أدلجة النفط: دور النفط في الصراعات المشرقية

تتسع الصراعات الناشئة في المشرق العربي على عدة جبهات، غدا العراق وسورية أبرز تلك الجبهات، مع تنوع أسباب الصراعات القائمة، ما بين سياسية وعقائدية واقتصادية وثقافية إثنية، وحتى جغرافية، تنذر بمزيد من التشظي لهذه المنطقة، واستعدادا أكثر للقوى الخارجية الإقليمية والدولية للانخراط في هذه الصراعات، كل بحسب مصلحته ودفاعاً عنها.

ويشكل النفط أحد أبرز مسببات الاقتتال القائم ما بين التشكيلات العسكرية الواسعة على أرض الواقع، حيث تتصارع جميعها على فرض سيطرتها على أبرز المواقع النفطية سواء في العراق أو سورية، وتوظيف عوائدها في تعزيز قدراتها التسليحية والتنظيمية، ومنه رسم حدود جيوسياسية وجيونفطية جديدة تغير شكل المنطقة كلياً، وإن كانت الولايات المتحدة قد افتتحت هذا الصراع في العراق، وليس منذ 2003 فحسب، بل منذ تغذيتها لطرفي حرب الخليج الأولى 1980-1988، فإن قائمة المتصارعين اتسعت أكثر مما كان متوقعاً لها، لتشمل إيران ومعها الميليشيات الشيعية في جنوب العراق، والأكراد في شماله، بالإضافة إلى فصائل العشائر العربية السنية في غربه، ونظام الأسد في سورية، وأحدثها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في امتداد ما بين سورية والعراق.

وتتناول هذه الدراسة دور عامل النفط، باعتباره متغيراً مستقلاً، بغية دراسة الحدود الصراعية الناشئة عنه، دون أن يعني ذلك، أن النفط هو المتحكم الوحيد أو الرئيس في الصراعات الناشئة، بل من خلال دراسة أثره منفصلاً عن بقية العوامل الأخرى.

أبرز التشكيلات النفطية في العراق:

يعتبر العراق، من أهم مواطن النفط العالمية، حيث يبلغ حجم احتياطي النفط العراقي المؤكد نحو 112-141 مليار برميل، وبنسبة تتراوح بين 10-12% من الاحتياطي العالمي الإجمالي، فيما يبلغ احتياطي الغاز قرابة 3000-4000 مليار متر مكعب (3-4 ترليون)، محتلاً المركز التاسع عالمياً في احتياطات الغاز.

وتشكل نسبة 80% من نفط العراق، احتياطات غير مؤكدة، ولذلك يقدر هذا الاحتياطي غير المؤكد بحدود 360 مليار برميل، ويحتل العراق أكبر احتياطي نفطي في العالم بعد السعودية، ويبلغ أربعة أضعاف الاحتياطي النفطي الأميركي، ويمتاز بوجود جميع حقوله في اليابسة، لذلك فتكاليف إنتاجه تعد الأقل في العالم إذ تتراوح بين 0.95 و1.9 دولار للبرميل الواحد، مقارنة بكلفة إنتاج البرميل في بحر الشمال التي تصل إلى عشرة دولارات، وفي العراق جميع أنواع النفط من خفيف ومتوسط وثقيل، ويوصف العنصر البشري العامل في قطاع النفط العراقي بأنه من بين أفضل العناصر كفاءة في الشرق الأوسط (1).

وتتوزع الحقول النفطية الكبرى في كافة أرجاء العراق، إلا أنها تتمركز وبشكل رئيس في جنوب العراق، حيث الثقل السكاني الشيعي، يليها في ذلك منطقة إقليم كردستان مضافاً إليها محافظة كركوك، حيث الثقل السكاني الكردي، فيما تنتشر بعض الحقول الصغيرة في المناطق الشمالية الغربية ذات الثقل السكاني العربي السني.

إذ يحتوي العراق -حسب الدراسات الجيولوجية- على حوالي 530 تركيبا جيولوجيا تعطي مؤشرات قوية بوجود كم نفطي هائل، ولم يحفر من هذه التراكيب سوى 115 من بينها 71 ثبت احتواؤها على احتياطات نفطية هائلة تتوزع على العديد من الحقو،.وتبلغ الحقول العراقية المكتشفة 71 حقلاً ولم يستغل منها سوى 27 حقلاً من بينها عشرة عملاق،.وتتركز حقول النفط والغاز المنتجة حالياً في محافظتي البصرة وكركوك، وتأتي بعدها في الأهمية حقول محافظات ميسان وبغداد وصلاح الدين وديالى ونينوى، أما الحقول غير المكتشفة وغير المطورة فتوجد في أغلب محافظات العراق ما عدا أربع: هي القادسية وبابل والأنبار ودهوك، يتركز الجزء الأعظم من الاحتياطي النفطي العراقي في الجنوب أي في محافظة البصرة حيث يوجد فيها 15 حقلاً، منها عشرة حقول منتجة وخمسة ما زالت تنتظر التطوير والإنتاج، وتحتوي هذه الحقول احتياطياً نفطياً يقدر بأكثر من 65 مليار برميل، أي نسبة 59% تقريباً من إجمالي الاحتياطي النفطي العراقي، ويشكل الاحتياطي النفطي لمحافظات البصرة وميسان وذي قار مجتمعة حوالي ثمانين مليار برميل، أي نسبة 71% من مجموع الاحتياطي العراقي(2).

1 النفط

أما محافظة كركوك ففيها 6 حقول، منها 4 منتجة و2 غير منتجة تنتظر التطوير، ويخمن الاحتياطي النفطي الموجود فيها بحوالي 13500 مليون برميل، منه 12350 مليون برميل في الحقول الحالية والباقي في الحقول الجديدة غير المطورة، وهذا يعني أن الاحتياطي النفطي في كركوك يمثل حوالي 12% من المجموع، وهو يتوزع بنسبة حوالي 7.5% في حقل كركوك وحوالي 4.5% في حقول المحافظة الاخرى، ويمتلك إقليم كردستان بحدوده الحالية –قبل الاستيلاء على كركوك- عدة حقول نفطية يبلغ عددها 5 حقول، تحتوي على 3160 مليار برميل، بطاقة إنتاجية تخمينية قدرها 375 ألف برميل يومياً، أي إن الاحتياطي النفطي المعروف حالياً في كردستان يمثل حوالي 3% من المجموع، إضافة لذلك فإن محافظة السليمانية تمتلك حقلين غازيين كبيرين هما حقل جمجمال وحقل كورمور(3)، وإذا أضيفت إليه احتياطات كركوك، يصبح الاحتياطي الكردي النفطي قرابة 15% من الاحتياطي العراقي الإجمالي.

أبرز التشكيلات النفطية في سورية:

لا تشكل سورية دولة رئيسة في عالم الإنتاج والاحتياط النفطي، حيث لا يتجاوز الاحتياطي فيها 2.5 مليار برميل، وبنسبة 0.2% من الاحتياطي العالمي، ولم يتجاوز إنتاجها من النفط 300-500 ألف برميل يومياً، فيما تحرز موقعاً متوسطاً لناحية احتياطي الغاز وبقرابة 250 مليار متر مكعب، محتلة الترتيب 43 عالمياً.

2 نفط

وتنتشر الحقول النفطية ومكامن الغاز في شرق البلاد، على امتداد محافظات الحسكة ودير الزور، وبادية محافظة حمص، إضافة إلى مكتشفات جديدة من النفط والغاز على ساحل المتوسط، حيث تتوزع السيطرة على تلك الثروات، ما بين نظام الأسد، وتنظيم داعش، والقوى الكردية الانفصالية في محافظة الحسكة، ويمتاز النفط السوري بذات المواصفات التي يتمتع بها النفط العراقي.

أثر النفط في الاحتلال الأمريكي في العراق:

كان العدوان على العراق 2003 ضمن ما يعتقده ديفيد ويرمسير –المحلل الاستراتيجي في معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية المتقدمة– بأنّ: “من يسيطر على العراق، يتحكّم استراتيجياً بالهلال الخصيب، وبالتالي بالجزيرة العربية”، إذ يمثل العراق منطلقاً استراتيجياً لعملية التحول الأمريكي من إدارة العالم إلى قيادته، ومنع قيام أيّة قوة منافسة لها في أيّ مكان من العالم (4).

ويعتبر النفط أحد أبرز محددات توجهات الولايات المتحدة تجاه المشرق العربي (5)، دون أن يكون المحدد الأول أو الأهم كما تراه المدرسة الماركسية، فقد ذهب خليل العناني (6) إلى أنّ النفط لعب دوراً رئيساً في تحفيز الولايات المتحدة لاحتلال العراق، نتيجة توقعاتها بشأن الانخفاض المستمر في مخزونها النفطي في ظلّ الزيادة المطردة في الاستهلاك، إضافة إلى ارتفاع تكلفة استخراج النفط في المناطق الأخرى –خاصة روسيا والأميركيتين– والتي تصل ما بين 12 و18 دولاراً للبرميل الواحد، بينما لا تتعدى تلك التكلفة في الخليج العربي دولاراً ونصف الدولار على أكثر تقدير، انطلاقاً من تحليله لأسواق النفط عام 2003 قبيل الاحتلال الأميركي للعراق، وتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ الولايات المتحدة تهدف إلى تحقيق التحكم الأمثل في إنتاج النفط وأسعاره.

في المقابل انطلق منظور آخر من أنّ النفط لم يكن المحفز الرئيس الذي دعا واشنطن للقيام بعملية احتلال للعراق، بناء على حساب تكلفة الاحتلال، التي تجاوزت 200 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الأولى، مضافاً إليها تكلفة ارتفاع النفط بواقع متوسط 30 دولاراً على أقل تقدير في السنوات الثلاث الأولى من الاحتلال، وهو ما يعادل 2 تريليون و120 مليار دولار (7).

وترى بعض التقديرات أنّ كل ارتفاع في أسعار النفط بمعدل 5 دولارات لكل برميل يقلص الدخل القومي الأمريكي بواقع 17 مليار دولار في السنة تقريباً، ويضاف إلى ذلك تكلفتان أساسيتان (8):

–   تكلفة تكوين البيئة التي تتمكن فيها من الوصول إلى النفط.

–   حماية إمكانية الوصول بالقوة العسكرية.

واللتان ترفعان الكلفة إلى ما لا يقل عن 100 مليار دولار في السنة.

وتؤكد دراسات صندوق النقد الدولي بأنّ ارتفاع سعر برميل النفط الخام بما يعادل 5 دولارات، يسهم في انخفاض النمو العالمي 0.3% سنوياً للدول الصناعية الكبرى، منها نصيب الولايات المتحدة والدول الأوروبية 0.4%، واليابان والدول الأخرى 0.2%، وكان قد ارتفع معدل التضخم بمقدار 0.3% في كلّ من الولايات المتحدة وأوروبا نتيجة ارتفاع أسعار النفط في عام 2004 فقط (9).

غير أنّ تلك التحليلات الاقتصادية التي جعلت من النفط المبرر الرئيس لاحتلال العراق، لم تكن كافية في أقل تقدير، إذ مع توفر ملاءة مالية للولايات المتحدة، وكون الدولار الأمريكي هو العملة الرئيسة المتحكمة بسعر النفط على المستوى الدولي، فإنّ دور النفط في هذه الحرب كان يسعى بالإضافة إلى استحواذ الشركات الأمريكية على تفضيلات نفطية في عراق ما بعد الحرب، إلى إيقاف النمو الاقتصادي والعسكري أو عرقلته للقوى الصاعدة –وخاصة الصين– بجعل أسعار النفط معيقاً أساسياً للتنمية الداخلية، في ظلّ تمتع الولايات المتحدة باحتياطي نفطي بدأ يتسع مع الكشوفات النفطية الصخرية فيها.

وهو ما ذهب إليه كينيث م. بولاك من أنّ هدف الولايات المتحدة من احتلال العراق لم يكن: “الإبقاء على تدفق النفط فحسب، بل لديها مصلحة في منع أيّة دولة يمكن أن تصبح معادية من الفوز بالسيطرة على المنطقة ومصادرها، واستخدام مثل هذه السيطرة لحشد نفوذ هائل أو لابتزاز العالم (10)“.

وعليه، فإن التوجهات الأمريكية تجاه الصراعات الناشئة في سورية والعراق، مرتبطة حتمياً بالقوى المسيطرة على منابع النفط فيها، إذ أن فرض أية تغيرات جغرافية يستتبع قدرة أمريكية على الوصول إلى الموارد النفطية من جهة، وتحكم في آليات تصديرها والجهات المصدرة إليها من جهة أخرى، فلا يمكن للأكراد أو أية جهة أخرى، فرض تغيرات جيوسياسية في المنطقة دون التوافق مع الولايات المتحدة، وأية محاولة للهيمنة على منابع النفط، خارج إطار الولايات المتحدة، ستؤدي إلى توظيف عسكري تحت ذرائع “مكافحة الإرهاب”؛ بغية إعادة السيطرة على المنطقة ونفطها، وخاصة أن الولايات المتحدة قد قدمت تريليونات الدولارات في حرب ما تزال مستمرة وإن بأوجه أخرى، وهو ما يدفعها للحفاظ على شكل النظام القائم في العراق ضمن الاتفاقيات الأمنية المفروضة عليه، مع مساحة من المناورة المتاحة على رأس النظام “المالكي”، وهو ذات النهج الذي تسلكه تجاه سورية منذ اندلاع ثورتها عام 2011.

المكاسب النفطية الروسية:

نتيجة الاضطرابات الحاصلة في سوق النفط الدولي، وارتفاع سعر برميل الخام منه، استطاعت روسيا تحقيق مكاسب مالية إضافية، منذ أن غدت الدولة المنتجة الأولى عالمياً للنفط والغاز، وهو ما انعكس على كافة سياساتها الدولية، لتعزيز هذه المكاسب من جهة، ومنع بروز منافسين، أو السعي إلى تخفيض الأسعار القائمة، وقد استفادت من كلا الحدثين العراقي والسوري في تعزيز هذا الموقف.

وتكمن أحد الجوانب الرئيسة في دعمها المطلق لنظام الأسد، نتيجة عوامل نفطية، من أبرزها، احتكارها للاستثمارات النفطية والغازية في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد من جهة، وخاصة مع الكشوفات الجديدة في الشريط الساحلي السوري، وعرقلتها أية مشاريع كانت مطروحة، بهدف تصدير الغاز الخليجي عبرها إلى أوروبا، وهو ما يخلق منافسة لخط الأنابيب الروسي المتحكم بالغاز المصدر إلى أوروبا، وقد بلغت حجم الاستثمارات الروسية في سورية عام 2011، قرابة 19 مليار، غالبيتها يصب في الاستثمارات النفطية.

كما تسعى روسيا لمنع تصدير النفط السوري من المناطق التي لا يسيطر عليها نظام الأسد، بغية تجفيف موارد المعارضة المالية من جهة، والمساهمة في تقليل المعروض العالمي من النفط، وخاصة بعد امتداد تنظيم داعش ليسيطر على مساحات نفطية واسعة من سورية والعراق، في المقابل، فإن عودة الاستقرار إلى كل من العراق وسورية، سيدفع بكلا الدولتين، إلى تعزيز إنتاجهما من النفط، لتعويض ما فاتهما، وهو ما يزيد المعروض العالمي من جهة، ويخفض سعر تلك المنتجات من جهة أخرى، ما ينعكس سلباً على الموارد المالية الروسية، وهو ما تسعى روسيا إلى تأجيله، من خلال تعزيز حالة الحرب القائمة، على الأقل لسنوات قادمة، حتى تنجز إعادة البناء العسكري والاقتصادي القائمة فيها.

التسلط الإيراني على النفط العراقي:

أكد تقرير صادر عن المركز العالمي للدراسات التنموية، ومقره لندن، أن إيران تستنزف بشكل كبير حقول النفط العراقية المجاورة لها، حيث جاء فيه أن إيران تستنزف من نفط العراق ما يبلغ 130 ألف برميل يومياً من أربعة حقول عراقية هي: حقول دهلران ونفط شهر وبيدر غرب وأبان، في حين أن حجم التجاوزات الإيرانية لحقول الطيب والفكة وأجزاء من حقل مجنون بلغ قرابة ربع مليون برميل يومياً، مقدراً أن حجم التجاوزات الإيرانية للنفط العراقي تصل قيمته 17 مليار دولار سنوياً أي قرابة 14% من إيرادات الدولة العراقية التي كانت ستصب في مصلحة المواطن العراقي، وأشار التقرير إلى أن استغلال إيران لحقول النفط العراقية بالإضافة إلى عمليات التهريب ساهمتا في التخفيف من حدة العقوبات الاقتصادية المفروضة على تصدير النفط الإيراني حيث أن كميات النفط المسروقة يعاد تصديرها للعراق مرة أخرى بسعر السوق، وذلك بعد أن يعاد تصنيعها على شكل مشتقات نفطية، أو على شكل طاقة كهربائية، وأشار التقرير إلى تآمر الحكومة العراقية مع الإيرانيين في هذا الأمر حيث كشف عن تعمد وزارة النفط الحالية إهمال تركيب عدادات إلكترونية خاصة لقياس كميات النفط المستخرجة والمصدرة عن طريق الأنابيب كما أنها ترفض تطبيق نظام المراقبة الالكترونية عبر الأقمار الصناعية على توزيع المشتقات النفطية (11).

ويبدأ الطريق الرئيس للتهريب من العراق إلى إيران بمحطة “خور الزبير” النفطية والتي يتلاقى فيها الجزء الأكبر من نفط الجنوب العراقي، ويقوم المهربون بصنع ثقوب في خط الأنابيب بمحطة النفط وشحن حاويات من النفط إلى زوارق صغيرة، ويتم تصنيع الزوارق محليّاً في مدينة البصرة؛ وهي تحمل عادة ما بين 70 إلى 120 برميلاً من النفط الخام، ومن هناك، تُحمّل الزوارق الخام عبر الممر المائي في “خور الزبير” خروجاً إلى الخليج العربي؛ حيث يتم تحميلها إلى صهاريج متجهة نحو إيران، وتحدث السرقات أيضاً على طريق التهريب بالقرب من شبه جزيرة الفاو، حيث يصنع المهربون ثقوباً في خطوط الأنابيب الممتدة تحت سطح الأرض باستخدام معدات ثقب هيدروليكية لتجنب الحرائق، ويتسرب الكثير من النفط إلى بحيرات صناعية في المنطقة، حيث تأتي الصهاريج لتحميله، ويمكن نقل الخام بالزوارق من جزيرة الرصاص وحتى نهر “بهمن شير” (أحد روافد نهر كارون) إلى مصفاة عبادان في إيران للتصنيع والتصدير، وتحدث عمليات تهريب النفط كذلك على طول النهر المعروف باسم “شط العرب” إلا أنها أقل شيوعاً بكثير نظراً للطبيعة الخطرة للممر المائي وعمليات المراقبة المتزايدة على طول الطريق، وتستخدم الزوارق العراقية عالية السرعة للمرور على طول “شط العرب” إلى المياه الإقليمية الإيرانية لتفريغ حمولتها؛ إلا أن هذا المسار عالي التكلفة نظراً لعدد الرشاوي اللازم دفعها على طول الطريق (12).

إن الشخصية الإيرانية الرئيسة التي تتحكم في شبكات نفط البصرة هو الجنرال “قاسم سليماني”، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، ويلعب سليماني دوراً رئيساً في شراء الولاء في البصرة وباقي أنحاء الجنوب باستخدام عائدات النفط المسروق، ويتم إيداع معظم الأموال في فروع لمصارف مملوكة للحرس الثوري الإيراني في العراق، وتتولى شبكة سليماني مهام تهريب السلاح إلى العراق، وتهريب النفط إلى إيران، وكذلك جمع وتوزيع عائدات النفط، بالإضافة إلى اختطاف (أو اغتيال) شخصيات مناهضة لإيران جنوبي العراق (13).

وفي ظل التطورات القائمة، عززت إيران من وجودها العسكري الاحتلالي جنوب بغداد، وخاصة حول المنابع النفطية، خشية تغيرات جيوسياسية تطال العراق، بحيث تضمن في حال حدوث تلك التغيرات، هيمنتها على الجنوب العراقي، سواء بشكل احتلالي مباشر، أو عبر خلق كيان شيعي مستند إليها.

الحدود الأيديولوجية النفطية:

منذ أن تحرك ثوار العشائر عسكرياً في شهر حزيران/يونيو 2014، لإسقاط حكومة المالكي، بدأت حدود جديدة ترسم داخل المشرق العربي ككل، شرعنتها الأوضاع القائمة في سورية والعراق، إذ سارع أكراد العراق إلى فرض هيمنتهم على غالبية محافظة كركوك عسكرياً، والتمهيد لاستقلال إقليمهم بعد أن تم لهم ذلك، وبعد وصله جغرافياً بالمنطقة الكردية شرق سورية، والتي فرض الأكراد فيها منذ بداية الثورة، هيمنتهم على منابع النفط السورية فيها، وتتوالى التصريحات والإجراءات الكردية، بالتنسيق مع إيران والولايات المتحدة معاً، للحصول على اعتراف إقليمي ودولي بالدولة الوليدة، بعد أن أتمت سيطرتها على غالبية المناطق التي تطالب بها تحت ذرائع إثنية تاريخية، ذات مخزون نفطي كبير، قد تنساق في المستقبل القريب إلى أكراد شرق سورية.

نفط 3

 ذات الأمر ينساق على جنوب العراق، حيث عززت إيران من هيمنتها العسكرية عليه، للمحافظة على منابع النفط -كما مر سابقاً-، بما يوحي بإمكانية تحويله إلى دولة شيعية مستقلة، في حال عدم القدرة على قمع الثورة من جهة، وعدم القدرة على إزالة ما بات يعرف بالدولة الإسلامية لتنظيم داعش.

 فيما استطاع تنظيم داعش، انتزاع المنابع النفطية في سورية من يد جبهة النصرة، وخاصة في منطقة دير الزور-البوكمال، ووصلها مع المناطق التي سيطر عليها في العراق، قبيل إعلان دولته، التي تتمتع هي الأخرى بمخزون نفطي يؤهلها للاستمرار اقتصادياً وعسكرياً.

النفط 4

خاتمة:

لا يمكن استمرار أي حرب دون وجود تمويل يغطي تكاليفها من جهة، ويدفع بقواتها إلى مزيد من التقدم والانتصار، لذا برزت المكامن النفطي في المنطقة، أحد أسباب تلك الحرب المتسعة في المشرق العربي، حيث تؤدي عوائدها إلى قدرة تسليحية تحمي المكتسبات الجغرافية من جهة، وتسمح لها بتشكيل كيانات يمكن دولنتها، على غرار إقليم كردستان العراق والدولة الإسلامية.

غير أن النفط لا يشكل بحد ذاته القيمة الأساسية للحروب، بل وظائفه المنعكسة قوة على الذات وعلى الخصوم، لذا فإن إطار الحرب النفطية لن يقتصر على المكونات الداخلية للمجتمعات شرق الأوسطية، بل يستدعي حتماً كافة التداخلات الإقليمية والدولية، وهو ما ينبئ بمزيد من العسكرة للمنطقة، ومزيد من التفتيت الجيوسياسي والعقائدي والتاريخي.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

مراجع:

(1) سيدي أحمد ولد أحمد سالم، “النفط العراقي: الاحتياطي والإنتاج”، الجزيرة نت، 5/11/2007:

http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/71684a9a-631d-4fca-beed-2871c93d3d77.

(2) للمزيد حول حقول النفط العراقية، انظر: سيدي أحمد ولد أحمد سالم، “حقول النفط العراقي”، 24/10/2007، الجزيرة نت: http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/279a0b4c-a744-4db9-8e52-92b7780ed1e5.

(3) كامل المهيدي، “التوزيع الجغرافي لحقول العراق النفطية وعلاقته بالدستور الجديد”، صحيفة الاتحاد العراقية، 2005:http://www.alitthad.com/paper.php?name=News&file=article&sid=12890.

(4) سعد ناجي عواد، “العراق وجدلية العلاقة بين التجاذبات الدولية والإقليمية والاستقطابات المذهبية والطائفية”، شؤون عربية، العدد 129، ربيع 2007، ص 154.

(5) صرح الرئيس بوش الأب في 15/8/1990: “إن أشغالنا وطريقة حياتنا وحريتنا، وحرية الدول الصديقة حول العالم، كل ذلك سيتعرض للمعاناة، إذا أصبحت السيطرة على احتياطي الوطن الكبير من النفط في يد صدام حسين”. وهو ما بينه كذلك وزير الخارجية جيمس بيكر في 4/9/1990 بقوله: “ما هو على المحك اقتصادياً، هو اعتماد العالم على إمكانية الحصول على موارد الطاقة من الخليج العربي، المشكلة لا تتعلق تماماً بالموضوع الضيق حول تدفق النفط من الكويت والعراق، ولكنها تتعلق بدكتاتور يمكنه لوحده إذا لم يجد تحدياً أن يخنق النظام الاقتصادي العالمي، بحيث يحدد بقرار منه، ما إذا كنا سنعاني من ركود اقتصادي، أو حتى أن ندخل في نفق الكساد المظلم”. انظر: محمد الأطرش، ” أزمة الخليج: جذورها والسياسة الأمريكية تجاهها”، المستقبل العربي، العدد 155، كانون الثاني 1992، ص 32.

(6) خليل العناني، “دور النفط في الأزمة العراقية–الأمريكية”، السياسة الدولية، العدد 151، كانون الثاني 2003، ص 8-23.

(7) عبد الله يوسف سهر، “دوافع وتداعيات التدخل العسكري الأمريكي في العراق”، السياسة الدولية، العدد 170، تشرين الأول ‏2007‏‏، ص 25.

(8) وليم بولك، “المشهد العراقي أمام الكونغرس الأمريكي”، المستقبل العربي، العدد 351، أيار 2008، ص 103.

(9) عبد الله يوسف سهر، مرجع سابق، ص 26.

(10) طلال عتريسي، “النتائج والتداعيات إيرانياً”، في: مجموعة باحثين،احتلالالعراق وتداعياته عربياً وإقليمياً ودولياً(بيروت: مركز دراسات الوحدةالعربية،الطبعة الأولى، 2004)، ص 457.

(11) “إيران تسرق نفط العراق”، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، 12/12/2013، في:http://taseel.com/display/pub/default.aspx?id=3711&mot=1.

(12) “الإخطبوط الإيراني واستنزاف نفط العراق 1”، تقرير مركز ستراتفور للأبحاث، ترجمة: شيماء نعمان، 13/2/2012: http://www.islammemo.cc/Tkarer/Takrer-Motargam/2012/02/13/143971.html.

(13) “الإخطبوط الإيراني واستنزاف نفط العراق 2”، تقرير مركز ستراتفور للأبحاث، ترجمة: شيماء نعمان، 13/2/2012: http://www.islammemo.cc/Tkarer/Takrer-Motargam/2012/02/13/143972.html.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق