أبعاد أيرنة الجُزر الإماراتية

بعد مضي عشرون عاماً على الإحتلال الإيراني للجُزر الإمارتية الثلاث: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، تمادت إيران أكثر بمنحى خطير أوآخر 1991. حيث طالبت حكومة خامنئي من رعايا دولة الإمارات العربية المتحدة في جزيرة أبو موسى بإستخراج تصاريح أمنية إيرانية. وعندما رفضت الإمارات هذا الطلب، قامت السلطات الإيرانية بطرد الخبراء الأجانب من الجزيرة في نيسان/أبريل 1992. ثم تفاقمت الأزمة عندما منعت إيران عودة المدرسين العرب للمدرسة المحلية الخاضعة لسلطة الشارقة في تشرين الأول/أكتوبر 1992. وكان ذلك الإجراء خرقاً فاضحاً إلى “مذكرة التفاهم” المبرمة بين إيران وإمارة الشارقة في 1971. كما ويعتبر تجاوزاً مقصوداً ينم عن نية سيئة. ورغم تراجع إيران عن هذا القرار، لكن الأمر لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما خيّرت السكان الإمارتيين بين الحصول على الجنسية الإيرانية أو الرحيل عن الجزيرة تماماً.

إن ما قام به النظام الصفوي الإيراني بحق جزيرة أبو موسى وسكانها في 1992، يعني البدء الفعلي بتطبيق مشروع الأيرنة على هذه البقعة العربية وتجريدها من هويتها الإماراتية، وإلحاقها نهائياً بهوية التفريس للصفوية الجديدة المتمثلة بالنظام الجمهوري الإسلامي. سيما وأن الجزيرة قد ألحقوها إدارياً بمحافظة هرمزغان الإيرانية. علاوة على أن هذه الخطوة تعتبر إعلان السيادة الإيرانية على الجزيرة من طرف واحد. وبالتالي يكشف النظام الإيراني عن عدم إكتراثه ألبتة بالإلتزامات القانونية والسياسية والأخلاقية المتعلقة بمذكرة التفاهم.

والأنكى من ذلك أن النظام الإيراني برفض موقف دولة الإمارات باللجوء إلى القضاء الدولي في “محكمة العدل الدولية”؛ أو عرض المشكلة على “منظمة الأمم المتحدة”. علِماً أن هذا الموقف الإماراتي تؤيده جميع الدول العربية وأغلب دول العالم أيضاً، حتى التي لها مصالح خاصة مع إيران. والأخيرة تصر على أمكانية الحل عن طريق الحوار المباشر دونما تدخل من الآخرين. وبلا أدنى شك، أنه موقف المماحكة والمماطلة في تضيع الوقت وتبديد الآمال عبر سلسلة قد لا تنتهي من سجالات الحوارات اللامجدية للجانب الإماراتي، والنافعة والمفيدة للجانب الإيراني.

إن دولة الإمارات لم تكف عن مطالبتها بالجُزر الثلاث، وعلى المستويين العربي والدولي. ففي حزيران/يونيو 1999 رفعت وزارة الخارجية الإماراتية مذكرة تفصيلية إلى الجامعة العربية، أسمتها: “قضية الإحتلال الإيراني لجُزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى التابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة”. تشرح فيها كيف تعرضت الجُزر الثلاث “لعدوان سافر من قِبل نظام شاه إيران”. والذي يُعدّ خرقاً لمبادئ وأحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، التي أكدتها الجمعية العامة لأمم المتحدة في قراراتها: القرار رقم 2625، دورة 25، الصادر في 1970 عن مبادئ القانون الدولي في شأن العلاقات الودية والتعاون بين الدول وفق أحكام ميثاق الأمم المتحدة. وكذلك القرار رقم 3314، دورة 29، الصادر في 1974 في شأن تعريف العدوان وقد أضحى ذلك من القواعد الآمرة في القانون الدولي ومن الأُسس الراسخة للعلاقات الدولية المعاصرة.

بيد أن النظام الصفوي الإيراني لا يصيغ السمع ولا يهتم إلا لِما يهدف إليه بالأستمرار في مشروع أيرنة جزيرة أبو موسى. وما الزيارة الأستفزازية إلى الجزيرة التي قام بها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (2005-2013) في 11-4-2012، إلا دالة قوية على هكذا نهج تعسفي، وتأكيد على هذه الأيرنة الباطلة حاضراً وماضياً. بل أن هذه الزيارة الرئاسية هي خطوة سافرة وفاضحة لم يسبقه إليها أحد من المسؤولين الكبار منذ زمن الشاه محمد رضا بهلوي (1941-1979). كما وأنها تحدياً صارخاً لمشاعر الإماراتيين على وجه الخصوص، وإلى جميع العرب على وجه العموم.

أن ما يفعله خامنئي بحق الجُزر الإماراتية المحتلة منذ تسعينيات القرن المنصرم، هو أمتداد طبيعي للسياسات التي كان ينتهجها الخميني (1979-1989). فالأخير عمل طيلة فترة حكمه على خلق الأسباب والذرائع التي تمكنه من إلغاء “مذكرة التفاهم” لكي يفرض السيادة الإيرانية على جزيرة أبو موسى كلية، كما جرى للجزيرتين طنب الكبرى وطنب الصغرى. فالسيادة الإيرانية القسرية تعني التهيأ للشروع بأيرية الجزيرة رسمياً. وهكذا كان نظام الخميني الإسلامي يرتكب الإنتهاكات والخروقات بشكل متعمد ومدروس مسبقاً. من بينها: إقامة منشأة عسكرية فيها أنظمة صواريخ في الجزء التابع للإمارات. إجبار المسافرين من السكان بالخروج والدخول عن طريق مركز إيراني. تصادم الدوريات العسكرية الإيرانية مع الشرطة الإماراتية في الأسواق والشوارع. ومن أجل تشجيع الإيرانيين على الهجرة والإستيطان، تم إنشاء خطاً جوياً بين مدينة بندر عباس والجزيرة. وإعتراض البحرية العسكرية الإيرانية لقوارب الصيد الأهلية التابعة للمواطنين الإماراتيين في المياه الأقليمية لدولة الإمارات، والتحقيق معهم ومصادرة قواربهم. إن هذه التجاوزات والخروقات المقصودة، وغيرها الكثير، أراد منها نظام إيران الصفوي بالتمهيد للإستيلاء على الجزيرة وإحتلالها نهائياً، ثم العمل على أيرنتها مستقبلاً. وهذا ما حصل لاحقاً.

إن فترة الثمانيات من القرن العشرين التي كان فيها النظام الصفوي الإيراني يعمل على خلق أرضية تمكنه مستقبلاً من أيرنة جزيرة أبو موسى، وكذلك ممارساته الإستفزازية والتعسفية حيال الأهالي الإماراتيين بالجزيرة، لم تسترعي إنتباه وسائل الإعلام وقتذاك. لأن حرب الخليج الأولى (1980-1988) بين العراق وإيران، والتي خرج منها العراق منتصراً، كانت تطغوا على أمور كثيرة. وما أن وضعت الحرب أوزارها، حتى قام الإيرانيون ببناء مدرج للطائرات يتجاوز الجزء التابع لها في الجزيرة، ليصل داخل الجزء المخصص لإمارة الشارقة.

ولكي يخلق النظام الإيراني حجة تجاه العسكرة ذات التبطين الخفي لأيرنة جزيرة أبو موسى، أدعى أنه يحصن نفسه أمنياً ضد أي عملية عسكرية أمريكية مرتقبة بعد حرب الخليج الثانية (1990-1991) بين العراق ودول التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تم فيها تدمير العراق؛ وهيمنة الوجود العسكري الأمريكي على منطقة الخليج العربي. وبحسب التصور الإيراني، فإن هذا الوجود العسكري الأمريكي سوف يساعد دولة الإمارات بأن تستعيد الجُزر الثلاث عبر القوة الأمريكية.

أن هذه الحجة التي تذرع بها النظام الإيراني قد أثبتت الأحداث والوقائع في العقدين المنصرمين بعدم حصول هكذا أمر ألبتة. وبذا فإن العمائم الحاكمة في إيران لا تختلف عن الإنظمة السياسية السابقة عليها بالتقارب المصلحي بينها وبين الغرب على حساب المصالح العربية. وإذا كان هناك إختلافاً معيناً، فإن صفوية الملالي الجديدة تمتاز بخطورةٍ أكبر، كونها تتستر بغلاف ديني فضفاض، وترتكب بأسمه كل ما هو ضد الإسلام والعرب المسلمين؛ ومنها صناعة الدجل والكذب والتدليس والتزييف.

ومن بين الأكاذيب الإيرانية المتعلقة بالجُزر الإماراتية والتي تدسها في وسائل الإعلام بينة الفينة والأخرى، ما جاء في موقع “إيماسك” للمعارضة الإماراتية في 16-1-2014، عن مسؤول إماراتي كبير، حول إتفاق سري جرى بين الإمارات وإيران بوساطة عُمانية. وأن اللمسات الأخيرة لهذا الإتفاق قد تمت في يوم الثلاثاء الموافق 24-12-2013، وذلك خلال الزيارة التي قام بها ولي عهد أبو ظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الشيخ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى السلطان قابوس بن سعيد في عُمان.

ويشير المصدر: “لقد تم التوصل إلى أتفاق ووضعت له اللمسات الأخيرة على طنب الكبرى والصغرى في الوقت الراهن، وهما من الجزر الثلاث التي تملكها الإمارات، بينما يتم تسوية الإتفاق النهائي بخصوص أبو موسى”. وأضاف أن: “إيران تحتفظ بحقوق قاع البحر حول الجزر الثلاث، في حين أن دولة الإمارات تمتلك عقد السيادة على الأراضي، وتمنح عُمان موقعاً إستراتيجياً لإيران على رأس مسندم الجبلية، وهي نقطة إستراتيجية تطل على منطقة الخليج”. وبموجب الإتفاق “فستمكن سلطنة عُمان أن تتلقى الغاز والنفط بحرية من إيران عبر خط أنابيب سيتم بغضون العامين القادمين”. وكذلك “حصلت سلطنة عُمان على الضوء الأخضر من إيران والولايات للوصول إلى صفقات من شأنها أن تقلل من مستويات التهديد في المنطقة وتعويض التأثير السعودي في المستقبل بأي وسيلة”.

أن الإتفاق المزعوم بالقدر الذي يكشف طبيعة الأيرنة الخفية للجُزر الإماراتية، فإنه يكشف أيضاً أكاذيب النظام الإيراني. فما تم طرحه بأن “إيران تحتفظ بحقوق قاع البحر حول الجزر الثلاث، في حين أن دولة الإمارات تمتلك عقد السيادة على الأراضي”. فأنه صورة مشابه للمقترح الصهيوني حول “المسجد الأقصى” بأن يكون ما فوق الأرض تابع للفلسطنيين، وما تحت الأرض تابع للإسرائيليين!

أما زج عُمان بالإتفاق مع الإمارات، والموقف العدائي الواضح ضد السعودية، فيمكن فهمه عبر فكرة الإتحاد الخليجي. حيث دعى العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز بالقمة الخليجية المنعقدة بالرياض أواخر 2011، إلى تجاوز مرحلة “التعاون” والإنتقال إلى مرحلة “الإتحاد”. وذلك نظراً للأحداث والمستجدات التي طرأت على أرض الواقع عربياً وإقليمياً ودولياً. ولقد أيدت هذه الفكرة دول الأعضاء في المجلس التعاوني، بأستثاء تحفظ الإمارات، ومعارضة عُمان. ولذا تحاول إيران أستثمار هكذا خلاف خليجي بزرع فتنة سياسية تعيق الوصول إلى تحقيق كيان الإتحاد الخليجي العربي.

على أي حال، أن أبعاد أيرنة الجُزر الإمارتية لا يقتصر على مواقعها الجغرافية المهمة في عنق الخليج العربي وحسب، بل تشمل الثروات المعدنية أيضاً. ففي جزيرة أبو موسى، بجانب إنتشار آبار المياه العذبة وزراعة النخيل، يوجد في الشمال الشرقي من الجزيرة مناجم معدنية لإستخراج أوكسيد الحديد الأحمر الذي يستعمل في صناعة الطلاء المقاوم للصدأ. علاوة على وجود ثروات طبيعية أخرى، مثل كبريتات الحديد والكبريت. ناهيك بالكلام عن أكتشاف النفط الذي يدعم الاقتصاد إيما دعم. حيث تم أكتشاف النفط في مواقع بحرية تابعة للجزيرة. الأول إكتشفته “شركة نفط الهلال” في 1972، ويبعد البئر النفطي عن الجزيرة 11 كيلومتراً؛ وسمّي “المبارك”. وفي 1973 تم إكتشاف بئر آخر يبعد عن الأول 2 كيلومتر، سمي “المبارك 2”. وفي 1974 تم إكتشاف بئر ثالث سمي “المبارك 3”. وفي 1975 إكتشفت أيضاً “شركة نفط الهلال” بئراً رابعاً أسمته “المبارك 4”. إن نفط الهلال يعود إلى الشركة الأم “بوتيس للنفط والغاز” التي تستخرج النفط منذ العام 1972، بموجب إمتياز منحه إياها حاكم الشارقة الشيخ خالد بن محمد القاسمي (1965-1972).

أن الوضع الحياتي والإجتماعي في جزيرة أبو موسى ينقسم الآن إلى شطرين. الأول يعيش فيه المحتلين الإيرانيين الذين تتوفر لهم جميع الوسائل الخدمية والصحية والتعليمية الخ. والثاني يخص الإماراتيون الذين يعانون شظف العيش، وقلة الخدمات، وتأخر التعليم، وتدني الرعاية الصحية، وإنعدام حتى التواصل الإجتماعي عبر شبكة المعلومات العنكبوتية (إنترنت). والرفض الإيراني المتواصل تجاه أي طلب لسكان الجزيرة في جلب ما هو ضروري ومهم لهم ولحياتهم اليومية. بل وصل الرفض الإيراني حتى السماح للمواطنيين بصيانة منازلهم القديمة التي بدأت تتآكل شيئاً فشيئاً. إنها سياسية مدروسة سلفاً، يُطبقها النظام الإيراني الصفوي من أجل الضغط الشديد والمقصود على سكان الجزيرة الأصليين بغية تهجيرهم، أو الرضوخ التام إلى أيرنة وجودهم تماماً، وإلغاء هويتهم العربية بالكامل.

وفي تقرير إلى صحيفة “غولف نيوز” الإماراتية بتاريخ 7-7-2012، عن سكان الجزيرة قولهم: أن السلطات الإيرانية لجأت إلى المضايقة والتدخل في كل تفاصيل حياتهم اليومية. وأن إيران تتدخل في حرية الوصول وبناء المنشآت ووضع المعدات، وذلك للتأثير على التركيبة السكانية، حيث يبلغ عدد الإيرانيين في الجزيرة ثلاثة أضعاف المواطنين والوافدين. ويقول السكان الإماراتيون: إن السلطات الإيرانية لم تسمح برفع عَلم الإمارات في أي مكان من الجزيرة. مضيفين: أنه لا يوجد في أبو موسى أي مستشفاً، سوى عيادة طبية صغيرة، وتُنقل الحالات الصعبة إلى مشافي الشارقة.

في الحقيقة، بما أن الإمارات لا تستطيع إستعادة جُزرها عسكرياً، ولم تنفع منهجية السياسة الهادئة لسنوات طويلة، ولا ترضى إيران باللجوء إلى القضاء الدولي. وهنالك ضعف في النظام الرسمي العربي، بضمنها تأخر إنبثاق الكيان الخليجي الموحد. لذا فإن سياسة التفريس وأيرنة الجُزر الإماراتية يبدو ستستمر دون توقف، وقد تصل يوماً إلى ما بعدها، إن لم تجد صداً عربياً منيعاً.

د. عماد الدين الجبوري 

كاتب وباحث عراقي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق