سياساتها في المنطقة؟.

والأهم من ذلك، هل ستقبل إيران بتسوية للحدث العراقي، تقوم على حكومة وحدة وطنية، تقلص من موقعها في العراق، أم أن التقسيم هو العقيدة الجديدة، التي ستعمل من أجلها، بما يحفظ لها تداعيات أشمل، وحصة أكبر لها من الكعكة العراقية؟، وماهي تداعيات الموقف الأمريكي والخليجي حيال ذلك.

 

أحداث العراق: ليست “دوغما”:

 تدرك إيران قبل غيرها، أن ما جرى ويجري في العراق، هو خروج قسري واضح عما أفرزته سياسات التمكين الإيراني في العراق، التي أوصلته إلى حالة من الانفجار، أخرج السياسات الدولية والإقليمية عن مسارها التقليدي، سواء لجهة العجز والارتباك الأمريكي، الذي أقرتْ به الولايات المتحدة نفسها في العراق، بسبب سياسات الفوضى الطائفية، التي حالت دون أية رؤية أمريكية واضحة، في بلد اختصر في معاناته، معاناة البشرية جمعاء، خلال السنوات التي تلت الاحتلال الأمريكي للعراق، هذا من جهة.

 من جهة أخرى، فقد حالت ممارسات الثوار، وتصريحاتهم وخطابات ممثليهم في وسائل الإعلام، دون تمرير اللعبة الإقليمية، التي نجحت في سورية، عندما نسبت كل ما يجري “دوغماتياً”، للدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش).

 منذ الأيام الأولى للحدث العراقي، استفادت القوى الثورية في العراق، من تداعيات الصراع الدموي في سورية، فانبرت في معارضة كل ما من شأنه إفساح المجال لتدخلات طائفية أو التفريط بوحدة العراق جغرافياً، وهي الإشارات التي وضعت الخطوط الأولى لخارطة السياسية خارج السيطرة الإيرانية، وهو ما حدث بالفعل حين انتقلت إيران من التدخل كوكيل إلى التدخل كأصيل في مجريات الحدث العراقي، الأمر الذي ينذر ببداية من التحولات الإقليمية والدولية، التي ستطال بادئ ذي بدء، موقع التمكين الإيراني في العراق.

 

إيران، من الطائفية إلى التقسيم:

 منذ وصول الخميني، كمنعطف نحو إحياء قوة الإسلام السياسي الشيعي في الدول العربية، والخليج العربي، تحولت العديد من المكونات الوطنية – الشيعية إلى قوى ثورية تطمح إلى تقليد النموذج الإيراني في إطار إقامة نظام سياسي، ومن هنا برزت الإشكالية الأهم التي شكلت فاصلاً تاريخياً بين موقع الشيعة كمكون وطني، وبين موقعهم كحالة مذهبية مرتبطة بأجندات سياسية، مدعومة بشكل واضح وعلني من الولي الفقيه نفسه كمشروعية إيرانية دستورية.

 بناء عليه، تأتي التصريحات الإيرانية التي جاءت مؤخراً على لسان محسن رضائي أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام حول “دعم الحكومة العراقية بالسلاح” اعترافاً متجدداً لسيرورة تاريخية من السياسات التقليدية التي تقوم على تجييش العامل الطائفي.

 ولا ترى إيران أي حرج أو سبة فيما أقدمت عليه في العراق من سياسات طائفية، بقدر ما تبرر ذلك استناداً لحقيقة راسخة في دستورها الذي شرّعن لها سياسة التدخل الطائفي في شؤون دول المنطقة، وجعل من مذهب الولي الفقيه ديناً للناس كافة، وهو ما نصت عليه المادة 107 من الدستور الإيراني، التي اعتبرت الولي الفقيه” المرجع المعظم و القائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية… الذي اعترفت الأكثرية الساحقة للناس بمرجعيته وقيادته”.

 

إيران من الطائفية إلى التقسيم:

منذ بداية أحداث الموصل، حاولت إيران جاهدة أن تصدر للإعلام  فكرة “داعش” على الطريقة السورية، إلا أن ذلك لم يحصل أيضاً، فداعش – وإن وجدت في العراق-  فهي ليست كـ” داعش” في سورية، فالبنية المجتمعية في العراق وبالرغم من تشابهها مع التركيبة المجتمعية في المناطق السورية التي تسيطر عليها “داعش”، إلا أن التركيبة المجتمعية العراقية تفرض اختلافاً وتمايزاً في المشهد العراقي يميل لصالح سيطرة ثوار العشائر، التي شكلت تاريخياً قوة ببعد سياسي واجتماعي قبل أن تتحول إلى قوة عسكرية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وهي الخاصية التي لا تتمتع بها العشائر السورية التي ظلت تحمل طابعاً منضوياً داخل منظومة الحياة المدنية للمجتمع السوري، الذي لم يألف هيمنة عشائرية تشكل ثقلاً سياسياً داخل الدولة السورية، بالإضافة إلى خاصية عدم انتشار السلاح بين مكونات الشعب السوري، بما فيها العشائر السورية، الأمر الذي حال دون قدرتها في أن تشكل مكوناً قادراً على فرض حالة سياسية، سواء خلال الأحداث في سورية أو قبلها، وهو ما أعطى لـ” داعش”، خاصية السيطرة في الحالة السورية، على خلاف الحالة العراقية.

أمام هذه المعادلة، تدرك إيران أنها أمام خيار صعب في عراق اليوم، مؤداه إلى احتمالية الخروج من العراق الطائف، لذلك،  يصبح  التقسيم هو المحاولة الجديدة للعقيدة الإيرانية، من خلال تصعيد الحشد والتجييش الطائفي الذي تجلى بشكل واضح، على لسان محسن رضائي أمين عام مجلس تشخيص النظام في إيران، عندما صرح مؤخراً، بقوله: “هناك عاشوراء جديدة وكربلاء أخرى”، في إشارة منه للمعركة القادمة في العراق، التي تعتبرها حكومته فصلاً تاريخياً جديداً بين السنة والشيعة، منبهاً الإيرانيين قبل العراقيين، بقوله:” كونوا مستعدين، ألا ترون رؤوس مسلم بن عقيل، وأصحابه على أسنة الرماح في سورية والعراق ؟”، كما دعا الشعب الإيراني، للاستعداد لساعة الصفر، قائلاً: ” إذا ما أصدر قائدنا الأمر بالتحرك، فيجب أن تكونوا على استعداد”.

 

الموقف الأمريكي، وتداعيات تكرار السيناريو الطائفي:

 أدى الفشل الأمريكي في العراق إلى اتساع رقعة التمكين للسياسات الطائفية الإيرانية، ثم جاء التفاهم الأمريكي – الإيراني الأخير حول العديد من القضايا الشائكة في المنطقة، الأمر الذي ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لسياسات المالكي الطائفية في العراق.

 وفي إطار سياسة الانكفاء الأمريكي مما يحدث في المنطقة،  وُضعت الولايات المتحدة في العراق في المأزق الإيراني ذاته، الأمر الذي دفعها إلى انتهاج سياسة معالجة الحالتين السورية والعراقية في آن معاً، بحيث تصبح جميع التدخلات الأمريكية أو عمليات الدعم العسكري أو الاستشاري أو غير ذلك، مجرد عملية تكتيكية تجنح لسياسات ” البربوغندا” الدعائية الأمريكية، التي تريد من الأطراف المحلية المتضررة أن تكون معنية في التعاطي مع الأحداث الدائرة، بحيث يقتصر الدور الأمريكي على  ضبط مجريات الأحداث بما لا يتعارض مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وبما يضمن مصالحها الحيوية.

 لذلك، أرسل أوباما في حديث له في 19 حزيران الماضي، رسائله التي عبّر من خلالها عن السياسات الإيرانية وحكومة المالكي، معتبراً ” أن القادرون على الحكم في المرحلة القادمة، هم وحدهم من يمتلكون أجندة تتمكن فعلاً من لم شمل الشعب العراقي”.

 وبناء عليه، يدرك أوباما أن تقسيم العراق على الطريقة التقليدية، لن يكون في مصلحة الأمن القومي الأمريكي، وأن اندلاع الحرب الأهلية في العراق، ستطال تداعياتها هذه المرة دول جديدة، بما فيها دول الخليج العربي، ما يشكل تهديداً لاستقرار المنطقة ككل، وانتشار لبؤر الإرهاب والفوضى، وهو ما يهدد تحقق المصالح الأمريكية قبل غيرها في العراق.

  لقد كان الانكفاء والتراخي الأمريكيين في سورية في مقدمة الأسباب التي أوجدت ملاذات آمنة لـ ” داعش” بدلاً من الملاذات الآمنة للسوريين، لذلك لن تتعامل الولايات مع الحدث العراقي، بالطريقة التي تعاملت بها في سورية، وهو ما يفسر الدور الاستشاري والاستخباري غير المسبوق على الأرض العراقية، حيث اعترفت الولايات المتحدة بدورها في التقصي وجمع المعلومات على الأرض التي ستمكنها من معرفة ما يحدث تفصيلاً، ومعرفة المزاج العام لثوار العراق، قبل أن تقرر أي موقف ستتخذه تجاه ذلك.

 أدى اعتماد الولايات المتحدة على القوى الاقليمية في منطقة الشرق الأوسط إلى ضعف وتراجع الدور الأمريكي، بسبب السياسات الاقليمية التي اشتغلت على تثوير العامل الطائفي بما يصب في مصلحتها دون غيرها، فبرز التنافس بين محورين إسلاميين، أحدهما تركيا كداعمة لحركات الاسلام السياسي السني، وثانيهما إيران كداعمة لحركات الاسلام السياسي الشيعي، في قبول أمريكي واضح، أرادت من خلاله أن تجرب حركات الاسلام السياسي في السلطة، إلا أنها فشلت في ذلك، بسبب تصاعد ما فرّخته هذه الحركات، من حركات وجماعات إسلامية متطرفة.

 

تقسيم جيو بوليتكي – طائفي:

بلا شك، تشكل الحالة اللبنانية نموذجاً تاريخياً لتجربة التقسيم الجيوبوليتكي الطائفي، الذي انتهى في نهاية المطاف لصالح إيران دون غيرها، فلبنان من الناحية الجغرافية مازال في حدوده المرسومة حسب سايكس بيكو، إلا أنه من الناحية العملية مقسم طائفياً، استتبع معه تقسيماً جغرافياً وسيكولوجياً داخل الخارطة السياسية والاجتماعية اللبنانية، ولا غرابة إذا عرفنا أن أجيال من أبناء “الحازمية “، أو “الأشرفية” المسيحيتين، لم يدخلوا الضاحية الجنوبية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بسبب الحرب الأهلية، وما تركته من حواجز نفسية وسياسة داخل بيروت ذاتها، قبل أن تنتقل العدوى في مراحل متأخرة بين الشيعة والسنة في لبنان. 

 لذلك، يصبح العراق اليوم أمام خطر “اللبننة” المقيتة، التي تجاوزت أسوء أشكال الدول الفاشلة، وأسوء أنواع المجتمعات المتفككة وغير المتجانسة سياسياً، وفكرياً، واجتماعياً، داخل الجغرافية الواحدة. 

 وعليه، يقف العراق اليوم أمام نوع جديد من التقسيم وقوده سياسات الصراع الطائفي بين السنة والشيعة، وبما لا يخرجه من حدود خريطة سايكس بيكو، لاسيما وأن هناك الكثير من المكونات والأحزاب السياسية الشيعية والسنية، مازالت تصر على رفض السياسات الطائفية، ما ينذر بـ “لبننة”، أقسى من التقسيم ذاته، وهي الفرضية الاحتياط التي تلعب على وترها إيران. 

 بناء على ذلك، انبرتْ الولايات المتحددة بإرسال رسائلها للدول المحورية في الخليج، قبل أن تشرع بشكل جدي في مبادرتها للتنسيق مع الدول الخليجية المعنية، تخوفاً من جيوبوليتيك طائفي عراقي على الطريقة اللبنانية يضعف الموقف الأمريكي والخليجي على حد سواء، ليصب مرة أخرى في إطار المصلحة الإيرانية، ولعل الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأمريكي – قبل أمس- أمضى دليل على ذلك.

 نهايةً، إن الوضع في العراق بالنسبة لإيران، يتمايز ويختلف جذرياً عن الوضع في سورية، وبقية مناطق نفوذها في المنطقة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بدولة خليجية مركزية على الصعيدين الاقتصادي والجيوستراتيجي، كما تشكل البوابة الوحيدة على البر العربي، وما على الموقف الخليجي إلا أن يعي ذلك.

 

د. محمد خالد الشاكر

نقلاً مركز المزماة للدراسات والبحوث

الوسم : إيران

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق