أثورة أم نهضة أم كلاهما معاً: حوار مفتوح مع الطيب تيزيني

المفكر السوري يوضح أن ‘ولادة ثقافة جديدة’ تُنهي غربة الفكر عن الثورات، إنما هو أمر يقع في نطاق يضم جانبين، أولهما يمتد من بدايات التاريخ الغربي الحديث، وثانيهما يمتد من نهايات التاريخ المشرقي المعيش.

تفتحُ المُقابلة الموسَّعة التي أجراها عمَّار المأمون مع المفكر العربي السُّوري محمد الطَّيب تيزيني، والمنشورة في عدد مجلة “الجديد” هذا، أفقاً للتفكير بصوت مسموع، وللشروع في إطلاق حوار مفتوح حولَ قضايا وموضوعات ومعضلاتٍ ومصطلحات ومفاهيم عديدة تتصلُ بالواقع العربي الرَّاهن ومآلاته الممكنة كمسألة رئيسة توخَّت الأسئلة المُوجَّهةُ إلى المُفَكِّر بشأنها أنْ تستجلي ما أسفرت عنه مراجعته الدَّائمة لإجاباته السَّابقة عنها من نتائجَ وخلاصاتٍ تتعلَّق إما بتشخيص هذا الواقع العربي العصيب وإدراك مُسبباته الجذرية والعوامل المُحفِّزة التي رسَّخت حُضُورَهُ، أو باستشراف آفاق تحولاته الممكنة وتحديد شرائط انتقاله من “واقع عصيب قائم” إلى “واقعٍ موائمٍ مُمْكِن”.

الإنسان الوحش أم الوحش الإنسان!

وبطبيعة الحال، فإنَّ أوَّل ما يلفتنا، كقراء مُستهدفين بالاطلاع على المقابلة ومدعوّين إلى التأمُّل بعمقٍ فيما تقدِّمه من رؤى وأفكار وخلاصات، إنما هي عبارة العنوان التي هي أقرب ما تكون إلى خلاصة جوهرية تأتي محمولةً على صوت المُفكِّر الذي ينبئنا، مؤكِّداً منذ البدء، أنَّ الزَّمن الذي نعيشه الآن هو “زمن الإنسان الوحش”، وأنَّ المسار الذي يتخذه هذا الزَّمن إنما هو مسارُ “العودة إلى ما قبلَ التَّاريخ”.

هكذا يُفصحُ العنوان عن أنَّ الزَّمن الذي نعيشه الآن في المكان العربي الذي يتجلَّى فيه حضور أنظمة الاستبداد والقهر، والأيديولوجيات الأصولية الظلامية المتطرِّفة التي تنشر الإرهاب الأعمى وتُعَمِّمُ الفساد والإفساد واستخدام العنف المُفْرِط، لم يعد يُشَكِّلُ زمناً بشرياً يُحيل هذا المكان إلى مجالٍ حيويٍّ يُحقِّقُ فيه الإنسان الحُرُّ وجوده الإنساني الفاعل في الوجود، تاريخاً وحضارةً، وإنما صارَ زمناً وحشياً تُسَتَبْدَلُ فيه هيمنةُ الإنسانِ الوحش بوجود الإنسان الإنسان، ويُسْحَبُ فيه التاريخُ الإنساني إلى أغوار الكهوف المعتمة التي كانت هي موئل الوحوش الضَّارية والإنسان المتوحش قبل انبثاق الحضارة الإنسانية التي أَذِنَ انبثاقُهَا ببزوغ فجر تاريخ الإنسان العاقل!

ولكن ما الذي أسَّس لظهور “الإنسان الوحش”، بحسب عنوان المُقابلة، أو ”الوحش الإنسان”، بحسب التعبير الذي يستخدمه المُفكِّر قبيل نهايتها، في عصرنا هذا، حيث أصبحت الإنسانية الوحشية أو الوحشية الإنسانية، أو كليهما معاً عبر تضافرهما الأيديولوجي وتفاعلهما في تجسيد منظوماتهما القيمية والسلوكية وقائعَ وَحْشِيَّةً في واقع الحياة، مكونين جوهريين للهوية التي تسمُ الزَّمن الذي يُغطي بلاد العرب، والذي سيُغطي العالم بأسره في مجرى تحوِّلٍ جديد هائلٍ سيأخذُ مداه؟

الرؤية المنهجية وإطار القراءة

هُنا، وعبر هذا السؤال المُشتق من صُلب إجابة مُوسَّعة قدَّمها المُفكِّرُ عن سؤال يتعلَّق بحاجة “مفكري التجديد والحداثة” إلى “إجراء مراجعات فكرية لرؤاهم وخطاباتهم ومصطلحاتهم وأدواتهم في ظلِّ اللحظة العاصفة”، نشرعُ في تصميم إطار نراه، من منظورٍ منهجيٍّ علميٍّ اجتماعي- تاريخي تكامليٍّ، ملائماً لقراءة الأفكار الواردة في هذه المقابلة مع المُفكِّر الفيلسوف الطَّييب تيزيني بغية استيعابها والوصول عبر تتبُّع ورودها، كلما أمكن، في كتابات سابقة له أو في تصريحات أدلى بها أو في مقابلات أجريت من قبل معه، إلى فهم أعمق لها قبل الشُّروع في مُقاربتها نقدياً ومُحاورتها على نحو يُضيئها ويسهمُ في تبيُّن ما تُفْصِحُ عنه، أو تنطوي عليه، من خلاصاتٍ، أو ما تقترحه، مباشرةً أو ضمناً، من أسئلة صُغرى أو كُبرى لا تزال تبحثُ عن إجابات.

في نطاق هذا الإطار الجامع الذي يتيحُ ربط الظواهر والأحداث التاريخية بمسبباتها الجذرية، وبالعوامل المُحفِّزة لتشكُّلها وانبثاقها، والذي لا يفصلُ، تحت أيّ دافع كان أو ذريعةٍ، هذه الظواهر والأحداث عن ترابطاتها وتفاعلاتها وامتداداتها الدَّاخلية والخارجية، الزَّمنية والمكانية، نستطيعُ مُقاربةً المُقابلة، أسئلةً وإجاباتٍ، وتقديم قراءةٍ نقديةٍ تتحرَّكُ على محاورها، وتتوخَّى، إنْ أمكن، تغطية القضايا والمعضلات الأساسية التي تطرقت لها، وذلك في ضوء إدراكٍ يلتزم مقتضيات “الرؤية المنهجية” المؤسَّسة على الجدلية المادية التاريخية التي يلتزمها ويتمترسُ بها المُفكِّر، والتي يرى، عن صوابية مُجرَّبةٍ ومؤصَّلةٍ، أنها “تُحقِّق شرائط البحث العلمي السوسيو – تاريخي”، وتتيحُ الإحاطة بأيّ موضوع يتصلُ بالظَّواهر والمسائل والقضايا المطروحة عند إخضاعه للبحث المنهجي العلمي، وذلك من ثلاثة أوجه أو جهات، أي من جهة “بنيته البسيطة أو المُركَّبة”، و”سياقه التَّاريخي المفتوح في سابقه ولاحقه”، و”وظائفه المُنكشفة والخبيئة”، حيث تتكشَّفُ تلك الأوجه، عبر التحليل العلمي ووفقَ العبارة التي ينطقها المُفكِّر نفسه، عمَّا يجعلها “ركيزةً أو ركائز من الغايات والأهداف والمعضلات وغيره”.

غير أنَّ الأمر لا يقفُ عند هذا الحدِّ، فالمفكر لا يُغفلُ، وهو بطبيعة الحال يدعونا ألا نُغفلَ، ما يتطلَّبه البحثُ العلمي، ولا سيما عند مقاربة الأحداث التَّاريخية ومنعطفات التَّحوُّل التاريخي، من لواحق ومقتضيات تتعلَّق بإنشاء الفروض الممكنة وتفحُّصها عبر التساؤل المستمر والتفكيك والتركيب والاستكشاف وإجراء المقارنات على نحو يُفضي، بالتَّضافر مع الثلاثية المنهجية المذكورة أعلاه، إلى تأسيس “عناصر القراءة المُستخدمة”، أو “القراءة المطموح إلى اكتشافها وضبطها بصيغة اصطلاحية”، أي، كما نفهم، القراءة الواجب اكتشافها وتحديد مكوناتها وآليات إعمالها منهجياً، لاستخدامها في تفحُّص تلك الأحداث والمنعطفات بما يُسهمُ في تمكيننا من اكتشاف “اللحظة المُناسبة” أو اللحظة المواتية”، التي هي “لحظة الحسم”، أي “لحظة التَّخطِّي” أو “لحظة الانتقال إلى ما يُشير إلى مرحلة جديدة” تطرح نفسها مع تبلور “حامل اجتماعي جديد بقدر أو بآخر”، وشروعه في الإعلان “عن نفسه وعن رسالته التي على المُتلقِّي أنْ يكتشفها ويُحفِّزها على الإيضاح عن نفسها”.

مُسوِّغات إبدال النَّهضة بالثورة!

ويبدو لي أنَّ السؤال الأول، الموجَّه من قبل “الجديد” إلى المُفكِّر، يومئ ضمنياً، وربما على نحوٍ خفيٍّ، إلى المراجعات النَّقدية التي كان قد أجراها في تسعينات القرن الماضي على نتاجه الفكري الناجز حتى ذلك الحين وإلى ما أسفرت عنه تلك المراجعات من خلاصات، ولا سيما الخلاصة التي تقول إنَّ “قضية الثَّورة لم تعد راهنة”، وإنَّ الخيار المُتاح أمام العرب في ظلِّ “تصدُّع البنية العربية الدَّاخلية” وبدء مرحلة “النفط السياسي” التي أنهت “مظاهر التَّقدم العربي النسبية” واحتجزت التَّطور إذْ حصرته في “نمط تطور تحكمه آليات مجتمع استهلاكي” غير منتج وغير خلَّاق، إنما تتركَّزُ في “مشروع نهضويٍّ تنويري” يفتحُ “الحُطَامَ العربيَّ”، إنْ وُجدَ من هو قادرٌ على فتحه، على إمكانية تأسيس حالة جديَّةٍ من حالات تلقي التَّقدم والشروع في التَّطور التدريجيِّ إلى الأمام، وذلك عوضاً عن إبقاء هذا الحطام مُغلقاً على نفسه كدائرةٍ هشَّةٍ يكتشفها الأغيار فيقدمون، إذْ يُدركون تماماً أنها قابلة للفتح، على فتحها، وذلك على غرار ما حدث، فيما بعد، مع سقوط بغداد في أبريل (نيسان) 2003 أمام الغزو الأمريكي، وبصورةٍ تقاربُ ما كان المُفكِّر الطيب تيزيني نفسه قد حذَّر من إمكانية وقوعه قبل نحو ستة أعوام من ذلك السُّقوط!

ولأنَّ المُفكِّر هو نفسه مؤلِّف الكتاب الموسوعي اللافت “من التُّراث إلى الثَّورة” الصَّادر في طبعته الأولى في العام 1976، فإنَّ تحوُّله، ولو إلى حين، عن فكرة الثَّورة إلى فكرة النَّهضة كـ”وسيلة تغيير” تُحدث الانتقال من الوضع العربي الحُطامي الفاسد إلى وضع جديد تستقبل معه المجتمعاتُ العربيةُ التَّقدُّمَ وتنفتح فيه على صيرورة تطورية حضارية، وهو التحوُّل الذي جاء في سياق انتقال المُفكِّر إلى المرحلة الثانية في تطوُّر فكره الفلسفي والسياسي، فإنَّ التَّعرُّف على مُسوِّغات هذا الإبدال يكتسب أهمية فائقة، ولا سيما مع تأصُّل الوعيَ لدينا، ولدى غيرنا من الباحثين والدَّارسين والقُرَّاء وجمهور المثقفين، بفكرة أنَّ النَّهضة، كمشروع تنويريٍّ متداخل ومتكامل وشامل ومتعدِّد الأوجه ومتنوَّع الحقول والمجالات، إنما هي مُحصلة أو نتيجة أو غاية تؤصِّلها معارف ورؤى وتبصُّرات فكرية ونظرية تنويرية، ويُتوصَّلُ إليها عبر، أو هي تأتي محمولةً على، ثورة تتضمَّن سياقاتها سلسلة أفعالٍ وتحركاتٍ ومساراتٍ ثوريةٍ متنوعة الحقول والمجالات، وليست هي، في حدِّ ذاتها، وسيلة لتحقيق نفسها وغاياتها، فهل يُمكن للوسيلة والغاية أنْ يتطابقا في مفهوم النَّهضة المُستبدل لدى المُفكِّر الطيب تيزيني بمفهوم الثورة؟ وكيف يُمكن التَّخلِّي عن الوسيلة التي يُمْكِّن لإعمالها أن يُسهم في تحقيق الغاية المرجوَّة، والاستمرار في الوقت نفسه بالحلم في إمكانية تحقيقها بلا وسيلة، ومن دون عبور أيّ طريق قد يُفضي إليها؟

ثمَّ ما نوع المنطق الذي يُمكن إعماله لتسويغ هذا التَّحوُّل الاستراتيجي، وللتعامل مع ما سيسفرُ عنه من نتائج وخلاصات وتوجُّهاتٍ ومسارات فكرية وعملية، أمام العقل المُكتنز بمعارف ومكونات ومعطيات وحيثيات تتصلُ بتجليات متنوِّعة لتجارب نهضوية تاريخية ناجحة استندت على الثورة بمعناها الواسع، غير القائم بالضَّرورة على استخدام السلاح أو على إعمال العنف المفرط، غير التَّمييزي، وغير المُسوَّغ من قبل القانون الدَّولي الإنساني، لإحداث النهضة بمعناها الحضاري الإنساني المتنوِّع، الشامل والعميق؟ ثمَّ هل يُمكن لغاية أنْ تتحقَّق بوسيلة من غير نوعها وتُجافي طبيعتها، أوليست النَّهضة، في مفهومها الواسع والعميق، فكرة تنويرية ومسارا ثوريا أصلاً؟!

متكررات مُصطلحي “الثورة” و”النَّهضة

على امتداد المقابلة موضع المناقشة، ترد كلمة “ثورة” على لسان المُفكِّر، أو بقلمه، في موضعين، يأتي أولهما في سياق ضبط المُصطلح الملائم لتوصيف الحراك الشَّعبي الذي يجري في سوريا منذ مارس 2011 ولتوقُّع تحولاته ومآلاتها، ويأتي ثانيهما في سياق الإجابة عن سؤال يتعلَّق بمدى دقة “القول إنَّ هناك ثقافة جديدة في طور الولادة” أو القول إنَّ “الانتفاضات العربية ما هي إلا تمزقاتٍ لا واعية ما يزال الفكر لم يُضئ عليها لكونه لم ينخرط فيها”، والتساؤل تالياً، عمَّ إذا كانت الغربة القائمة بين الفكر والثَّورات هي غربة مُستحقَّة؟ وعمَّ إذا كانت “النتائج هنا وهناك ستكون وخيمة؟”.

في الموضع الأول، وعبر السياق المُشار إليه أعلاه، يقولُ المُفكِّر “إنَّ تحول الانتفاضة إلى ثورة تحتمل الإطاحة بما قد يُوصل إلى القول بـ”انتفاضة الحرامية” على حد تعبير الرئيس المصري الأسبق أنور السَّادات، من طرف، كما يُمكن التأسيس لحركة سياسية مدنية ووطنية قد تكون مُقدِّمة لتأسيس مجتمع ديمقراطي تنويري يحرص على مبدأ التداول السلمي للسلطة ضمن نظام سياسي برلماني (ليس رئاسياً)، يُطيحُ باحتمالات النزاعات الدينية والإثنية والطائفية مع الحفاظ على الهوية العربية التنويرية الديمقراطية”.

وفي الموضع الثاني، وعبر السياق المُشار إليه أعلاهُ أيضاً، يُوضِّح المُفكِّر أنَّ “ولادة ثقافة جديدة” تُنهي غربة الفكر عن الثورات، إنما هو أمرٌ يقع في نطاق يضمُّ جانبين، أولهما يمتدُّ من بدايات التَّاريخ الغربي الحديث، وثانيهما يمتدُّ من نهايات التاريخ المشرقي المعيش ولا سيما في بعده الإسلامي الشرقي العربي، وهو إلى ذلك أمرٌ مشروطٌ بتحقيق ما يُسميِّه بـ “تحوُّلٍ عميقٍ في الشَّق الثَّاني العربي الإسلامي، إذْ في هذه الحال يُمكن إنجاز الأمر في سياق ثورة تجتاح العالم المذكور بصيغة إسقاط العوائق والكوابح من حقلين اثنين، واحد تاريخي يتصدَّى للإبستيمولوجيا التَّاريخية، وآخر يضع يده على ما قد يتبلور ويبرز من أسئلةٍ يطرحها الواقع العربي والعالمي الرَّاهن، وهنا تنتهي المسألة كما تنتهي”.

ومع أننا توخينا إيراد المقتبسين السَّابقين على نحو لا يُخِلُّ بالسِّياق الذي وردت فيه كلمة الـ”ثورة” وفق مفهومها الاصطلاحي المعهود، وهو المفهوم الذي نأملُ ألا يكون هو ما يدعو المُفكِّر إلى استبدال مصطلح الـ”نهضة” به، وذلك لمسوغات لم ترد بوضوحٍ كاف في هذه المقابلة، فإنَّ تفادي الخروج عن سياق المناقشة التي نتوخَّاها في هذا الموضع، يجعلنا نوجز الإشارة إلى تكرار ورود الصَّفة “الثَّوري” أو “الثَّورية” إحدى عشرة مرَّة على لسان المُفكِّر، أو بقلمه، في سياق إجاباته عن أسئلة المقابلة، وذلك على النَّحو التَّالي “الأفكار الإصلاحية والثَّورية”، “الأفكار الثورية الماركسية والأخرى القومية العربية”، “الشِّعارات الثَّورية التي تحوَّلت لاحقاً إلى مُطالبة بإسقاط النِّظام”، “الفعل الثَّوري السِّلمي”، “إنتاج خطاب ثوري وإدغامه وظيفياً”، “مُعادلة زائفة لفَّقت بين الثَّورية والسِّلاح”، “حتَّى إذا استعدنا تجارب ثورية من العالم”، “التماهي بين الفعل الثَّوري وبين العنف”، “إنتاج الخطاب الثَّوري وممارسته ضمن مؤسَّسات”، “التَّجارب السياسية الثَّورية”، أو توصيف الحراك الشعبي القائم في بعض بلاد العرب بأنه “ثورات” وذلك في عبارة “الانتقال إلى ما بعد الثورات القائمة”، وفي عبارة “وتحت تأثير الثورات والانتفاضات”.

أما الأسئلة الموجَّهة من قبل مجلة “الجديد”، فقد تضمَّنت خمسة مُتكررات لهذه الصِّفة “الفعل الثَّوري”، “العمل الثَّوري السِّلمي”، “الخطاب الثَّوري”، “الأفعال الثَّورية”، “الحراك الثَّوري”، كما تضمَّنت أربع إشارات تُوَصِّفُ ما يجري من حراك شعبي في بعض بلاد العرب بأنه “ثورات”: “الثورات – التَّغييرات التي تحدث”، “مرحلة ما بعد الثورات”، “في البلدان التي شهدت الثورات”، “الغربة بينه – أي الفكر- وبين الثورات”.

وفي مقابل هذه المُتكرِّرات، نجد أنَّ مصطلح “النَّهضة”، مُعرَّفاً أو مُنكراً أو مُضافاً أو في أيّ صيغة أخرى، لم يأتِ على لسان المُفكِّر أو بقلمه، في سياق إجاباته عن الأسئلة الموجهة إليه، حتَّى ولو لمرة واحدة! بينما تكرَّر ورود هذا المًصطلح في ثنايا تقديم المقابلة أو عبر أسئلتها ثلاث مرَّات فحسب، ففي التقديم وردت عبارة “النَّهضة العربية” وذلك في سياق الإشارة إلى كون هذه النَّهضة واحدة من القضايا الأساسية التي تناولتها مؤلفات المُفكِّر وكتاباته منذ سبعينات القرن الماضي، وفي السَّؤال الأول، وردت عبارة “مفهوم النَّهضة العربية وعواملها”، كما وردت كلمة “نهضة” في سياق التَّساؤل عمَّ إذا كان ما تشهده المنطقة العربية منذ خمس سنوات يمثِّل “اللحظة المُناسبة” لإطلاق مشروع نهضوي عربي، أو إن كان ما يجري في الواقع هو “نهضة” بالفعل!

وإنَّه لأمرٌ لافت في ظلِّ دعوته إلى استبدال النَّهضة بالثورة ألا ترد كلمة “النَّهضة” في إجابات المُفكِّر عن الأسئلة الموجَّهة إليه، ولا سيما إجاباته عن الأسئلة التي تستدعي مثل هذا الورود لكونها تتركَّزُ، أساساً ومباشرةً، على مسألة “النّهضة العربية” في ارتباط بما تشهده “المنطقة العربية” منذ ما يربو على السنوات الخمس (السؤال الأول)، وعلى مُقاربة جوانب تاريخية واجتماعية وسياسية وفكرية وثقافية عديدة عبر التساؤل المستمر، المُباشر وغير المباشر أحياناً، في جميع الأسئلة، عن إمكانية إطلاق “مشروع نهضة عربية تنويرية” في مقابل المشاريع (المحليَّة والإقليمية والدَّولية) البديلة التي لن تأخذ أغلب العرب إلا إلى غير ما ينشدونه ويتطلَّعون إليه!

أثورة أم نهضةٌ أم مشروعٌ مُدمج؟

ومع ذلك، ولأنَّ المُفكِّر قد راوغ السائل ولم يُجب بوضوحٍ كاف عن السؤال بشأن مُسوِّغات استبدال النَّهضة بالثَّورة، وعمَّ إذا كان ما تشهده المنطقة العربية الآن هو “اللحظة المُناسبة” لإطلاق مشروع هذه النَّهضة، أم أنَّ ما يجري هو في حدِّ ذاتة “نهضة”، فإننا نستطيع اقتناص الجواب وإعادة تركيبه عبر تجميع مكوناته من ثنايا إجابات المُفكِّر عن أسئلة أخرى وردت في المقابلة نفسها، أو من خلال استرجاع إجابات المُفكِّر عن أسئلة مماثلة، بل وربما مُطابقة، وردت في مقابلات سابقة أجريت معه.

في مقابلة أجراها إبراهيم العريس مع المُفكِّر طيب تيزيني لجريدة الحياة، ونشرت في 17 أبريل العام 2006، وفي سياق تساؤله عن مدى استمرار صلاحية عنوان كتابه “من التُّراث إلى الثَّورة”، ولا سيما “بعدما تفكَّكت أفكار كثيرة وتفكَّك الاتحاد السوفييتي والأفكار التي كانت مهيمنة في ذلك الحين على فكر تقدُّمي مُهيمن في السَّاحة العربية”.

يقول المُفكِّر “بعد رصد ما حدث والتَّطورات المتلاحقة، وضعت يدي على مسألة أظنُّ، الآن، أنها كانت، بالنِّسبة إليَّ، مدخلاً لإنجاز ما عليَّ أنْ أُنجزه مُجدَّداً؛ فكلمة “الثورة” الواردة في العنوان لم تعد ذات وجود، بصرف النَّظر عن التسويغات التي يُمكن أنْ تُقدَّم. لغة العصر لم تعد تتسع لهذه الكلمة.ومن هنا رحتُ أُفكِّر في كتابي، من ثمّ انطلقت من الواقع إلى الكتاب، ثُمَّ من الكتاب إلى الواقع.. وفهمتُ أنَّ مشروع الثَّورة ذاته بات يعيش اختناقاً قاتلاً. من هنا، ومن خلال قراءاتي الدَّؤوبة في الفكرين العربي والأوروبي، أدركتُ ما يُخَيَّلُ (هكذا) إليَّ أنه البديل المُناسب لمفهوم الثَّورة ومشروعها، وهو مفهوم النَّهضة ومشروعها”.

وفي المقابلة نفسها، وبعد سطرين فحسب من قول هذا الكلام القاطع الذي يستبدلُ “مفهوم النَّهضة ومشروعها” بـ “مفهوم الثَّورة ومشروعها”، وعقب إشارة من قبل المحاور (إبراهيم العريس) إلى أنَّ كلا المشروعين كانا موجودين منذُ أواسط القرن التاسع عشر، نقرأ، على لسان المُفكِّر نفسه، ما يُشير إلى أنه يدمج كلا المشروعين معاً، ولا يستبدل واحدهما بالآخر، فنكون إزاء مشروع واحد هو ، بحسب المصطلح الذي يستخدمه المُفكِّر، “مشروع الثَّورة والنَّهضة” الذي هو “الثَّورة الحقيقية”، وذلك بحسب توضيح المُفكِّر لما يعنيه بهذا المصطلح عبر قوله “وأعني هنا الثَّورة الحقيقية”. وفي توضيحه لأهم عنصر من عناصر “مشروع الثَّورة والنَّهضة” الذي يجعل من كلا المشروعين، كما هو واضح هنا، مشروعاً مُدْمَجَاً ومُتَضَافِراً، وبعد تأكيده صحة ملاحظة مُحَاوره عن حضور كلا المشروعين، وتعقيبه على ذلك بالقول “لكننا كنَّا ساهين عنهما”، يتابع المُفكِّر القول “إنَّ أهم عنصر من عناصر مشروع الثَّورة والنَّهضة (وأعني هنا الثَّورة الحقيقية)، إنما يتمثَّل في فهم كينونة الحامل الاجتماعي لأيّ ثورة أو نهضة، وهكذا فكَّرتُ مليَّاً في الأمر حتَّى توصَّلتُ إلى أنَّ الحامل الاجتماعي لأيّ تحرُّك في المجتمع العربي هو المجتمع ذاته.. المجتمع كُلُّه.

بدلاً منه كُنَّا في الماضي نعتبر الحامل الاجتماعي حاملاً طبقياً ونتحدَّث عن الصِّراع الطبقي والإشكالية الطَّبقية، هذا ليس وارداً الآن. حامل المشروع الجديد، النَّهضوي (لاحظ حذف صفة الثَّوري عن “المشروع الجديد” وإبقاء صفة النَّهضوي فحسب، وهذا جيّد في ضوء التَّوضيح الذي قدَّمناه للتَّو بشأن اعتبار الثورة وسيلة لتحقيق هدف كبير أو غاية تغييرية شاملة، ولكنه غير جيّد إنْ توخَّى الفصل والإقصاء والأخذ والترك – ع ب)، لا يُمكن إلا أن يكون تحالفاً طبقياً أو سياسياً يضمُّ كُلَّ فئات المجتمع. العالم اختلف كثيراً، مُنْذُ تفكُّك الاتحاد السوفييتي وبروز عالم جديد تقوده الولايات المتحدة وحدها. وتبيَّن لي من موقع علم الاجتماع السياسي أنَّ الحامل الحقيقي الاجتماعي لمشروع نهضويٍّ ما يتمثَّل في الأمة كُلِّها من أقصاها إلى أقصاها.

وبتحديد أيديولوجي أكثر، وجدتُ أنَّ الحامل الاجتماعي لأيّ مشروع مُسْتَقْبَلِيٍّ (لاحظ غياب التوصيفين “نهضوي” و”ثوري” واستبدال النَّعت “مُسْتَقْبَلِي” بهما – ع ب) يتمثَّل في مروحة تنطلق من أقصى اليمين القومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني. أخذتُ أُلاحق هذه المسألة السوسيولوجية الثقافية والسياسية ليتبيَّن لي أنَّ حديثنا عن “المشروع الثَّوري”، ليس مُضلِّلاً فقط، بل هو خطير جداً، وهكذا انتقلتُ إلى الموقف الجديد، وفكَّرتُ في أنْ أُعيد النَّظر في مشروعي النَّظري القديم.. وأصوغه حتَّى في عنوان جديد، مُعيداً بناء ما يتعيَّن عليَّ بناءه، ثمَّ تركته جانباً لأصوغ بدلاً منه مشروعاً آخر تماماً عنوانه (من التُّراث إلى النَّهضة)”.

وفي سياق مُقابلةٍ أخرى، أجرتها قناة الجزيرة الفضائية (برنامج “لقاء اليوم”، بتاريخ السابع من أغسطس 2011) مع المُفكِّر، يطرح محاوره (الحبيب الغريبي) عليه سؤالاً استيضاحياً فرضته فحوى إجابته “المراوغة قليلاً”، بحسب تقدير المُحَاوِر، عن سؤال سابق، يقول السُّوال “قلتَ إنَّ مفهوم الثَّورة كلمة لا وجود لها أصلاً وإنَّ المشروع الثَّوري لا يُمكن الحديث عنه مُقابل، ربما، المشروع النَّهضوي، أنت هُنا تُحاول أنْ تُوجد العلاقة الفارقة (هكذا) بين الاثنين، يعني هل ما زلتَ عند هذا الرَّأي؟ فيجيب المُفكِّر قائلاً “لم أقل بنفي مفهوم الثَّورة وحال الثَّورة” وإنما قُلْتُ “إنَّ قضية الثَّورة لم تعد راهنة”، ثمَّ يشرع في توضيح سياق ومُسوِّغات هذه الخلاصة التي توصَّل إليها استناداً إلى مراجعات نقدية استهدفت كل نتاجه الفكري السابق لانهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية الذي وقع، بحسب تقديره، بسبب “توغل وتغوُّل البيروقراطية الهائلة” وتأسيس المجتمع وفق مبدأ الأحادية” وذلك بالرَّغم من تعدديته.

المشروع النَّهضوي واللَّحظة المناسبة

وفي تعامله مع السُّؤال المُتكرِّر في جميع المُقابلات، بصيغ مُتماثلة وربما متطابقة أحياناً، بشأن ما إذا كان لا يزال عند قول سابق صدر عنه مؤداه أنَّ اللحظة الرَّاهنة مواتية لقيام مشروع نهضوي، وبشأن ما إذا كان يعتقدُ أنَّ مثل هذا المشروع قابلٌ لأن يُولد الآن، أي عقب اندلاع الانتفاضات الشَّعبية في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن أو ما سُمِّي، وربما بلا مُسوِّغٍ معقولٍ، بـ”الربيع العربي”، نجد أنَّ المُفكِّر يتفادى تقديم إجابة مباشرة وواضحة أو حتَّى ضمنية عن السُّؤال، وذلك بالشُّروع في الكلام على واقع آخر (الاتحاد السوفييتي وبلغاريا) إلى حدِّ نسيان مبتغى السؤال، حيث لا نعثر على جوابٍ عنه، وإنْ عثرنا على بعض جواب فإننا لا نجده إلا مبتسراً، أو ربما احتمالياً مُراوغاً يُقَدَّم في صيغة فرض يستوجب التَّفَحُّص عبر الشُّروع في البحث عن جواب لسؤال لم يجب المُفَكِّرُ عنه! هكذا كانت الحال في المقابلة التي أُجْرِيت معه في العام 2011، وذلك على الرَّغم من أنَّ السؤال قد أراد التأكًّد من دقة نسبة وصوابية قول سابق ورد على لسانه مؤداه أنَّ “اللحظة الرَّاهنة مواتية لقيام مشروع نهضوي عربي”، كما أراد معرفة ما إذا كان المُفكِّرُ لا يزال يعتقدُ فعلاً أنَّ هذا المشروع قابل لأن يُولد الآن، فما كانت خلاصة الجواب إلا الإشارة إلى جدِّية الحالة فحسب، وذلك بالقول “ظللتُ أنتظر هذه المسألة (أي مسألة فتح الحطام العربي) حتَّى أتت منذ عدد من الأشهر، يعني عموماً الحطام المفتوح فُتِحَ (هكذا)، الحطام المُغلق فُتِحَ عبر حالة جدِّية”. أما جواب السؤال نفسه بعد نحو أربعة أعوام، فيردُ في المقابلة المنشورة في هذا العدد من الجديد على النَّحو التالي:

“لا شكَّ أنَّ ما انطلق من تونس وسوريا منذ أكثر من أربعة أعوام، ظهر بمثابة (لحظة ما مُناسبة) من تحوُّلٍ ما لبثت رموزه وشعاراته وحيثياته تُفصح عن نفسها، وتُعلن أنَّها مُستقدمة من مستقبل ما، فالعمل والكرامة كلاهما ظهرا تعبيراً مأساوياً عن أنَّ الإنسان المجرَّد من الكرامة والعمل إنما هو شمعة في حال النَّوسان والذُّبول، لكن في نمط من النَّوسان الذي يُؤدي رسالة.”

وإذْ تهيئنا الكلمات الأخيرة الواردة في المقتبس أعلاه إلى توليد توقع ينتظرُ تعرُّف فحوى الرِّسالة التي يبثها “الإنسان المُجرَّد من الكرامة والعمل” بوصفه “شَمعة في نمطٍ من النَّوسان الذي يؤدي رسالة”، وإلى تعرُّف طبيعة هذا النَّمط من النَّوسان الذي يتيح للنائسين تأدية رسالة ما في زمن “الحطام العربي المغلق” الذي تمَّ فتحه وفق تأكيد المُفَكِّر، وإلى معرفة مسوِّغات اعتبار أنَّ ما انطلق من تونس وسوريا قد ظهر “بمثابة لحظة ما مناسبة” نجدُ أنَّ الفقرة التالية مباشرة تغلق أبواب الانتظار وتحبط التَّوقع إذْ تؤكِّد أنَّ “التراكم في مظاهر الاحتجاج على غياب الكرامة والعمل” قد قوبل بـ”تعاظم في تراكم المزبلة”، أي بترسيخ حضور “قانون الاستبداد الرُّباعي” وتعزيز هيمنته وفاعليته في نسيج المجتمعات العربية مستأثراً لأصحابه بالسلطة والثروة والإعلام والمرجعية المجتمعية، وإذْ تخلص، تأسيساً على ذلك، إلى تأكيد أنَّ “عملية التَّمرُّد على الواقع المعيشي” قد جاءت “أقلَّ من أنْ تُحدث قطيعة مع الماضي المُدجَّج بالمذلة والمهانة والإفقار والاغتراب، وأضعف من أنْ تُواجه الحاضر بترسانته ذات الجذر المُتمكِّن في قانون الاستبداد الرُّباعي ذاك”. ولعلنا في ضوء هذه الخلاصات المطابقة لواقع حال الواقع القائم الآن في بلاد العرب، نكتشف، في ضوء ما نفهمه من توضيحات المُفكر الواضحة وخلاصاته القابلة للفهم، أنَّ تلك لم تكن “لحظة ما مناسبة”، كما أنها لم تكن “لحظة مواتيةً لقيام مشروع نهضويٍّ” وإنْ بدتْ كذلك! كما نكتشف أنَّ مثل هذا المشروع النَّهضوي غير “قابل لأنْ يُولد الآن”.

ما الثَّورة؟ وما النَّهضة؟

وفي مواجهة هذا الالتباس المُربك في تحليل عنصر مهم أو جملة عناصر من عناصر الواقع المُعْطَى أو في تسويغ الأفكار والخلاصات النَّاجمة عنه، وفي سياق السَّعي لتفسير الاضطراب الحاصل في صوغ هذه الأفكار والخلاصات وتسويغ الأخذ بها مرَّةً أو تبرير الحاجة إلى التَّحول عنها مرَّةً أخرى، أو الدَّعوة إليها ثم الإلحاح على ضرورة التَّخلي عنها وتركها لخطورتها، فإننا نجدُ أنَّ أيّ محاولة لاكتشاف المسبِّب الرَّئيس لحدوث كُلِّ ذلك، من منظور اصطلاحي ومنهجي، إنما يقترحُ علينا، بادئ ذي بدء، أنْ نُسائلَ مُصطلحي “الثورة” و”النَّهضة”، وردائفهما، وأي مصطلحين آخرين متحوِّلين عنهما أو يرتبطان بهما على نحو مباشر أو ضمنيٍّ، عن مفهوميهما اللَّذين يتبناهُما المُفكِّر ويؤسِّس عليهما استنتاجاته وخلاصاته، وعن مدى تطابق أو تباين أو تحوُّل هذين المفهومين في جميع السِّياقات التي وردا فيها في ثنايا مؤلفاته وكتاباته ودراساته وبحوثه، وعبر إجاباته عن الأسئلة الموجَّهة إليه في إطار مقابلاته المتعدِّدة، ذات السياقات الزَّمنية المتباينة، مع وسائل الإعلام العربية والأجنبية مختلفة التوجهات والميول والغايات.

وبطبيعة الحال، فإنَّ هذا المقترح غير قابل للإنجاز من قبل كاتب هذه السطور في نطاق المُحاورة الرَّاهنة مع المقابلة المنشورة في هذا العدد من “الجديد”، وذلك لأن إنجازه، إنْ أُريد له أنْ يتأسَّس على منهجية علمية دقيقة وصارمة، إنما يتطلَّبُ المزيد من الوقت الذي لا يتيحه الوقت المُعطى لإنجاز هذه المحاورة، كما يتطلَّب عودة للاطِّلاع الموسَّع، الشامل والمُعمَّق، على إنتاج المُفكِّر بأسره، وفق قصدية واعية تتوخَّي تعرُّف سياقات تولُّد الأفكار والمصطلحات والمفاهيم وتطورها، كما تتوخَّى الحصولَ، عبر الاستقراء العلمي المنهجي، على المعلومات والمعطيات والحيثياث التي يتوافر عليها هذا الإنتاج، والتي سيكون لها أنْ تُسهم، عبر إخضاعها للإجراءات المنهجية الملائمة، في تحديد مسارات تلك المُساءلة وإملاء أوجهها العديدة على نحو يُفضي إلى توليد نتائج مُسَوَّغة واستنباط خلاصاتٍ مُؤصَّلة. ولعلنا نتهيأ، أو يتهيأ غيرنا، في مقبل الزَّمن القريب، لفعل ذلك.

ومع ذلك، فإننا نستطيعُ، الآن، أنْ نتقدَّم بفرضٍ أوَّلي بشأن المُسَبِّب الرئيس لوقوع ذلك الالتباس المربك والاضطراب المُخلِّ اللَّذين أفضيا إلى وقوع تباين في الخيارات استند إلى جعل الثَّورة نقيضاً للنَّهضة، فأسَّس الدَّعوة إلى الأخذ بالثانية على ضرورة ترك الأولى، مُتَصوِّراً أنَّ في الذَّهاب إلى الأولى مُغادرة لمجال الثانية ونأياً غير حميدٍ عن آفاقها، وذلك على نحو وضع المُصطلحين في صيغة ثنائية متناقضة تناقض الشَّر والخير، الخطورة والأمان، العدم والوجود، الاختناق والتَّنفُّس، الضَّلال والهدى، الكذب والصِّدق، إلى منتهى ذلك!

ولعلَّ لهذا الفَرض الأَوَّلي الذي يُمْكِنُ تأسيسه على قراءة مُقَاربة المُفكِّر الطيب تيزيني لكلِّ من الثَّورة والنَّهضة، وعلى ما أطلقه على “الثَّورة” أو على ما أسماه “المشروع الثوري” من صفات أوردناها أعلاه في سياقات عديدة، أنْ يذهبَ إلى افتراض وجود طائفة من الحيثيات والعوامل والدَّواعي التي جعلت من فكرة “الثورة” والدَّعوة إلى إعمالها لإحداث التَّغيير المرجوّ وتحقيق الانتقال من الواقع المرفوض القائم الآن في بلاد العرب إلى الواقع الممكن المراد جعله واقعاً قائماً، أمراً قبيحاً ممجوجاً، وبالتَّالي مرفوضاً.

مُسوِّعات رفض “الثَّورة” كوسيلة تغيير!

يمكننا، ابتداءً، إيجاز أبرز حيثيات هذا الرَّفض وعوامله التي نقع عليها مُتَضَمَّنَةً في خلاصات الطيب تيزيني الواردة في نصوص المقابلات الثلاث التي نتناولها هنا، وذلك بإضاءة ما ورد فيها من جمل وعبارات اتَّخذت لنفسها منحيين، فتلبَّست، في المنحى الأول، صيغة التأكيد القطعي المباشر والحاسم الذي يقولُ جازماً إنَّ “كلمة الثَّورة لم تعد ذات وجود” وإنَّ “لغة العصر لم تعد تتسع لهذه الكلمة” وإنَّ “مشروع الثَّورة بات يعيشُ اختناقاً قاتلاً” وإنَّ “حديثنا عن المشروع الثوري ليس مُضَلِّلاً فقط، بل هو خطيرٌ جداً”. وفي المنحى الثَّاني، بدا الأمر وكأنَّ الأحكام القطعية والخلاصات الحاسمة المحمولة على العبارات والجمل السَّابقة قد رسّخت في وعي النَّاس ليس لأي سبب إلا رسوخ الممارسات الممقوتة والانتهاكات الصَّارخة لحقوق الإنسان التي عزَّزت، من دون أيّ تفحُّصٍ عميق وتحت وطأة الترويج الإعلامي والسياسي المتقصَّد من قبل قوى بعينها، ارتباط الثورة بالعنف والإرهاب والتطرُّف على نحو جعل من الثورة والعنف والإرهاب والتَّطرُّف مرايا متناظرة على مستويى الوعي العالمي العام والاصطلاح المفهومي في آن معاً! ولعلنا في هذا الضَّوء نفهم محفِّزات القول “إنَّ لغة العصر لم تعد تتسع لهذه الكلمة” أو القول إنَّ “كلمة الثَّورة لم تعد ذات وجود”، أو ما ماثل ذلك من تأكيدات قاطعة!

وعلى الرَّغم من تلك التأكيدات القاطعة، الرَّافضة لفكرة الثَّورة على نحوٍ ابتدائيٍّ مُتَعَجِّلٍّ هو أقربُ ما يكون إلى ردَّة فعلٍ تتأسَّس إما على رفض وإدانة الممارسات “الثَّورية” العنفية والانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان التي اقترفها ثائرون في ثورات عديدة، أو على تسويغات أخرى غير مؤصَّلة لاستبدال النَّهضة بالثورة، فإننا نجد أنَّ المُفكِّر الطَّيب تيزيني يؤكِّد في نهاية مقابلته مع “الجديد” ما يُعزِّز الحاجة إلى الثورة وذلك بالقول إنَّ “ثورة تجتاح العالم المذكور بصيغة إسقاط العوائق والكوابح من حقلين اثنين، واحد يتصدَّى للإبستيمولوجيا التاريخية، وآخر يضع يده على ما قد يتبلور ويبرز من أسئلة يطرحها الواقع العربي والعالمي الرَّاهن” هي وحدها القادرة على إنتاج ثقافة جديدة تتكفَّلُ بإنهاء غربة الفكر عن الثورات، وذلك شريطةَ أنْ تبدأ هذه الثورة بإرساء تحوُّل عميق في المجال العربي الإسلامي وأن تواصل السَّير على الخط الممتدِّ من بدايات التاريخ الغربي الحديث ونهايات التاريخ المشرقي المعيش ولا سيما في بعده الإسلامي الشرقي العربي”.

الثَّورة والثَّقافة وتغيير العالم

هكذا نجدُ أنَّ تشخيص المُفكِّر لواقع الحال العربي والإسلامي والعالمي المُزري إنسانياً، والواردة ملامحه العامة وخلاصاته الأساسية في المقابلة المنشورة هنا في هذا العدد من “الجديد”، قد دفعه إلى طلب الثَّورة وسيلةً ليس لفتح الحطام العربي على مآلاته الممكنة ولتغيير الواقع العربي الإسلامي الممعن في التَّخلُّف فحسب، بل أيضاً، وفي سياق متَّصل، وسيلةً لتغيير العالم بأسره عبر فتح جميع دوائره المغلقة على مآلاتها الممكنة لـ”تنتهي المسألة كما تنتهي!”.

هُنا تتبدَّى الثَّورة وسيلةً لتغيير نهضويٍّ تنويريٍّ، حضاريٍّ وإنسانيٍّ، ورافعةً له، دائماً وفي كلِّ حال، وهنا تتبدَّى الثَّقافة الجديدة النَّاجمة عن الثَّورة والمتفاعلة معها، رافعةً أخرى تُواكبُ الثَّورة وتتضافر معها إذْ تُنْهِضُهَا وتَنْهَضُ بها ومعها، وإذْ تُحْدِثُ تحولاً عميقاً في بنية الفكر العربي والإسلامي على نحو يُنهض الثَّورة المنشودة، ويُرسِّخُ فاعليتها ويوسِّع نطاق حضورها لتشمل العالم بأسره، فتغيره إذْ تنفتحُ عليه وإذْ تسهم بقسطها في إنهاض نهضته الإنسانية الشَّاملة التي هي غايتها كثورة إنسانية شاملة لا تأتي، في تقدير المُفكِّر الذي نشاركه إياه، إلا مسبوقة بثورة مشرقية عربية وإسلامية تكون توطئةً لها إذْ تُحْدِثُ ذلك التَّحوُّل النَّهضوي العميق في المشرق العربي الإسلامي وفي تاريخه المعيش!

ولئن كان لنا أنْ نذهبَ، ونحنُ محمَّلين بفحوى التوضيحات التي أوردناها من قبلُ ومؤكِّدِينَهَا، إلى الإسهام في إلقاء مزيد من الضَّوء على دواعي التَّعجُّل غير المُسَوَّغ إلى الدَّعوة إلى إبدال النَّهضة بالثَّورة واستبدال المشروع النَّهضوي بما سُمِّي بالمشروع الثَّوري، فإنَّ أوَّل ما تنبغي الإشارة إليه في هذا السِّياق، إنما يتركَّز في أمرين، أولهما سعي “أنظمة “الاستبداد الرُّباعي” التي أنتجت “الدُّول الأمنية” أو “دول الملفات الأمنية”، بحسب توصيفات الطَّيب تيزيني نفسه لأنظمة الاستبداد التي تقنَّعت بالثَّورة والمشروع الثَّوري، إلى تأبيد “الثَّورة” و”المشروع الثَّوري” بوصفهما قناعين ضرورين وملائمين تماماً لترسيخ حضور هذه الأنظمة وتأبيده، سواء على المستوى الأيديولوجي الاستبدادي أو على مستوى الواقع الاجتماعي المستهدفِ؛ بُنيةً ونسيجاً وقوىً حيَّة فاعلة، بالتَّفتيت والتَّشظية، من جهة أولى، ولتغطية استراتيجياتها الراسخة ذات الخطط التنفيذية متبدلة الأساليب ”والتكتيكات” والمرتكزة، دائماً وأبداً، على إبدال الاستمرار في الحكم إلى زمن مؤبَّدٍ بأيّ مشروع نهضويٍّ جادٍّ وحقيقي وممكن التحقيق، من جهة ثانية.

مُسوِّغاتٌ باطلةٌ ووعيٌ زائف

ولعلَّ رفض وإدانة توظيف واستخدام أنظمة الاستبداد والقهر المُقنَّعة، زوراً، بالثَّورة والمشروع الثَّوري النَّهضوي، كل ما كان بوسعها توظيفه واستخدامه من وسائل عنفٍ وإرهابٍ، قهريِّين وإكراهيين، لتحقيق تلك الاستراتيجية غير الوطنية، وغير الثَّورية، وغير النَّهضوية، وغير الإنسانية، ولا سيما الوسيلة المزدوجة الموجَّهة إلى المجتمع المحكوم بالاستبداد والقهر والتي يتجسَّد طرفاها في إعمال العنف إلى حدِّه الأقصى غير المسبوق، وتوظيف آليات التفتيت والإفساد المجتمعي إلى أقصى ممكناتها غير المسبوقة أيضاً، أنْ يكون قد أفضى إلى إنتاج وعي زائفٍ حفَّز بعضَ النَّاس على مماهاة الفعل الثَّوري بالعنف غير المُسوَّغ، فذهبوا إلى رفض الأوَّل تأسيساً على هذه المماهاة غير السَّوية التي عزَّزها إمعان أنظمة الاستبداد في ادِّعاء الثَّورية فيما هي في الواقع الفعلي تُمارسُ كُلَّ ما يناقضها، فتُغلق المجتمع على نفسه، وتكتم أنفاسه، وتحتجز أيّ إمكانية لتطوره المُستقبلي الممكن تحت ذرائع من قبيل الاستعداد والتَّأهب وإعداد العدَّة لمواجهة الاستهداف الاحتلالي الصهيوني العنصري الإحلالي القائم والمتمدِّد، أو لمتابعة النِّضال الشَّاق والمرير ضد الاستعمار الغربي الأميركي، السافر أو المستتر، والتَّصدي لتهديداته المباشرة وغير المباشرة، وللمؤامرات الخارجية الإمبريالية والرَّجعية، متنوِّعة الجهات والمصادر، التي يجري تمريرها عبر قوى المُعارضة الدَّاخلية في أغلب الأحوال، وهو ما استدعى الانخراط الإعلامي المُكثَّف من قبل هاته الأنظمة المقنَّعة بالثورية الزَّائفة في ترويج ما سُمِي بـ”جبهة الرَّفض” أو “الصُّمود والتَّصدي”، أو “المقاومة والممانعة”، أو غير ذلك مما جرى تداوله، إعلامياً فحسب، على مدار ما يربو على سبعة عقود من الزَّمن العربي المُتكلِّس الميت، حيث لم يكن لكل هاته الهياكل الفارغة، وللثَّورات الزَّائفة أو المجهضة أو التي أكلت نفسها وأبناءها، أنْ تُحدث أيّ تغيير على أرض الواقع، اللَّهم إلا تأجيل جميع الاستحقاقات التحريرية والنَّهضوية لصالح تأبيد بقاء أنظمة الاستبداد والقهر والهيمنة المطلقة، وقرينتها أنظمة الظَّلام والتَّخلُّف والتَّبعيَّة، في سُدَّة الحُكم للاستمرار في احتجاز تطوُّر البلاد، ومتابعة قهر النَّاس أو إفسادهم، وذلك بما يتوافق مع استراتيجيات الاحتلال الصُّهيوني الاستيطانيِّ التَّوسعي والاستعمار الغربي الأميركي المُتحفِّز للهيمنة على العالم، ويُنفِّذ مؤامراتهما، ويخدم مصالحهما، من دون أنْ يكونا في حاجة لتوظيف قوى المُعارضة المحلِّية لفعل ذلك!

وإنه لمن المنطقي المُسوَّغ بطبيعة الشيء والحال، بل من الأمور والتَّصرفات المُسْرِفة في الوجود إلى أقصى حدود الإسراف، ألا تكفَّ أنظمة الاستبداد والقهر والتَّخلُّف والتَّبعية المُطلقة للقوى العالمية المهيمنة ولأصحاب “السوق العالمية المُطلقة” وهياكلها الفاعلة والقابضة على مقادير العالم، عن بذل كل الجهود وتسخير جميع الطَّاقات والإمكانيات والموارد اللازمة لتنفيذ كل برنامج قمعيٍّ أو وقائيٍّ مُحْكَمٍ، أو خطَّة أمنية أو إعلامية مدروسة، من شأن تنفيذهما أنْ يُسهم في تشويه فكرة الثَّورة، وتزييف الوعي بمفهومها على نحو يؤسِّسُ لاستبعاد دورها الحاسم كوسيلة رئيسة، بل ربما كوسيلة ضرورية لا غنى عنها، لإطلاق نهضة عربية تنويرية عميقة وشاملة.

فتلك الأنظمة المستبدة المتخلِّفة الموغلة في التَّبعية لمستبد آخر أشدَّ وأقوى لا ترى في مرايا الحياة والتاريخ إلا نفسها وحاجتها الدَّائمة إلى إشباع جشعها الكلبيِّ وتأبيد سلطتها الشُّمولية المُستبدَّة المنزوعة من أيّ قيمة إنسانية أو مبدأ حضاري راسخ في الفكر الإنساني المُنير، وهي لذلك، وبسبب هشاشتها البنيوية وخشيتها من نتائج أفعالها الوحشية وحرصها على حماية نفسها وتسييج توحُّشها بمزيد من التَّوحُّش لاتقاء الإطاحة بها، لا تكفُّ، ولا تتوقف أبداً، عن سعيها المحموم إلى تشويه الثورة: فكرةً، ومفهوماً، ووسيلة إنهاضٍ وتغيير.

وإلى ذلك، فإنَّه لمن غير المعقول أو المقبول أو السَّوي، أو المُسوَّغ تحت أيّ ذريعة أو ظرفٍ أو حال، أنْ يقع المفكرون النَّهضويون العرب، وغير العرب، وغيرهم من عقلاء النَّاس وأسويائهم، في شراك هذا الفخ المنصوب من قبل تلك الأنظمة وغيرها من قوى الاستبداد والإرهاب والتَّخلُّف والأيديولوجيات الظلامية المُتكلِّسة، وأنْ يذهبوا، بذريعة المسوِّغات الباطلة التي تروِّجها تلك الأنظمة ومن شايعها من صُنَّاع أيديولوجيات الاستبداد والفكر التَّخييلي الزَّائف، إلى التَّخلي عن الثَّورة، بمعناها الواسع والعميق، بوصفها الوسيلة، بألف لام التَّعريف، لإطلاق النَّهضة العربية وتعزيز قدرتها على تحقيق أهدافها وتأكيد حضورها الحيوي الفاعل في مجرى صيرورة حضاريةٍ نهضويةٍ شاملةٍ ومستدامةٍ، ومفتوحةٍ على مستقبل بلا ضفاف.

الثَّورة والنَّهضة كإمكانية مُجَرَّدة

وليس للتَّخلي عن الوسيلة الممكنة، المجرَّبة والنَّاجعة وغير القابلة للاستبدال، لتحقيق النَّهضة، التي هي الهدف الأسمى والغاية القصوى المنشود تحقيقها عبر تحقيق سلسلة من الأهداف والغايات التَّمكينية التي تفتحُ صيرورتها على زمن مفتوح على صيرورة دائمةٍ، إلا أنْ يُفضي إلى الإبقاء على طريق النَّهضة قائماً في حيِّز الإمكانية المُجرَّدة كطريق مُغلق يستحيلُ فتحَ منافذه والشُّروع في عبوره ومواصلة السَّير في دروبه المتعدِّدة بمعزل عن امتلاك الوسيلة الملائمة لفعل ذلك.

هكذا، إذن، بقي مشروع النَّهضة العربية المنشود محض مشروع تَصَوُّري يقبعُ في حيِّز الإمكانية المجردة، حيثُ احتجزت إمكانية بلورته على مستوى الفكر، وأغلقت منافذ الطُّرق المفضية إلى تحويله إلى إمكانية فعلية على مستوى الواقع، وذلك بسبب عوامل عديدة ليس أقلُّها التَّخلِّي عن الوسيلة الممكنة لإنضاجه وبلورته والتي هي أيضاً الوسيلة الممكنة للشُّروع في تطبيقه في الواقع القائم في بلاد العرب على تعدُّد أحياز هذا الواقع وتنوُّع حقول أنشطته الإنسانية ومجالاتها المُستهدفة بالإنهاض.

وهكذا أيضاً كان لسقوط الفكر السياسي والسوسيو – تاريخي العربي، على تعدُّد اتجاهاته وتياراته الأيديولوجية من قومية ودينية وليبرالية ويسارية، تحت وطأة الإحباط النَّاجم عن فشل جميع المراهنات السَّابقة، المتعدِّدة والمتباينة، على “الحامل الاجتماعي لمشروع النَّهضة العربية” الذي تصوَّره هذا الاتجاه أو التيار أو ذاك، أنْ يمعن في الضَّبابية والاضطراب والتشويش والالتباس في تحديد طبيعة الحامل الاجتماعي الجديد وكينونته، حيث بدا أمرُ تحديد هذا الحامل للاعتماد عليه في إنهاض النَّهضة، حتَّى بالنسبة للفكر السياسي والسيوسو – تاريخي الذي يزعم لنفسه الموضوعية والعلمية والصَّرامة المنهجية، أشبه ما يكون بالتقاط ورقة مغلقة مودعة في طاقية ساحر إلى جوار أوراق أخرى كتبت عليها أسماء طبقات اجتماعية وأحزاب سياسية وتشكلات نخبوية وقوى مجتمعية متنوِّعة، وغير ذلك من هياكل اتضح، مع مرور الزَّمن، أنها جميعاً محضُ هياكل فارغة، فقد تفكَّكت الطبقة الوسطى وتشظَّت فئاتها، وغابت الطبقة العليا وتحوَّلت إلى مافيات مالية، وابتلعت البرجوازية الوطنية في جوف الدَّولة البوليسية الأمنية وأخطبوط الفساد، أو في جوف خزائن إسلام النَّفط والدُّول الشَّركات عابرة القوميات والقارات، وتمَّ تفكيك طبقات المجتمع وفئاته جميعاً وإغلاقه على نفسه، حيث بدا أمرُ النَّهضة العربية وتجاوز المأزق التاريخي عبر إحداث الانتقال الضَّروري من الواقع العصيب القائم إلى واقع ملائم ممكن ومنفتح على التَّقدم الحر وصيرورة الحياة أمراً مؤجَّلاً إلى أجل غير معلوم، وذلك لعدم انبثاق اللحظة المواتية، ولاقتران غياب “الكتلة التاريخية” التي أريد لها أن تكون حاملاً اجتماعياً لمشروع نهضويٍّ عربيٍّ تنويريٍّ، هو أصلاً غير موجود إلا في حيِّز التَّصور الرَّغبوي، بالأسباب والعوامل الكابحة والتعقيدات المُعَطِّلَةِ التي سبق إيضاحها!

سؤالُ النَّهضة المُزْمِن ومَشْرُوعُهَا المُعَلَّق

تأسيساً على ما تقدَّم من مناقشات أوَّلية تتوخى فتح حوار جاد وعميق، وفي ضوء الإطلال على ما هو مُتَدَاول من تشخيصاتٍ وخلاصاتٍ مُتَغَايرة تتصلُ بواقع حال الواقع العربي وتعقيداته ومسارات تحولاته الممكنة ومآلاته، فإنَّنا نجد أنَّ سؤال النَّهضة العربية الحضارية الإنسانية الشاملة الذي لا يزال ينتظر الجواب الملائم والنَّاجع عنه منذ ما يربو على قرنين من الزَّمان العربي أو يزيد، يبقى هو السُّؤال الأول في قائمة الأسئلة المطروحة على العرب في امتحان الحياة والموت! إنه هو السُّؤال، بألف لام التعريف، لأنه سؤالٌ وجوديٌ مُلِحّ لا يمكن تأجيل الجواب عنه إلا على حافَّة قبر أو في أغوار كهفِ تَوحُّش قديمٍ جديد، ولأنه سُؤال مُتجدِّدٌ دائم الحُضُور في صيرورة الزَّمن: من قبلُ، والآن، وفيما بعدُ، ولأنه هو السُّؤال الذي شرع إلحاحهُ على العرب لتقديم جوابهم الواقعي الواضح والمؤصَّل عنه يشتدُّ مع توالي تمدُّد زمن العولمة المتوحشة وقرينه زمن الإنسان الوحش، أو الوحش الإنسان، في المكانين العربي المُغلق والكوني المُعولم في آنٍ معاً.

وإذْ أعاد المفكِّر الطَّيب تيزيني لهذا السُّؤال ما له من أهمية فائقة، ومنحه مرتبة الأولوية القصوى عبر وضعه على رأس قائمة الأسئلة التي يُواجِهُها العرب مُلْزَمِينَ بالإجابة عنه وعنها إنْ هم أرادوا لأنفسهم حياة حُرَّةً وكريمةً دافقةً بالحياة المتجدِّدة في عالم لا يكفُّ عن التَّغيُّر والتَّحول، ولا يُمكن التنبؤ بمآلاته إلا بالانفتاح عليه والانخراط الجاد في مساراته عبر الإسهام في تشكيلها وتوجيهها بفاعلية صوب غايات ينبغي أنْ تظلَّ إنسانية في كُلِّ حال، فإنَّ الاستجابة للدَّعوة المُلحَّة إلى إنهاض مشروع نهضوي تنويري عربي منفتح على الحياة، ومتفاعل مع العالم الذي ينبغي إنهاضه من جديد وفق مبادئ إنسانية وقيم حضارية مشتركة، وعلى أُسُسٍ ومُقَوِّماتٍ إنسانيةٍ وحضاريةٍ راسخةٍ وصلبةٍ، إنَّما تقتضي الانتقال بالحوار مع الطَّيب تيزيني، المفكِّر المرموق المسكونِ بهمِّ الإنسان العربي والإنسان الإنسان، إلى أُفُقٍ أَبْعَدْ، وذلك بمغادرة استهلاله ذهاباً إلى صُلبه وجوهره الذي يتكثَّف، في ما نحسب، في التَّعمق في قراءة إجابته عن سؤال النَّهضة العربية التي كان قد دعا إلى استبدالها بالثَّورة، والشروع في إطلاق حوار عميق وخلَّاق مع جميع مؤسِّسات هذه الإجابة وارتباطاتها ومكوناتها المُتشعِّبة والمُتنوِّعة، ومقارنتها، حيثما بدت المقارنة مفيدةً من الوجهة المنهجية أو المعرفية، بإجابات غيره من المفكِّرين والكتاب والمثقفين العرب المعاصرين عن السُّؤال نفسه، وذلك مع التوقَّف، ملياً وبإمعان، أمام تعرُّف التَّحديات التي تطرحها الإجابات المتنوِّعة والمتغايرة عن سؤال النَّهضة على أيّ مشروع نهضوي عربي ممكن، أو تلك التي تتوقَّع له هذه الإجابات أن يُواجهها، سواء أكان ذلك على مستوى البلورة أو على مستوى الإطلاق والتنفيذ، وذلك في تساوق متصل مع تبيُّن طبيعة الاستجابات التي تقترحها تلك الإجابات والشُّروع في مناقشتها على نحو يفضي إلى إدراك نتائجَ مُحَدَّدة ومُدَقَّقة، والوصول إلى خلاصاتٍ عميقة مُؤصَّلة، قد يُمْكِنُ البناءُ عليهما.

وثمة في هذا الإطار أسئلة كبرى، تتفرَّع عن سؤال النَّهضة الأكبر، تصدَّى المُفكَّر الطَّيب تيزيني للإجابة عنها في مؤلفات وكتابات ومقابلات عديدة، وتطرَّق في مقابلته مع “الجديد” إلى الملامح الأساسية لإجاباته عن بعض منها، وستكون تلك الأسئلة وإجاباتها المتعاقبة والمتطوِّرة باستمرار، محاور رئيسة لفصلٍ تال من هذا الحوار المفتوح مع الأفكار والتَّبصُّرات والرؤى التي أطلقها المُفكِّر في حياتنا، والتي نُريد للحوار معها أن يُسهم، بالقدر الذي هو به جدير، في إضاءتها عبر مناقشتها على نحو يتوخَّى توضيحها وتعزيز أصالتها وتعميق جداراتها وجدواها، وترسيخ حضورها الفاعل والمؤثر في أيّ حراكٍ ثقافيٍّ تنويريٍّ عربيٍّ يشرعُ في تأسيس نفسه بغية التأسيس لإنهاض النَّهضة العربية التي طال انتظار نهوضها!

عبد الرحمن بسيسو

ناقد من فلسطين مقيم في سلوفاكيا

نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق