احتضار الخطاب الديني السياسي

بعد ثلاثة سنوات من إنطلاقة الحراك الشعبي والجماهيري في عدة بلدان عربية، ضد ظلم وطغيان الأنظمة السياسية المستبدة، فإن الأحزاب والحركات الدينية السياسية واكبت حركة التاريخ العام، لكنها لم تواكب تفاصيل المتغيرات ومعطياتها. فالخطاب الديني السياسي على الجملة قد كشف عن مدى التناقضات والتضاربات بين تطلعاته السلطوية وتحالفاته الفئوية، وبين ما تتطلع إليه الشعوب والجماهير بنيل الحرية والكرامة. فالثورات الشعبية العربية التي أُطلق عليها أسم “الربيع العربي”، والنهج الديني السياسي في ما يُسمى “الإسلام السياسي”، صار التباعد بينهما واضحاً وواسعاً، جراء التضاد والتناقض لدى الإسلاميين السياسيين.

ومن أبرز تلك التناقضات ما كشفه موقف مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي. ففي خطبة الجمعة بتاريخ 4 شباط/فبراير 2011، قد أشاد خامنئي بالثورتين التونسية والمصرية، ولقد أعتبرها “بوادر يقظة إسلامية في العالم مستوحاة من الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979”. وقال: أن “الثورات العربية تستلهم روح ونموذج الثورة الإسلامية في إيران وبالتالي فهي إستمرار لها”. بل أن نجاح الثورة المصرية التي تزامنت مع الذكرى الثانية والثلاثين لنجاح الثورة الإسلامية في إيران، أن دفعت بخامنئي أن يعتبرها أيضاً من نتاج وتأثير الثورة الإيرانية في محيطها الإقليمي.

ولكن ما أن وصل هدير الثورات إلى الشعب السوري في 15-3-2011، وعلى مدى ست شهور كانت ثورة سلمية مدنية. فإن علي خامنئي طيلة تلك الفترة لم يؤيدها بل أيد النظام السوري الذي أندفع تجاهها بالقمع الوحشي. ففي خطاب بمناسبة يوم البعثة النبوية في 30-6-2011، أشار خامنئي إلى أن الثورة السورية هي “إنحراف” ونسخة مزيفة عن الثورات في مصر وتونس واليمن وليبيا. ولذا لا يمكن لإيران أن تساند هكذا ثورة صنعتها الولايات المتحدة الأمريكية بغية إيجاد خلل في “جبهة الممانعة”. وحسب تصوره أن فحوى أحداث سوريا تختلف عن مثيلاتها في المنطقة. حيث أن “جوهر الصحوة الإسلامية في بلدان المنطقة معادية لأمريكا والصهيونية، إلا أن يد أمريكا في أحداث سوريا مكشوفة بوضوح”.

أما رؤية خامنئي لأحداث البحرين الدامية التي أندلعت في دوار اللؤلؤة بتاريخ 14-2-2011، وصلة النظام الإيراني بتأجيجها، فيراها بأنها “النضال الحقيقي في البحرين المماثل لحركة الشعب المصري والتونسي واليمني”.

أن التناقض الفاضح في خطاب خامنئي قد تعمق أكثر عندما شاركت ميليشياته الطائفية مع قوات بشار الأسد بقتل وتدمير سوريا أرضاً وشعباً. فبعد المراوغة والأكاذيب بأن إيران تدعم النظام السوري بالجوانب المعنوية والإنسانية، وليس بالسلاح والخبرة والوجود العسكري. فقد عقد اللواء محمد علي الجعفري القائد الأعلى للحرس الثوري الإيراني مؤتمراً صحفياً في طهران بتاريخ 16-9-2012، وحشد له عدداً ضخماً من الصحافيين المحليين والأجانب، قال فيه: إن “عدداً من أعضاء قوة القدس موجودون في سوريا، لكن هذا لا يمثل وجوداً عسكرياً”.

بيد أن تصاعد المواجهات بين الثوار السوريين وقوات الأسد، دفعت بإيران أن تزج في القتال عناصر “حزب الله” في لبنان. وكذلك زجت بعناصر طائفية عراقية مرتبطة بها، سواء في “عصائب أهل الحق” أو “كتائب أبي الفضل العباس”. وأمرت رئيس حكومة الإحتلال الخامسة في بغداد نوري المالكي أن يدعم النظام السوري. فإنقلب الأخير، وهو رئيس حزب الدعوة الإسلامي، مئة وثمانين درجة بدون خجل ولا وجل. فالمالكي الذي طالب مجلس الأمن الدولي في آب/أغسطس 2009، بالتدخل وتشكيل محكمة جنائية دولية  ضد النظام السوري، متهماً إياه بأيواء الإرهابيين؛ جراء سلسلة التفجيرات التي راح ضحيتها زهاء 700 عراقي بين قتيل وجريح. فأنه في آيار/مايو 2011، قال المالكي: “أن أمن سوريا من أمن المنطقة”. ومنذ ذلك الحين يزداد دعم المالكي لبشار الأسد بشكل خفي أكثر منه علني.

أن هكذا تناقضات قد سارعت أكثر في تعرية الخطاب الديني السياسي أمام الشعوب العربية والإسلامية، حتى أوصلته إلى مرحلة  الإحتضار. أن الخطاب الديني السياسي يمر الآن في مرحلة إحتضار حتمية، خصوصاً بعد عزل “الأخوان المسلمين” عن السلطة في مصر، وتحجيم دورهم في تونس وليبيا واليمن؛ ومدى تأثير ذلك على مستقبل “الأخوان” في الأردن والجزائر وغيرها من البلدان العربية. فمشكلة الإسلام السياسي المزمنة أن تنظر للطرف الآخر على أنه خارج دائرتها، وبالتالي وصولها لسلطة يجعلها غير متفاعلة مع عموم الشعب من ناحية. وأن أستخدامها منصة الدين يكشف عن حقيقتها السلطوية من ناحية أخرى.

وإذا كان خامنئي ونظامه الإسلامي يمثل تناقضاً بارزاً في الخطاب الديني السياسي تجاه “الربيع العربي”، فإن “حركة الأخوان المسلمين” في مصر سلكت هذا الإتجاه أيضاً. فكما هو معلوم أن الثورة الشعبية التي أنطلقت في 25-1-2011، فإن الأخوان قد أمتنعوا بدايةً عن المشاركة في المظاهرات التي أندلعت في القاهرة وأمتدت إلى بقية المحافظات. وبعد مضيء ثلاثة أيام، ومع إشتداد زخم وتصاعد المظاهرات الصاخبة، شعرت القيادة الأخوانية بضرورة المشاركة والإصطفاف مع كافة القوى السياسية والشعبية ضد نظام حسني مبارك.

الواقع قد نتفهم الحسابات السياسية لدى قادة الأخوان في تأخرهم عن قافلة الثورة. بل وقد نتفهم حتى تقاعسهم الأولي بعدم أقحام عناصرهم في “ميدان التحرير” يواجهون الموت برصاص الشرطة وسكاكين البلطجية، وأكتفوا بمد المتظاهرين بالخيام والبطانيات، وتأمين وجبات الطعام وغيرها من المساعدات. ولكن ما لا نفهمه هو إدعاء الأخوان بأن لهم اليد الطولى بإنجاح الثورة. وكذلك ما لا نفهمه هو تقلب مواقف الأخوان بعد الثورة. إذ أعلنوا قبل الإنتخابات البرلمانية، إن ثلث المقاعد تكفيهم، وكان شعارهم: “المشاركة لا المغالبة”. بيد أنهم زجوا بالعديد من المرشحين على القوائم والمقاعد الفردية، فشكلوا ثلثي أعضاء البرلمان، مما مكنهم من تمرير الدستور والتشريعات التي تخدم مصالحهم لا مصالح الثورة والشعب.

وأيضاً أعلن الأخوان بعدم نيتهم خوض الإنتخابات الرئاسية، لكنهم أسسوا “حزب الحرية والعدالة” في 6 حزيران/يونيو 2011، ليكون الجناح السياسي لهم. ورغم فوزهم بفارق ضئيل 51.7%. إلا أن الرئاسة تعني تشكيل الحكومة حسب التصور الأخواني. ومن هنا بدأوا في أخونة مؤسسات الدولة. وحتى عندما تعهد الرئيس المعزول محمد مرسي أن يحل العديد من المشكلات خلال مئة يوم، ومنها المرور والأمن والوقود والنظافة والخبز وغيرها. فإنه لم يفي بوعده تماماً، حيث أنجز القليل وترك الكثير.

وهذا يعني أن تناقضات الخطاب الأخواني قد كشف حقيقة الخفايا المتوارية التي لا يفصح عنها قادة الحركة الأخوانية. وإلا لتمسكوا أمام الشعب المصري بخطاب واضح ومستقيم لا يرتد عليهم بالنقد والسلب. كما وتشير تلك التقلبات المتضاربة في مواقف الأخوان، إلى أنهم يرومون إلى تحقيق مكاسب سياسية تصب في صالحهم وحدهم. وهذا الأمر قطعاً يؤدي إلى أرتكاب التناقضات. وإلا كيف نفسر قول نائب المرشد العام رشاد بيومي عن المظاهرات المليونية: “أعلنا المشاركة في المليونية من باب التأكيد على جدية الموقف، وأننا لن نسمح بتجاهل الإرادة الشعبية”. ثم يتم تميع هذه “الإرادة الشعبية” عندما أنسحب الأخوان من المظاهرة، بدعوى أن رسالتهم للمجلس العسكري قد وصلت. وحتى عندما أحتدمت المواجهات ضد المظاهرات وقرر المجلس العسكري أستخدام القوة تجاه “ميدان التحرير”. أعلن الأخوان عبر “حزب الحرية والعدالة” عدم مشاركتهم في أية إعتصامات أو تظاهرات، بدعوى تخفيف الأحتقان في الشارع المصري.

أما الخطاب الأخواني بعد عزلهم عن السلطة، ففيه كشف أعمق لحقيقة الصراع الذي يشنه الأخوان من أجل  الوصول إلى دفة الحُكم، بدعوى الشرعية. رغم أن الشرعية تقترن بالنتائج وليس فقط بإتمام الفترة الزمنية المحدد لها قانونياً. علاوة على أن الشعب هو مصدر الشرعية أصلاً. ولقد خرج عموم الشعب في تظاهرات مناوئة لحُكم الأخوان الذين خطفوا الثورة والدولة، وحاولوا تغيير الهوية الوطنية. وإن ردة فعل الأخوان في المصادمات والمظاهرات، وشل بعض الجامعات، وخلق الأزمات والتحركات المضادة، إن هي إلا أدلة جلية تفضح هدف الأخوان الساعي نحو عرش السلطة.

عندما يحتظر الخطاب الديني السياسي في إيران، أو في تنظيمات الأخوان المسلمين، فإن فروعهم تعكس أيضاً صورة ذلك الإحتضار. إذ في مقابلة مع “قناة الجديد” اللبنانية بتاريخ 2-9-2013، أشار حسن نصر الله عن التدخلات العسكرية لحزبه قائلاً: “نحن ذهبنا إلى سوريا للدفاع عن كل لبنان”! وأن عمل الحزب هو “التقليل من الخسائر ومن تداعيات الوضع السوري على الوضع اللبناني”!

أن المغالطات التي يطرحها نصر الله تنم فعلاً عن إحتضار للعمامة السياسية التي سقطت بوحل كذبها وتزييفها للحقائق. فهل حقاً أن عناصر “حزب الله” تقاتل داخل سوريا من أجل الدفاع عن “كل لبنان”؟ أم أن الحقيقة الساطعة هي للدفاع عن النظام السوري المستبد ضد الشعب وثورته؛ سيما وأن الحزب والنظام السوري مرتبطان بالإستراتيجية الإيرانية الطائفية في المنطقة العربية. ألم يشير الأمين العام السابق لحزب الله الشيخ صبحي الطفيلي، في مقابلة مع جريدة “الشرق الأوسط” في 2-6-2013، قائلاً: “إن زج إيران للحزب في المعركة سيفتح الباب واسعاً أمام حرب مذهبية بين السّنة والشيعة”. وأضاف: “إن القرار الغربي الأمريكي هو قرار أساس في إكمال نار الفتنة. يمكن أن يستخدموا الجموح الإيراني في مطحنة مذهبية قذرة تقضي على الإسلام والمسلمين، وتقضي على الأمة وصمودها وبقائها لعقود من الزمن أن لم تكن قروناً”.

وفي تصريح لوكالة “فارس للأنباء” يوم الأثنين المصادف 13-2-2014، قال مسؤول لجنة الدفاع في مجلس الشورى الإيراني، إسماعيل كوثري: “أن علي خامنئي ألتقى حسن نصر الله خلال الأشهر الأولى من الثورة السورية، وأن المرشد طمأن زعيم حزب الله بأن بشار الأسد سيبقى يحكم سوريا، وأن عليه فعل ما يتوجب عليه لتحقيق ذلك”. ومن يومها يخوض “حزب الله” قتالاً لجانب قوات بشار الأسد ضد الثوار السوريين. فهل يستحق الحزب أن يضحي بأكثر من ألف قتيل بعيداً عن جبهة إسرائيل؟ وما صلة هذا القتال  بمنطق الدفاع عن “كل لبنان”؟ ولماذا يواري نصر الله الحقائق عمداً؟ إن لم يكن خطابه في مرحلة إحتضار لا يقوى على ذكر الأمور بمسمياتها الحقيقية.

أما الكلام عن الأحزاب الدينية السياسية في العراق، فحدث ولا حرج. فقد تبجحت وأعتبرت نفسها السباقة في إطلالة “الربيع العربي”. فرغم أن “حزب الدعوة الإسلامي” و “المجلس الأعلى الإسلامي” و “الحزب الإسلامي العراقي”، وبقية الجوقة الميليشاوية الطائفية من “منظمة بدر” وغيرها، قد جاءت عالقة متشبثة في بصطال المحتل الأمريكي، ومدفوعة علناً من صانعها المعمم الإيراني، لكنها لم تقدم للعراق وشعبه غير القتل الطائفي، والتهجير المناطقي، والقهر والجور، والدمار والتأخر في كافة المجالات والميادين: الخدمية والتربوية والصحية والزراعية والصناعية الخ. حتى صار الخطاب الديني السياسي في العراق لا وزن له ولا قيمة. بل أن التندر والإستخفاف بالعمائم السياسية والأحزاب الدينية المتسلطة على البلاد والعباد، صارت مألوفة ومقبولة التهكم في المجتمع العراقي.

يبدو أن نوري المالكي الحاكم منذ ثمان سنوات، قد تآكل خطابه السياسي وإضمحل شيئاً فشيئاً، كما إضمحلت وتلاشت لحيته بعد السلطة. وهذه الصورة النقيضة هي أيضاً تعبير عن حقيقة الوضع القائم للخطاب الديني السياسي في العراق، أنها مرحلة الإحتضار الحتمي جراء تناقضات وتضاربات المتأسلمين السياسيين. وإذا كانت الأحزاب الدينية السياسية في العراق هي الأسوأ والأردأ في العالمين العربي والإسلامي، فهي أيضاً صورة من صور الإسلام السياسي، وأحدى خطاباته الدالة على مرحلة الإحتضار بشكل عام.

د. عماد الدين الجبوري

كاتب وباحث عراقي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق