إيران بعد أوباما

أشهر قليلة تفصلنا عن رحيل أوباما، وتولي رئيس جديد وربما الحزب الجمهوري رئاسة الولايات المتحدة، على ما شاب السنوات الثماني السابقة، من إشكاليات تتعلق بدور الولايات المتحدة في العالم بأسره، وما أحدثه من اضطرابات في علاقاتها بحلفائها وبخصومها على حد سواء.

إنّ الدفع الأساسي بأوباما إلى سدّة الحكم عام 2009، كان ضمن إعادة ترتيب الوضع الأمريكي الخارجي والداخلي بعد حربين استنزفتا الولايات المتحدة طيلة سنوات بوش الابن، في أفغانستان والعراق، بل كان المطلوب من أوباما، إعادة صياغة النظرة العالمية للولايات المتحدة، وتحسين صورتها، وتعزيز علاقاتها بحلفائها والتقارب من خصومها.

صحيح أنّ أوباما نجح في جزء من تلك المهام الخارجية، عدا عن نجاحات اقتصادية وتشريعية داخلية لا يمكن إنكارها، إلا أنّه أحدث في المقابل كمّاً من الإشكاليات المستحدَثة على المستوى العالمي، بدءاً من طريقة انسحابه من العراق وأفغانستان، والتي أفسحت المجال لنشوب صراعات محلية وإثنية أكثر عنفاً، أو سمحت لقوى وميليشيات محلية بالسيطرة على تلك الدول، أو حتى لقوى إقليمية كما فعلت إيران باحتلال العراق.

وتطال إشكاليات الدور الأمريكي فترة أوباما، انطلاقاً من مسؤولية الولايات المتحدة عالمياً بوصفها القطب الأوحد، تردّده في اتخاذ مواقف حاسمة تجاه دول الثورات العربية، وتأخره عن التدخل الفاعل في عدد منها، بدءاً من تردّده في اتخاذ مواقف مباشرة من الحدثين التونسي والمصري، ومشاركته المحدودة في إسقاط نظام القذافي، وترك المجال العسكري الأكبر للحلفاء الأوروبيين، إلى رفضه اتخاذ أي إجراء تجاه سورية واليمن. ففي حين تغاضى تماماً عن المأساة السورية، بل وضع خطوطاً حمراً عدة، طالما تمّ خرقها من قبل قوات الأسد وحلفائه، وصولاً إلى استخدام السلاح الكيماوي في غوطتي دمشق صيف عام 2013، والتي لم تشهد أي إجراء عقابي أمريكي، بل على العكس تماماً، ظهر تنسيق بين عدة أطراف دولية لنزع السلاح الكيماوي من نظام الأسد، مع إفساح المجال لاستمرارية النظام وجرائمه.

كذا الحال في اليمن، حين تغاضى أوباما عن الانقلاب الحوثي، وما رافقه من جرائم وإسقاط تام للتوافق السياسي الحاصل عقب عام 2012، بل كانت تصريحاته بشكل أو بآخر، تصب في صالح الحوثيين، حين لم يرَ فيهم خطراً على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وهم أصحاب شعار “الموت لأمريكا … الموت لإسرائيل”.

ولعل الأحدث الأبرز فترة رئاسة أوباما، هو التقارب مع إيران وتوقيع الاتفاق النووي معها، وفتح المجال لبناء علاقات طبيعية بين الطرفين، على حساب مصالح الحلفاء الآخرين، وخصوصاً دول الخليج العربي. بعد عقود من الإشغال العالمي والإقليمي بالملف الإيراني، والتهديد المستمر بشن حرب على إيران، جعلت دول الخليج العربي في استنفار طيلة العقد الماضي من جهة، ودفعت بإيران إلى توسيع نطاق عملياتها العسكرية والميليشياوية على الشكل الاحتلالي في عدة دول عربية، تحضيراً لأية مواجهة مع الولايات المتحدة أو دول المنطقة من جهة أخرى.

يرحل أوباما، وهو يحاول التوفيق بين متضادين في العلاقات الإقليمية شرق الأوسطية، ففي حين يسعى للحفاظ على تحالف الولايات المتحدة مع دول الخليج العربي، فإنّه يُفسِح المجال لتمدّد إيراني، من خلال صفقة الاتفاق النووي، والتي وإن كانت مقيدة بعدة إجراءات قد تعيد العقوبات الأمريكية على إيران، إلا أنّها كذلك تحوي الكثير من البنود التي تتيح لإيران بدورها تعزيز قدراتها التسليحية، وتربط عمليات المراقبة لمسار الملف النووي، بموافقات مسبقة من قبل طهران.

وتبدو تصريحات المرشحين للرئاسة الأمريكية متباينة بخصوص الشأن الإيراني، وتحديداً بين أكثر المرشحين حظوظاً حتى تاريخه، كلينتون وترامب، ما يضع مستقبل العلاقات معها أمام احتمالين، إمّا العودة إلى ما قبل الاتفاق النووي، وهو أمر من الصعب على الولايات المتحدة التخلي عن مكاسبه حالياً، وخصوصاً أنها بتقاربها مع إيران، تخلصت من جزء من مسؤولياتها الدولية في المنطقة لصالح إيران. ومن خلاله أيضاً، وبشكل غير معلن أو غير متفق عليه، تمّ إفساح المجال أمام إيران لأداء أدوار إقليمية عوضاً عن الولايات المتحدة، وخصوصاً في العراق الذي كلّف الولايات المتحدة جزءاً مهماً من موازناتها السنوية قبل تسليمه لإيران، ما يعيد إلى الذاكرة الأدوار التي كان يقوم بها نظام الشاه السابق.

ما كانت الولايات المتحدة لتتخلّى عن العراق، والسماح بوضعه تحت الوصاية الإيرانية، عقب حرب سنوات بوش، لو لم تكن إيران بدورها ضامنة وحامية للمصالح الأمريكية فيه، بل وأكثر من ذلك، المصالح الإسرائيلية أيضاً. بغضّ النظر عن تنظيم داعش، والقاعدة عموماً، وطبيعة علاقاتهما وارتباطاتهما في المنطقة بأسرها، إذ تحيل نتائج عمليات هذه التنظيمات إلى تعزيز المصالح الإيرانية والأمريكية والإسرائيلية في الشرق الأوسط.

وبخروج روسيا من سورية، وعدم قدرتها على استمرار العمليات العسكرية، بعد أن تركت الولايات المتحدة المجال أمامها، لتبلغ أعلى حدود نفوذ منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، تكون الولايات المتحدة متأكدة من عدم قدرة روسيا على المنافسة على القطبية الدولية من جهة، وعدم امتلاكها القدرة أيضاً على القيام بعمليات عسكرية طويلة الأمد بعيداً عن حدودها، كما تفعل الولايات المتحدة، وبذا تركن إلى الهوة التي تفصل بين الطرفين على مستوى القوة في المستقبل المنظور. كما أنّ هذا الانسحاب من الشرق الأوسط، يعزز الأدوار الإقليمية، وهنا نتحدث عن طرفين متواجهين في المنطقة، دول الخليج العربي ومن خلفها تكتل عربي وإسلامي واسع، وإيران وميليشياتها من جهة ثانية.

وعليه يبدو أنّ الخيار الآخر المطروح أمام الرئاسة الأمريكية عقب رحيل أوباما، هو أقرب إلى إيجاد صيغة تحفظ للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين مصالحهم في المنطقة، مع الحفاظ على تحالفاتهم التقليدية فيها، بمعنى وضع قيود على تعزيز الانفتاح على إيران، لضمان استمرارية زخم التحالف مع الكتلة العربية-الإسلامية من جهة، ومنع إشعال حرب إقليمية تزداد مؤشراتها كلّما زاد الانفتاح الأمريكي على إيران، وكلّما زاد التوسع الاستعماري الإيراني في المنطقة العربية.

في مقابل ذلك، تبدو تكلفة خسارة الكتلة العربية-الإسلامية، فادحة على المصالح الأمريكية، فللتوسع الإيراني الاستعماري حدود لا يمكن له أن يتجاوزها، عدا عن بلوغه في الأساس حدود التوسع الاستراتيجي الزائد، والذي بات عبئاً على الاقتصاد الإيراني، وعلى قدرات التعبئة العسكرية والميليشياوية الإيرانية، التي باتت في أشد حالات استنزافها في العراق وسورية واليمن. وفي حين تتجه مؤشرات القوة الإيرانية نزولاً عقب هذا الاستنزاف المالي والعسكري، فإنّ المؤشر الخليجي يتجه صعوداً عقب البدء ببناء التحالفات وتعزيز الاستقلالية الإقليمية، حيث يؤكد مسار هذه التحالفات، أنّها تجاوزت مرحلة التحالفات المؤقتة والمرحلية والظرفية، وأنّها في طور التوسّع الاستراتيجي العملياتي المدروس، وذلك دون أن نخوض في شرعية كل حراك وحجم حواضنه الإقليمية.

كثيرة هي الملفات العالقة في الأشهر القليلة القادمة، بانتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وبانتظار توجهات واستراتيجية الرئيس الأمريكي الجديد، ويبقى على الأطراف العربية والخليجية تحديداً، عدم القبول بأية تنازلات بخصوص أمنها الإقليمي في علاقاتها التحالفية مع القوى الغربية، والحفاظ على زخم حراكها التحالفي الإقليمي دون انتظار الغطاء الدولي لحمايتها.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق