قراءة في مبادرة “الهيئة”

بعد شهرين من مقابلته في برنامج على “قناة الجزيرة” التي أشار فيها الأمين العام ل “هيئة علماء المسلمين في العراق” فضيلة الدكتور مثنى حارث الضاري بإشارته عن طرح مبادرة وطنية تخص الوضع المهلك في العراق، وفي يوم السيت الموافق 15 من آب/أغسطس 2015 من خلال مؤتمر صحفي دعا إليه بعض الشخصيات العراقية والعربية أعلن فيه الدكتور الضاري عن المبادرة الوطنية للهيئة، موسومة: “العراق الجامع من أجل حل مناسب لإنقاذ العراق والمنطقة”.

الحق، إن المبادرة هي انطلاقة لتأسيس مشروع عمل سياسي وطني عام يقوم على عدة محاور رئيسة متصلة ومكملة لبعضها البعض. ويمكننا أن نستشف ونوجز سردها بالعناوين التالية: دواعي المبادرة، وترتكز على ست نقاط. فحوى المبادرة، وتحتوي على أربع فقرات. قواعد التحقيق، وتضم أربع إشارات. محددات المشروع، وتشتمل على ستة تنبيهات. وبغية التوضيح نعرضها بالشكل المختصر التالي:

أولاً: دواعي المبادرة

  • المعاناة الطويلة من تغول الحكومات المتعاقبة وأجهزتها القمعية ومصادراتها لحق الشعب في المطالبة بحقوقه، وإحتجاجه على السياسات الفاسدة والظالمة، من ثورة 25/2/2011، إلى التظاهرات والاعتصامات التي بدأت في 23/12/2012، وصولاُ إلى التظاهرات التي انطلقت في 24/7/2015، والمتواصلة الزمن للآن.
  • توريط الشعب العراقي في حرب دموية لا ناقة له فيها ولا جمل، ينزف خلالها أبناؤه دماً عزيزاً، ويفقد في أوآرها قوته يوما بعد يوم، ولا أحد يدري لِمَ هذه الحرب، ومن المستفيد منها، وإلى أين ستنتهي، ولماذا يلقي أبناء العراق فلذات أكبادهم في أتون صراع لا يعدو أن يكون صراعا بالوكالة، تؤججه أطراف دولية من الخارج لا تريد للعراق وشعبه خيراً.
  • أصبح من المسلمات أن النظام السياسي القائم في بغداد لا يمثل العراقيين جميعاً، وأنه مصمم لخدمة مصالح أحزاب وجهات محددة، بعيداً عن مصالح الشعب، ووفقاً للدستور -الذي تمخض عنه النظام السياسي- وشكل حجر الزاوية في الفشل الخطير والمتلاحق لهذا النظام وعمليته السياسية.
  • إن تجربة مداها أكثر من ثلاث عشرة سنة فشلت فيها وجوه العملية السياسية المختلفة: مبدأ وأشخاصاً وتطبيقات، في إدارة شؤون العراق، وجلب الاستقرار له، والمحافظة على عناصر القوة فيه، حتى أستحق عن جدارة وصفاً أطلقته بحقه منظمات دولية متخصصة، وهو: “الدولة الفاشلة”.
  • اندلاع الصراع بين مكونات العملية السياسية نفسها، كنتيجة طبيعية لما أرتكبته بحق العراق والعراقيين، ينذر بتداعيات أشد خطورة، ومستقبل يفتح على الشعب أبواباً أخرى من الجحيم.
  • فشل كل المحاولات الدولية لتخفيف الأضرار، وإصلاح الخلل، وعقد المصالحات، بما في ذلك جهود الأمم المتحدة، التي أرسلت خلال السنوات الماضية عدداً من المبعوثين الخاصين لأمينها العام دون إنجاز يذكر، حتى غدا المجتمع الدولي وسط حيرة كبيرة في كيفية التعاطي مع الشأن العراقي وتداعياته المستمرة.

ثانياً: فحوى المبادرة

  • الدعوة إلى لقاءات تشاورية موسعة بين القوى العراقية المناهضة للمشروع السياسي القائم في العراق، لغرض الاتفاق والتنسيق على مبادئ وثوابت مشروع العراق الجامع وتفعيلها.
  • الدعوة إلى عقد سلسلة من الندوات الموسعة بين كفاءات ونخب المجتمع وقواه المدنية الفاعلة، وقادة الرأي والواجهات الاجتماعية، لتقريب وجهات النظر والوصول إلى رؤى متقاربة ما أمكن.
  • الدعوة إلى اجتماع شرائح وفئات مجتمعية مهمة في كيانات وعناوين، تمهيداً لمشاركتها في أي جهد عراقي جمعي قادم، ودعم رأي عام عراقي وتوسعته نحو حركة جماهيرية ناشطة.
  • الدعوة إلى عقد مؤتمر عام، لتأسيس إطار عراقي جامع، يكون عنواناً واحداً ينظم أفكار ومنطلقات القوى العراقية سالفة الذكر من خلال ميثاق للعمل المشترك، يقوم على أسس الوحدة، واستقلال القرار العراقي، ورفض التبعية للخارج القريب والبعيد، وتعزيز السلم المجتمعي، ويقطع الطريق على محاولات الانفراد ببعض القوى وسحبها لتنازلات انفرادية أو فخاخ معدة هنا وهناك، وتحضيراً لحل مناسب يحول دون وقوع العراق فريسة الفراغ القاتل.

ثالثاً: قواعد التحقيق

  • إزالة المخاوف التي تراود بعض أطياف وتنوعات المجتمع العراقي من الآثار التي قد تنتج عن التغيير.
  • توسيع رقعة المشاركة الجماهيرية في مقاومة التدخل والنفوذ الخارجي الضار بالعراق ومواطنيه، وإقناعها بإمكانية توفير البديل.
  • استقطاب قادة الرأي والشخصيات الفاعلة والمؤثرة في المجتمع العراقي للمشاركة في التغيير الحقيقي.
  • توحيد جهود القوى العراقية وتوسيع دائرة القوى المشاركة في مشروع التغيير، تحت مظلة جامعة تتبنى مسؤولية تحديد المسار وتوزيع المهام.

رابعاً: محددات المشروع

  • التمسك باستقلال العراق التام ووحدة أراضيه والمحافظة على هويته، واستناد سياساته في التنمية على المصالح المشتركة لمواطنيه، وبناء الدولة الحديثة وفق الأسس اللازمة لذلك: دستورياً وقانونياً واقتصادياً وأمنياً واجتماعياً وثقافياً.
  • الالتزام بالنهج التعددي وحرية الرأي وفق آليات تحترم قيمنا وأعرافنا وتقاليدنا ولا تتعارض معها.
  • استبعاد آليات الانتقام السياسي وفسح المجال للعدالة -وفق صيغة توافقية بين العراقيين- لتأخذ مجراها، لحفظ الحقوق وصون الأعراض والدماء، والحيلولة دون تكرار ما حصل ويحصل الآن.
  • الوعي بأن مأساتنا في العراق ليست مأساة طيف أو عرق أو منطقة أو محافظة أو مكان بعينه، وإنما هي مأساة وطن وشعب، وأن الاهتمام الآني بالمشاكل الجزئية هنا أو هناك، لا ينبغي أن يؤثر على الصورة الكاملة للمأساة.
  • إن الحقوق لا تُعطى وإنما تُكتسب بفعل مؤثر وجهود مضنية وتضحيات كبيرة غير منقطعة، والهوية وليدة الاعتزاز بالموقف والمهمة والتكليف، وليست منة من أحد أو نتيجة لتأثر بواقع حال وردة فعل، وإن كان مؤلماً وقاسياً وطويلاً.
  • استلهام روح المقاومة، والانتفاضات والاعتصامات والثورات الشعبية، مهم وضروري في تحديد مسار طريقنا نحو التغيير والخلاص.

وفي الختام تعلن الهيئة: عن فتح أبوابها لجميع أبناء الشعب العراقي ومن كل المكونات والأطياف للتواصل، وتسخير قدراتها كافة في سبيل تحقيق أهداف هذه المبادرة، وبما يضمن وضع العمل الناجع في بداية الطريق من جديد، قياماً منها بواجبها، مع تعهدها بأن تكون جزءاً فاعلا في أي جهد، وعاملاً مساعداً ومنتجاً وناصحاً ومسدداً، فهمنا الأول هو تيسير السبل، وفسح المجال لعجلة العمل بأن تمضي في طريقها، بالتعاون بين الجميع ووفق صيغة التعاون المشترك، إقتناعاً منا بأن نقاط قوة المشروع العراقي الجامع هي في إجتماع كلمة أطرافه وتعاونها وتوافقها، والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.

بلا أدنى شك، إن ما تطرحه “هيئة علماء المسلمين في العراق” في هذا المشروع الوطني لإنقاذ البلاد والعباد، يُعتبر حلقة جديدة ومهمة ضمن سلسلة الحلقات التي بادرت فيها الهيئة سواء في فترة الإحتلال العسكري الأمريكي ما بين (2003-2011)، أو الإحتلال السياسي الإيراني منذ العام 2012 ولغاية يومنا هذا. وكما جاء في ختام المبادرة: “بأن تكون جزءاً فاعلا في أي جهد”، فإن الأجزاء الوطنية الأخرى بشطريها المسلح والمدني ستكون جهودها أيضاً مع الهيئة من أجل العراق الواحد المستقل بإرادته وسيادته.

إذا أشار الأمين العام للهيئة الدكتور مثنى حارث الضاري بأن الواجب الشرعي والوطني أملى عليه بطرح هذه المبادرة، فإن الواجبات الأخلاقية والإجتماعية والإنسانية توجب أيضاً على كافة القوى الوطنية العراقية الحرة، والأفراد الغيارى بمختلف منازلهم ومراتبهم أن تستجيب وتأخذ دورها في هذا المشروع الإنقاذي، وبغض النظر عن حجمها وثقلها على الساحات السياسية والميدانية والشعبية والجماهيرية. فما تطرحة “هيئة علماء المسلمين في العراق” لا يختلف كثيراً عن مشاريع سياسية وطنية أخرى طرحتها الجبهات الجهادية التحريرية للمقاومة العراقية، “جبهة الجهاد والتحرير والخلاص الوطني” نموذجاً، أو مراكز عراقية أكاديمية وسياسية، (راسام) “مركز الرافدين للدراسات الإستراتيجية” مثالاً.

وبذا فإن مبادرة الهيئة بالقدر الذي تحتويه من محاور هامة وخطيرة من ناحية، وتزامنها الوقتي، غير المقصود، مع التظاهرات التي تعم محافظات الوسط والجنوب من ناحية أخرى؛ فإن جعل الأبواب مفتوحة على مصراعيها للدخول والخوض في غمار هذا المشروع الوطني المناهض للعملية السياسية البائسة والسقيمة سيعطي زخماً وبُعداً على المستويين العربي والإقليمي، وبالتالي إمكانية تحقيق النتائج التي يرنو إليها الجميع ستكون أكثر قُرباً مما مضى.

بمعنى آخر، إن هذه المبادر قد تكون بداية النهاية المتزامنة مع ثورة الشعب السلمية الثالثة بالقضاء على العملية السياسية التي أوجدها المحتل الأمريكي وسيطر عليها المحتل الإيراني ويدفع نتائجها الدم العراقي. نضم صوتنا إلى “هيئة علماء المسلمين في العراق” وندعو الجميع أن يدلوا بدلوهم ليزيدوا من ثمار هذه المبادرة اليانعة من أجل العراق أرضاً وشعباً، تاريخاً وحضارةً، حاضراً ومستقبلاً.

د. عماد الدين الجبوري

كاتب وباحث عراقي

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق