أمن الخليج: مقاربات أكثر شمولية (1)

تبدل الخريطة الجيوبوليتكية

ترتفع أهمية النقاش حول مستقبل منطقة الخليج العربي في ضوء المتغيرات السياسية والاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، التي لا تقتصر على متغيرات ظرفية آنية أو قصيرة المدى بل تطال مستويات بنيوية تمس المفاهيم الأساسية التي تم تعريفها على مدى القرن الماضي والتي تحددت وترسخت فيها صيغ الأمن الإقليمي على أساس المحددات الجيوستراتيجية المرتبطة بالموقع الجغرافي والموارد الإقتصادية ورسمت طبيعة التحالفات بين الوحدات الإقليمية والقوى العالمية التي طالما حاولت الحفاظ على الوضع الراهن ما أمكن ذلك.

لقد أعيد إلى دائرة البحث والاهتمام لدى الكثير من الباحثين والمراقبين أسئلة ذات دلالة استراتيجية مستقبلية في الشرق الأوسط من قبيل مستقبل النظم العربية والنظام الإقليمي العربي وملئ الفراغ. افترضت هذه الأسئلة تبدلات جوهرية في ميكانزيم التفاعل بين ما هو محلي وتقاطعاته مع ما هو إقليمي ودولي، ودخول عناصر جديدة إلى خريطة التفاعلات الدولية التي اصطفت خلال القرن الماضي والتي لا بد أن تتغير بلحظة ما نتيجة انبعاث مقاربات جديدة للمصالح الجيوبوليتيكية والأكلاف التي تترتب عليها وبالتالي اعتماد مقاربات محدثة للنظام الإقليمي في أكثر من بقعة جغرافية على امتداد العالم لا تشكل المنطقة العربية استثناءاً عنها وبالخصوص منطقة المشرق والخليج العربي.

تأخذ قضية أمن الخليج بعداً جديداً توجب إعادة مقاربته مقاربة أكثر تشميلاً مع ما تفرزه ثورات الربيع العربي من نتائج على المعنى الجيوبولتيكي للدول التي يحدث فيها التغيير، خصوصاً في منطقة المشرق العربي وتحديداً سورية التي تتكثف فيها العناصر الدولية والإقليمية في صراع نفوذ وهيمنة على جغرافية المشرق العربي ككل، وتدخل فيه وحدات – دول الخليج العربي كعنصر مهم في تحديد نتائجه. فبعد أن درجت التحليلات على مقاربة الواقع الأمني السياسي لهذه المنطقة في ضوء التحديين الأهم المتمثل في الصراع العربي الإسرائيلي والتمدد الإيراني، كشفت السنوات الأخيرة منذ نهاية عام 2010 وبدء موجه التغير في النظم السياسية عن ضرورة بناء مفهوم جديد لأمن الخليج وإعادة تعريفة نتيجة التدافع السريع لمدخلات النظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد.

لابد لذلك أن يتم وبالسرعة القصوى وذلك بالاستفادة من دروس العراق والثمن الاستراتيجي الذي يدفعه الخليج نتيجة غيابه عن الساحة لصالح إيران من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى التي بات من الواضح أن هناك تفاهمات بينهما حول الأدوار في هذه المنطقة بالاشتراك مع السوريين (نظام الأسد) فضلاً عن لبنان وتوسع دائرة هيمنة حزب الله المرتبط عضوياً بإيران عبر الجسر السوري مرة أخرى.

تواطؤ الأضداد:

منذ الحرب الجورجية الروسية التي اندلعت عام 2008 على خلفية أزمة “أوسيتيا الجنوبية” وانكفاء الولايات المتحدة الأمريكية عن اتخاذ موقف حاسم تجاه اكتساح القوات الروسية للعاصمة تبليسي بدا أن الروس والأمريكان يعيدان تموضع المواقع ويعيدان تعريف مناطق نفوذهما التي كانت حتى تلك اللحظة ذات طابع إقليمي في المجال الحيوي بالنسبة للروس بينما كان تخلي عملي عن مساندة الحلفاء من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وعدم نجدة الجورجيين برئاسة ميخائيل ساكاشفيلي آنذاك، وقد بالغت روسيا في عرض للعضلات حينها أمام القوات الجورجية ذات (التسليح الغربي) في رسالة إلى الغرب أن محيطي الإقليمي خط أحمر لم أعد أتهاون فيه. بينما كانت أمريكا وأوروبا منشغلة بالأزمة المالية العالمية التي آذنت بانهيار مالي عالمي مقابل انتعاش اقتصادي روسي نتيجة العوائد المالية من ريع النفط والغاز، لتنقلب على مفاهيم الإنكفاء والتردد التي كانت عليهما منذ انهيار الإتحاد السوفياتي.

اليوم ومع ارتدادات الثورات العربية يتقابل الروس والأمريكان في مشهد جديد تتواجه فيه المنظورات الاستراتيجية الأمريكية والروسية وتختبر فعلياً ما إذا كانت الولايات المتحدة تقارب هذه المنطقة العربية وتحديداً الخليج العربي نفس المقاربة المبنية على أساس أنها جزء من الأمن القومي الأمريكي ومدى توافقها مع الرؤى الإستراتيجية لحلفائها في المنطقة خصوصاً الخليجيين الذين يقاربون الأزمة السورية مقاربة مختلفة بشكل حدي مع المقاربة الروسية، لنجد أنها أبعد ما تكون عن التناغم مع المنظور السياسي للحلفاء وعلى رأسهم الدول الخليجية وتركيا، لصالح تناغم أكبر مع الروس على شكل تفاهمات أقرب ما تكون تبني للمنظور الروسي.

ربما يكون خطأ استراتيجياً أمريكياً كما يرى البعض قد يتم تصحيحه لاحقاً، دون أن ننسى حقيقة العثرات التكتيكية وتراكمها مؤثرة على نحو عميق في الاستراتيجية الأمريكية ككل. لكن بالتأكيد ستكون له أكلاف أكبر، ولن يعود ممكناً بالأدوات المتوقعة حالياً استعادة ما كان عليه الشرق الأوسط، إذ أن الأرض ستكون مختلفة بشكل كلي عما هي عليه اليوم، مما يحتم على دول المنطقة المستقرة نسبياً أن تبدأ جدياً بالتحضير لمواجهة الاستحقاقات الأمنية الاستراتيجية الأكثر إلحاحاً الناتجة عن التراجع السياسي الأمريكي على هذا النحو، دون أن نتناسى أن هذا التراجع لم يشمل الانسحاب الإستراتيجي والوجود العسكري في المنطقة حتى الآن، لنسأل عن طبيعة العلاقة بشكل حاسم مع الولايات المتحدة الأمريكية وما هو موقع منظورات حلفائها واعتباراتهم الخاصة في إطار الاستراتيجية الأمريكية المتوافقة مع روسيا الجديدة، بمعنى آخر إلى أي درجة تأخذ الولايات المتحدة خيارات حلفائها الإستراتيجية بعين الإعتبار.

كما تظهر أسئلة أخرى كثيرة تثار عما آلت إليه الأمور الآن في المشرق العربي مع استعصاء الأزمة السورية والخروقات الإيرانية على أكثر من جبهة وتسللها إلى القرارات السيادية للعراق وسوريا ولبنان، مع استبعاد كلي للعمق العربي الأكثر أصالة لهذه الدول، إذ تبدو إيران بخير في ظل هذه المعادلات الإقليمية، وعدم ممانعة أمريكا لهذا التمدد الفاضح والمضر بشكل مباشر لحلفائها.

تقنية الشايل والنفط الصخري:

الجواب عن السبب بالتأكيد يأتي في مستوى آخر تماماً من مستويات الفهم الكلي للتحولات الثورية الكبرى على مستوى العالم، فإذا رفعنا عدسة الفحص من مستوى ميكروي يكتفي بالملاحظة السلوكية للدول إلى المستوى الماكروي الذي يقرأ العالم كنظام مترابط متفاعل من نظم فرعية كانت قائمة ونظم فرعية تتشكل الآن نتيجة تلاحق وتشابك ثورة المعلومات والإتصالات وتكنولوجيا النانو وتطبيقاتها الصناعية والهندسة البيولوجية.

سنجد أجوبة مختلفة تماماً عما يروجه الإعلام خصوصاً أن هذه الفتوحات العلمية قد أدت إلى تطوير تقنيات جديدة في إنتاج وتوفير الطاقة ومنها تقنية الشايل التي اكتشفها المهندس (جورج ميتشل) عندما توصّل في عقد التسعينات إلى تكييف تقنية التصديع المائي على الصخر المرنيّ، وتلك التي أجرتها شركة “ديفون” Devon Energy الأميركية التي أنهت في العام 2005 وضع تقنية التنقيب الأفقي، قد جعلت من الممكن استخراج غاز النضيد الذي كان وجوده معروفاً منذ زمن طويل. كما سمح هذا التطور التكنولوجي باستثمار الغاز الكثيف (tight gas) ونفط النضيد. وظهر لاعبون جدد في سوق الطاقة، منهم، كندا، أستراليا وأمريكا.

يشرح مؤلف كتاب بعد الثورة الأميركية لغاز النضيد تياري بروس إلى أنه (يمكن تلمّس دينامية متسلسلة “دومينو” بفعل الانتعاش في قطاع الطاقة في منطقة ما وراء الأطلسي، ففي الولايات المتحدة، يتم إنتاج غاز النضيد “الشايل” بسعر منخفض، ففي نهاية العام 2012 كان سعر الوحدة الأساسية أربع دولارات في السوق الداخلية، مقابل 18 دولار في آسيا و10 في أوروبا. لذا أصبح إنتاج الكهرباء من الغاز بدل الفحم أوفر. ونتيجة ذلك بادرت الولايات المتحدة الى تصدير فحمها الى أوروبا”.

وللإستفادة من هذه الثروة، وضعت شركة “غاز فرنسا – سويس” ثلاث محاطات من محطاتها الأربعة العاملة على الغاز في فرنسا في حالة انتظار. فبحسب ما أوضحته صحيفة Les Echos في نيسان -آبريل 2012، “تعرّضت المجموعة الفرنسية لمنافسة الفحم الأميركي الرخيص، ولانخفاض الطلب على الكهرباء في القارة الأوروبية. لم تعد محطاتها العاملة على الغاز منافسة لأنها لم تعد تعمل بسعة كافية. فقد انخفض معدّل استخدامها من 42 في المئة في العام 2011 الى 33 في المئة العام الفائت).

وعليه فإن هذا التغيّر في معادلة عناصر الطاقة سيؤدي على المدى المتوسط والطويل، إلى تبدل في القواعد الجيوستراتيجية المستقبلية على نحو عميق جداً. هذا ما نلحظه حالياً بشكل واضح في العلاقات البينية لدول أوروبا وروسيا. وأعادت دول أوروبية عديدة مراعاة ومراجعة الكثير من الملفات الأمنية والإستراتيجية مع موسكو التي أصبحت تعد تكساس أوروبا نظراً للوفورات النفطية والغازية التي تؤمنها الواردات الروسية الأقرب والأقل كلفة. ولنا أن نتخيل طبيعة العلاقات مع الدول الخليجية النفطية ونوع المقاربات الجيوبوليتيكية للقوى الدولية وتبدل أولوياتها وحاجاتها وبالتالي تبدل استراتيجياتها.

تبدل الخريطة الجيوبولتيكية:

تبقى الحلقة الأهم والمحدد الرئيسي بالنسبة للولايات المتحدة والعالم مسألة أمن الطاقة، والبحث عن مصادر جديدة بات الشغل الشاغل لجميع الدول التي تستشرف استنزاف المخزونات التقليدية في غضون عقود قليلة قادمة من الزمن، فضلاً عن ارتفاع أسعارها لمستويات قياسية، دفعت بالتفكير جدياً في تحويل التكلفة المترتبة على نقل النفط المرتفع الثمن إلى الاستثمار في الكشوفات، وإن كانت حتى اللحظة تدور شكوكاً حول الجدوى الإقتصادية من أن تلعب تقنيات جديدة دوراً بديلاً للوقود الأحفوري إلا أن الأرقام الجديدة باتت تشي بمردود ذو جدوى إقتصادية في كثير من الدول في كندا وبريطانيا واستراليا والولايات المتحدة ودول أخرى عديدة خصوصاً بعد تطوير تقنية (الشايل).

كثير من الدول لم تحسم خياراتها الاستراتيجية بالتحول نحو تقنية الشايل نظراً لارتفاع تكاليفها واحتكار الولايات المتحدة لهذه التقنية التي تعطيها استقلالية إلى حد بعيد معتمدة على انتاجها الخاص مما يعيد إلى الذهن تلك العقلية الأمريكية المكتفية بحماية حدودها وتخليها عن دور الشرطي العالمي وإعطاء الأولوية لقوتها الناعمة وتفوقها العلمي والتكنولوجي بالإضافة إلى أدواتها الإقتصادية عبر المؤسسات العالمية كصندوق النقد الدولي فضلاً عن تسيدها لكاريزما ثقافية عولمية جذابة مقارنة بالدول الكبرى الأخرى.

يعد هذا إخلالاً بتلك العلاقات والأحلاف التي اصطفت على مدار القرن الماضي والذي لا يعتقد أنها ستزول على نحو فج ومباشر وآني، إنما تفتح أذهاننا على احتمالات المستقبل واعتماد الدول النفطية على حاجة الدول الكبرى للنفط والغاز الأحفوري الذي تأسست عليه الخريطة الجيوبوليتيكية في القرن العشرين، وتجعلنا نفكر جدياً بموقع الدول التي اعتمدت على النفط في دعم ميزانيتها ومصروفاتها التي تصل إلى 92% في دولة مثل السعودية.

ستؤدي هذه التحولات فيما لو رسخت خلال العشر سنوات القادمة إلى صعود دور القوى الإقليمية وتشتعل المنافسة بين الدول على مناطق نفوذ وأسواق التصريف من قبل المنتجين الذي تبدو روسيا لاعباً أساسياً فيه، فوفق بيانات لوزارة الطاقة الروسية أن إنتاج روسيا من النفط قد ارتفع إلى 10.53 مليون برميل يوميا في أيلول/2013 من 10.52 مليون برميل يوميا في آب من نفس العام، ليضاهي بذلك أعلى مستوى له على الإطلاق منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وبلغ إنتاج الخام الروسي 43.08 مليون طن وقفز إنتاج الغاز الطبيعي 15 بالمئة إلى 1.77 مليار متر مكعب.

ومن جهة أخرى ستؤدي إلى تقدم إيران في منطقة الخليج العربي كمنافس جدي في تصدير النفط، إذ أصبح احتمالاً وارداً فيما لو تم الاعتراف بها كقوة نووية ورفع الحظر عن تصديرها للنفط الذي يجري على مرأى المجتمع الدولي وتغض الولايات المتحدة الأمريكية النظر عنه في تجاوز واضح لقرارات أممية كانت هي أكثر المتشددين في تطبيقه، إذ تستفيد الصين واليابان من النفط الإيراني على نحو متزايد فضلاً عن بعض الدول الأوروبية. مما سيفرض معطيات جيوسياسية جديد تحتاج إلى إعادة التفكير جدياً بالاستراتيجية المستقبلية لدول الخليج ومن ورائها الدول العربية ذات الصلة في المشرق العربي.

اعتماداً على ما تقدم يصبح مفهوماً ذلك الانسحاب الأمريكي المتعجل من أفغانستان والعراق، وفتح ملف التفاوض مرة أخرى مع إيران وإهمالها للأزمة السورية طالما أنها قابلة للاحتواء ولا تهدد حليفها الإسرائيلي. ليبقى السؤال مفتوحاً عن نتائج هذا التغيير الهائل في الاستراتيجية الأمريكية كما هو متوقع على باقي الحلفاء في المنطقة التي كان البترول أحد أهم محددات استراتيجيتها، وما هي البدائل الاستراتيجية لدول الخليج في حال استمر تبدل خريطة التحالفات على هذا النحو.

مازن محمود علي

نقلآً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق