إعادة قراءة في مفهوم الدولة العربية: وظيفية المجتمع

تشكل المفهوم الحديث للدولة، عقب انتهاء حقبة من الصراعات الأوروبية – الأوربية، ووضع صلح وستفاليا كنهاية لتلك المرحلة، لتظهر الهوية القومية عوضاً عن الدينية كمحدد لشكل الدولة الحديث، وارتباط هوية الدولة أدى إلى ارتباط الدولة بكيان جغرافي معلوم، وطبيعة سكان ينتمون لتلك القومية، تحت سلطة تسعى للحفاظ على المكاسب القومية. أي إن الأطر التي شكلت الدولة الحديثة كانت:

  • الإطار الجغرافي.
  • الإطار السكاني.
  • الإطار السلطوي، بمعنى سلطة تدير أمور الدولة.
  • فيما أضاف آخرون، لاحقاً – إطار السيادة، فيما يمكن اعتباره جزءاً من الإطار السلطوي، فوفقاً لشكل العلاقات الدولية القائمة، فلا سلطة تعلو على سلطة الدولة، أي إنها صاحب الحق في التسيد على الدولة وإدارة شؤونها، وإن كان يقصد بالسيادة، عدم الخضوع لاحتلال خارجي، فإن وجود سلطة في ظل احتلال ينفي عنها مشروعيتها وقانونيتها، فهي سلطة تسيير أعمال بما يتفق مع أهداف القوى الخارجية.

ويقصد من هذه المقدمة، أن غياب أحد العناصر السابقة عن المشهد الدولتاني – من الدولة – ينفي وجود الدولة ككيان قانوني، ومن ذلك فإن تجمع العناصر الرئيسة السابقة، يؤهل أصحابها لتشكيل الدولة، وهو ما شهده جنوب السودان كأحدث مثال، وما تطالب به بعض الجهات الكردية السياسية في شمال العراق.

وبالاعتماد على ذات المكونات السابقة، فإن “دولة إسرائيل”، هي كيان لم يبلغ المستوى القانوني – الفلسفي للدولة، وإن كان المستوى السياسي – المصلحي قد جعل من هذا الكيان دولة خلال ساعات قليلة . فالكيان الإسرائيلي لا حدود واضحة تؤطر دولته، ولا هوية قائمة بحد ذاتها – عدا الهوية الدينية – تجمع بين أجناس متعددة تستورد كما السلع لخدمة غرض إنشاء الدولة، حتى بعد مرور 65 عاما على إعلان دولنته. أما إن كانت أحزاب سياسية ودينية إسرائيلية ترى أن حدود دولتهم تشمل كامل التراب الفلسطيني، فإن ذلك يضرب أسس الإطار السلطوي، عبر توزيع السلطة في معظمها على قيادة إسرائيلية، وقليل منها على قيادة فلسطينية في حدود مشروع دويلة فلسطينية.

وإن كان المفهوم التقليدي للدولة (أرض – شعب – سلطة)، قد أنشأ دولاً وفتت أخرى، إلا أن إعادة قراءة وظيفية – سلوكية لتلك المكونات، يدفع للتشكيك بفلسفية وجود قسم من الدول العربية وسواها.

فتغييب وظيفة عنصر من العناصر الثلاثة السابقة، لصالح عنصر آخر، هو بمثابة إلغاء مؤقت للعنصر ذاته، ونقصد هنا بالتحديد تغييب السلوك الوظيفي المنوط بالمجتمع داخل الدولة، عبر تفكيكه وإعادة تشكيله بلون واحد يخدم استمرارية السلطة فحسب، فتلغى وظيفته السياسية في إنتاج السلطة، ومراقبتها، ومحاسبتها، واستبدالها. كما تلغى وظيفته الاقتصادية سواء في ضبط آليات السوق عبر معادلة العرض والطلب – على المستوى الأدنى – أو في رسم توجه اقتصادي كلي – على المستوى الأعلى – وما بينهما. بل وتلغى وظائفه الاجتماعية التقليدية والأساسية، في إنتاج القيم المجتمعية، والتي تصبح رهناً بالحالة السلطوية، أي بما ترتئيه السلطة من ضرورات، عبر قنوات تعبوية إيديولوجية.

وبإلغاء الحالة الوظيفية للمجتمع، وتحويله إلى رعية، بالمفهوم الديني والسياسي، يغدو المجتمع عبئاً على السلطة، ومن ثم على الدولة، ويصبح فائضاً عما تستلزمه الحالة السلطوية، لتبدأ عملية الإلغاء للأقل وظيفية. حتى تبلغ السلطة حداً يكون بمقدورها فيه الاستغناء عن هذا المجتمع، بل واستبداله لو استطاعت، فقد شهدت بعض من دولنا العربية عملية استبدال سياسي، عبر آليات التجنيس الانتقائي، بحيث يشكل الوافدون الجدد حالة موالاة لازمة لاستمرار “الشرعية”، وحالة نفسية بالحكم. كما شهدت دول أخرى عملية استبدال اقتصادي، عبر آليات العمالة الوافدة، والتي إن كانت تستنزف المال العام لغير صالح أصحابه، إلى خارج حدود الدولة، إلا أنها تبقى أقل كلفة من العامل الوطني، وأخرى شهدت عملية استبدال عسكري، باستئجار جنود وتدريبهم إما للقتال على حدود الدولة، وغالباً داخل تلك الحدود. وتسعى أخرى لاستبدال ثقافي وقيمي ..، لكن الأسوأ في عمليات الاستبدال تلك التي تتخذ من شكل التصفية والقتل لكافة الفاعلين فكرياً ومجتمعياً وعسكرة المجتمع لتحويله إلى وحدات متنافرة متقاتلة.

فالميزة النسبية في عملية الاستبدال تلك -الخارج بالداخل -، هو إمكانية استبدال المستبدل به، متى خرجت هذه المجموعات عن الوظائف المحددة لها ضمن إطار الاستبدال، وحيث أن الوافدين الجدد يسعون ضمن معادلة الاستبدال إلى الانتفاع المادي – الجهوي لا أكثر فإن مجرد التلويح لهم بهذه الورقة تضمن ولاءهم المفقود أصلاً.

إن إمكانية الاستبدال هذه، تعني إمكانية الإلغاء، وإمكانية الإلغاء تقود إلى إلغاء الدولة ذاتها، وتحولها في صيغتها السياسية إلى سلطة تملك أرضاً يقيم عليه شعب فائض عن الحاجة، أي أنها تماثل حال شركة أو مؤسسة – بل وفي بعضها أشبه بنماذج التملك القروسطية الإقطاعية حتى عادت إلى أشكال متطورة من الإقطاع متمثلاً بالإقطاع المؤسساتي – إلا أن صاحب المؤسسة بإمكانه إغلاق مشروعه وافتتاح آخر، أو التنقل حيث يشاء بماله . أما السلطة هنا فهي مقيدة جغرافياً، فلا تستطيع استبدال الإطار الجغرافي – وإن كانت دول حاولت توسيعه – وحيث أن قسماً من المجتمع – الشعب، لم يجد فرصة لأن يخرج عن تلك الأطر – وغالباً بالهجرة – فإنه يغدو رهينة بيد الاحتكار السلطوي للقوة، أو أن يبلغ الفائض الداخلي من المجتمع حداً يغدو فيه قادراً على استعادة الدولة، وإعادة إنتاجها في شكل حضاري.

إن عملية الاستعادة الوظيفية للعنصر المجتمعي عربياً، قد عبر عنها من خلال ثورات شعبية، أطاحت بأنظمة الاستبداد، وما زالت، في عملية إعادة الضبط والتحكم بمصادر قوة الدولة، لصالح المجتمع ككل، وليس لصالح فئة حاكمة منفردة، من خلال مأسسة لعناصر القوة (الجيش والأمن، الدستور والقانون، السلطات الثلاث).

لتختلف بعده وظيفة الدولة العربية عما كانت عليه، لناحية تحولها لدولة لمواطنيها، تعكس مصالح المجتمع محلياً وخارجيا، حيث يغدو الفرد محور العمل السياسي. وبدلاً عن استبدال المجتمع بفئات بعينها، يتم استبدال السلطة، بسلطة تكرس المفهوم الديمقراطي، تعمل عبر آليات المراقبة والمحاسبة بل والإطاحة بها.

فدول الثورات العربية، هي دول المواطنة الجديدة، التي تتمأسس اليوم على القواعد الديمقراطية، فانعكست سياساتها مباشرة على البعد الخارجي، كاستجابة للبعد المجتمعي، وخاصة على ملف القضية الفلسطينية، الذي شهد انفتاحاً مصرياً وتونسياً حكومياً.

مما يدفع إلى الاعتقاد أن العنصر المجتمعي، وبعد إتمام علمية التحول الديمقراطي، سيدفع إلى مزيد من حالة التكامل فيما بين دول الثورات العربية، دعما لتوجه خارجي/داخلي متقارب، في تنسيق سياسي يمكن أن يتحول إلى ائتلاف ديمقراطي عربي، في مواجهة مشروع توسيع مجلس التعاون الخليجي عبر تحويله إلى مجلس الملكيات العربية، بعد أن يتم ضم الأردن والمغرب إليه.

بل إن الحاجة لإنشاء ائتلاف تنسيقي بين دول الثورات العربية، تكمن في حجم التهديد الذي تواجهه الدمقرطة الحديثة عربياً، وتماثل التحديات الداخلية (بطالة، فقر، فساد، جهل، ..)، ليجعل من الجهد المرغوب في إنجازه جهدا تكامليا، أخف عبئاً على كل دولة منفردة.

إن الثورة العربية في أقطارها الخمس، حتى الآن، أحوج ما تكون إلى تحصين متكامل، في طل تنافس إقليمي ودولي، على المنطقة بأسرها، وتحالف ديمقراطي كهذا، هو أكثر الإمكانيات المتاحة قرباً من المجتمع العربي، مقابل إمكانيات غدت بعيدة عنه، كالتحالف مع قوى خارجية (دولية أو إقليمية) في مواجهة قوى أخرى، أو كالانعزال السياسي الداخلي عن المحيط العربي.

إذ تتماثل الصورة العربية اليوم، مع تلك التي أفرزتها نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث وضِعت الدول العربية، أمام خيارات:

  • التحالف غرباً مع الولايات المتحدة.
  • التحالف شرقاً مع الاتحاد السوفييتي.
  • التحالف العربي البيني.
  • الانعزال الذاتي.

وقد أثبتت التجربة التي نحت تجاه الخيارين الأولين، إلى انعكاسات سلبية على التحالفات الخارجية، التي تحولت إلى حالة ارتهان دائم، للبيئة الدولية، بل وانعكاس بيني لها. حيث عكست الإرادة العربية سلوكها الخارجي، وفقاً لوظيفية السلطة الحاكمة فحسب، وإن كانت تقاربت في بعض الأبعاد مع مجتمع تم أدلجته لذلك.

وباعتبار أن الثورات العربية القائمة حالياً، مجتمعية خالصة، فلا بد من إعادة تفكيك الخطاب السياسي، والخارجي منه خصوصاً، لينعكس عبر إعادة إنتاج للدولة العربية، وفقاً لوظيفية المجتمع الجديدة. عبر تحالفات بينية عربية أولاً، وضبط العلاقات مع الخارج لاحقاً.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن الشبكة العربية العالمية

الوسم : الدولة

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق