قراءة في العمق الإيراني، كوردستان إيران نموذجاً

يقع الجزء الشرقي لـ “كوردستان” في غرب إيران، والذي يعرف حالياً بـ “كوردستان إيران”، حيث يقع هذا الجزء من كوردستان بين الأراضي التركية والعراقية والإيرانية وشمال جمهورية أرمينيا، وتبلغ مساحة كوردستان الشرقية 111679 كيلو متر مربع، وهو ما يعادل 8% من كل مساحة إيران الحالية.

ويصل عدد سكانها إلى 7 مليون نسمة تقريبا ً أي ما يعادل 10% من كل سكان جغرافية ما تسمى إيران. وتعتبر كوردستان الشرقية ثاني أكبر اجزاء كوردستان التي تقع بين إيران والعراق وسورية وتركيا، كما تحد كوردستان الشرقية داخل جغرافية إيران كل من آزربايجان الجنوبية من الشمال والشمال الشرقي ومن الوسط بلاد فارس(إيران) ومن الجنوب بلاد العرب (الأحواز).

وبسبب السياسة الإيرانية الاستعمارية المعتمدة من قبل السلطات المتعاقبة على سدة الحكم في إيران والرامية لتغيير ديمغرافية الشعوب غير الفارسية، تقلص كثيرا ًعدد السكان في كوردستان الشرقية، كما تشير الاحصائيات إلى أن المجموعات البشرية التي هاجرت في العهد الصفوي إلى خراسان حافظت على الهوية واللغة الكوردية، ويصل عددها إلى 2 مليون كوردي. كما تشير الإحصائيات غير الرسمية إلى أن عدد العمال الكورد يصل إلى مليوني عامل يعملون في القطاع الخدمي والمهن الأخرى الصعبة، وتتركز العمالة الكوردية في المناطق الفارسية مثل طهران وقزوين وأصفهان ويزد وشيراز وأراك. ونتيجة للسياسات المفروضة من قبل السلطات الفارسية للتعتيم على معرفة العدد الحقيقي للسكان الأصليين في الأقاليم التي تشكل إيران الحالية؛ بات من الصعب إيجاد إحصاء دقيق لمعرفة النسب الحقيقة لهذه الشعوب التي فقدت حقوقها الأولية منذ مجيء رضا شاه الأب وإلى يومنا هذا.

ومن السياسات المدمرة التي انتهجها رضا شاه هي إنصهار الشعوب في إطار “الأمة الإيرانية” الفارسية، رغبة منه في تدمير النسيج الاجتماعي للشعوب التي تقطن جغرافية إيران. هذه السياسات الخطيرة والمستمرة منذ زمن البهلوية تحولت إلى أزمة حقيقية، بحيث يعيش المجتمع الإيراني الحالي حالة من التناقض والتباين الشديد جراء هذه السياسات التي ما زالت تطبق وبقوة من قبل الجمهورية الإسلامية.

فالثراء الثقافي الغني والأصيل للشعب الكوردي كان السبب الوحيد الذي حافظ على هذه المكتسبات التاريخية من سياسة التفريس المعتمدة من قبل الأنظمة الفارسية، وهذه السياسات العنصرية الرامية لمحو تاريخ الشعوب في جغرافية إيران الحالية اعتمدت سياسات خطيرة وعملاقة تهدف من خلالها إلى بسط السيطرة الفارسية من خلال الترويج للغة الفارسية، وكذلك إنشاء مراكز ثقافية فارسية على حساب الثقافات الأخرى؛ رغبة من السلطات الفارسية في تدمير الموروث الثقافي، من خلال التخلص من اللغات غير الفارسية، فيما تشكل هذه اللغات في طياتها، التاريخ والفكر، لكل شعب من الشعوب الراضخة تحت الهيمنة الفارسية منذ عقود، فالسلطات الإيرانية أبدعت أساليب خبيثة منذ بداية القرن المنصرم، وزادت أكثر خبثاً في عهد الجمهورية الإسلامية الحالية.

سياسة الحظر والمنع في اختيار الأسماء الكوردية للمواليد الجدد، كانت من أهم السياسات التي اعتمدت على مدى العقود الماضية، فهذه السياسات أخذت أبعاد مختلفة، ففي العهد البهلوي كان النظام يجبر المواطنين الكورد، وغيرهم من الشعوب الأخرى، على تقبل الثقافة الفارسية، وفرضها بالقوة، كما عمل النظام الحالي “الجمهورية الإسلامية” على فرض المذهب الشيعي أيضاً بالقوة.

وتعتبر هذه السياسات من الأساليب الأكثر خطورة على مستقبل الشعوب في جغرافية إيران، بحيث مزجت الجمهورية الإسلامية، القومية الفارسية بالدين الصفوي، مما للدين حالة روحانية يصعب على المواطن العادي تمييزها، لذلك تأتي خطورة سياسات النظام الحالي الذي تلبس بـلبوس الإسلام من هذه الناحية بالتحديد، ألا وهي اللعب على الوتر الديني.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، تأتي سياسة التفريس لمدينة “كرماشان” في العهد البهلوي من خلال الأساليب الثقافية الفارسية، تتم سياسة التفريس المعتمدة في هذه المدينة الكوردية العريقة من قبل النظام الإسلامي الحالي عبر الترويج للمذهب الشيعي الصفوي، مما أدى إلى تحول هذه المدينة إلى مركز لإنطلاقة التشيع في غرب جغرافية إيران حيث توجد العاصمة الكوردية، والمدينة السنية لكوردستان الشرقية. بالطبع الاستيعاب والتطهير الثقافي الممنهج للشعوب غير الفارسية يختلف في النوعية والأساليب والشدة المتبعة مما يتطلب دراسة مفصلة.

كما أن من سياسات التدمير والتطهير التاريخي والثقافي للأماكن التاريخية في الأحواز(عربستان) على سبيل المثال، تدمير الأبنية التاريخية، وخاصة قصور الشيخ خزعل الكعبي آخر أمراء الأحواز. وكذلك تم في كوردستان سرقة الوثائق التاريخية والقديمة، ونُسِبت للفرس وتاريخهم. وقد تمت هذه الجريمة من خلال عصابة هاشمي رفسنجاني برئاسة نجله مهدي هاشمي رفسنجاني، عبر السطو والسرقة للآثار التاريخية الخاصة بالكورد وعمقهم التاريخي في موطن أجدادهم حيث يسكنون فيها منذ القدم.

تتميز كوردستان الشرقية بخصوصيتها وبتعدد لهجاتها وديانتها، واستغل النظام الإيراني هذه الخصوصية بأفضل الطرق لزرع الفتنة والكراهية بين مختلف فئات المجتمع الكوردي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عمل النظام على هذا التنوع بحيث ضرب الشيعي بالسني، والكوردي بالتركي، ولاسيما أصحاب اللهجات المختلفة ببعضهم بعض، كما شكلت هذه السياسة “فرق تسد” حالة من عدم الثقة بين المواطنين، انتقلت من المدن إلى القرى والأرياف، وتعتبر هذه السياسة من خصوصية النظام الإيراني ليس داخل حدود إيران فقط، إنما أخذت بعداً إقليمياً تجاوز حدود إيران الحالية.

ووفقاً للبيانات والمعطيات التاريخية، فإن كوردستان أرض وموطن لكافة الأديان السماوية، حيث يشير الواقع إلى أن الأكثرية الساحقة للكورد من المذهب السني، لكن يوجد منهم المسيحي، واليهودي، والشيعي، وغيرهم من أصحاب المذاهب، والديانات التاريخية الأخرى، الذين تعايشوا مع بعضهم بعض دون أدنى مشكلة تذكر، وعلى مدى العصور والأزمنة التي مرت بها كوردستان الشرقية التي تقع حالياً في جغرافية إيران. لكن ومع الاسف الشديد، في المقابل طبق الفرس تعاليم المذهب الشيعي الصفوي السياسي الرافض للأديان والمذاهب الأخرى، على كافة مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وعلى سبيل المثال، فإن معاداة العرب ليس أسلوباً توجهه الحكومات الإيرانية فقط، بل هو ظاهرة متفشية في كافة مفاصل المجتمع الإيراني، بحيث تقول الكاتبة “دلارام مشهوري” في كتابها “رگ تاک” إن المذهب الشيعي كالأرض المالحة التي تمنع أن تنبت البذرة فيها.

ومن المقولات الخاطئة التي يتم تداولها، بأن العرق الكوردي يعتبر من ضمن مفرزات الحضارة الفارسية، وهذه المعلومة الخاطئة كلياً، لأن واقع الأمر غير ذلك، بحيث إن هنالك تباعداً حقيقياً في التاريخ والعرق والانتماء والدين، وكذلك في أسلوب الحياة الذي يتمييز الكوردي من خلاله عن العرق الفارسي، ولا سيما أن الوثائق التاريخية تفيد بأنه لا توجد أية رغبة للأكراد في العيش المشترك مع العرق الفارسي، والأحداث التي حصلت في الماضي البعيد والقريب تدل على ذلك. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما حصلت الحرب بين الامبراطورية العثمانية والصفويين في عام 1514 للميلاد، والتي عرفت بحرب “جالدران”، وعلى الرغم من أن كوردستان الشرقية كانت ضمن الأراضي التي يسيطر عليها الصفويين، لكنها كانت في الصف التركي، وحاربت مع العثماني ضد الصفويين. وهناك نماذج كثيرة تدل على أن الإنتماء القومي ليس بإتجاه المركز الإيراني، بل على العكس تماماً، فهو باتجاه أشقائهم في العمق كوردي المحصور بين الدول الأربعة والمعروفة.

حاول الكورد في شرق كوردستان والتي تعرف بـ “كوردستان إيران” مرات عديدة أن يلتحقوا بأشقائهم في كوردستان العراق لكنهم لم يفلحوا، وذلك بسبب الظروف المعقدة في تلك الحقبة من التاريخ الذي كان الاستعمار سيد الموقف فيه، وبعد رسم الحدود في تلك الآونة من تاريخ المنطقة أعقاب معاهدة “سايكس – بيكو”، وتشكيل الدولة الحديثة في جغرافية إيران الحالية، وإنشاء دولة مركزية، حاول الكورد أن ينالوا حقوقهم التاريخية والقومية والشرعية من خلال الحكم الذاتي، أو الفدرالي، لتحسين وضعهم، وذلك على الرغم من آمالهم في تشكيل دولتهم المستقلة ذات يوم.

إن إنتماء الكورد في إيران الحالية لعمقهم القومي في كوردستان الكبرى كما يحلو للكورد تسميتها، يمكن فهمه وتعريفه بالنفور الحقيقي من إيران الحالية، وهذا توجه عام لدى كافة الشعوب القاطنة في هذه البقعة من العالم، والذين يرفضون العيش مع القومية الحاكمة، ألا وهي القومية الفارسية التي تحكم إيران بالقوة، ولو كان غير ذلك لما دائم حكمها أبداً.

فالتاريخ الإيراني مجموعة من جملة أكاذيب وتزوير لمجريات تاريخية دَوَّنَها لهم اليهود. بحيث يقول أحمد كسروي عن إيران: “إن إيران برميل من القذارة التي عمت رائحتها العالم أجمع”. كما يقول أيضاً ايراوند آبراهاميان: “إن الإيراني يرى الوصول للثروة والثراء من خلال تدمير جاره”. كما إن هذا النوع من التفكير هو عجين في الثقافة الفارسية بل ظاهرة يمتاز بها الفارسي، لذلك نرى الإعدامات المستمرة منذ تسعة عقود بحق أبناء الشعوب غير الفارسية (الكوردي والأحوازي والبلوشي والآذربايجاني)، وهي أسلوب طبيعي ومعتمد من قبل السلطات الفارسية.

من المشاكل الأساسية التي تعاني منها الشعوب في جغرافية إيران، هي المفاهيم السياسية لتعريف المواطنة والحقوق القومية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: مفهوم “المصطلح السياسي”، الذي اعتمد من قبل صناع القرار الإيراني لـ “تسمية إيران” في عام 1934، حيث تم تغير مفردة بلاد فارس إلى مفردة إيران، والتي تنفي كلياً دلالة وجود الشعوب الأخرى في جغرافية ما تسمى إيران حالياً. وفي واقع الأمر فإن تسمية إيران تم تداولها أعقاب الثورة الدستورية، عندما هدد الثوار الأتراك في أذربايجان الجنوبية بالاستقلال عن بلاد فارس في تلك الحقبة من تاريخ إيران، بحيث يذكر “ناظم السلام کرماني” مؤسس المجمع الخفي في الحقبة التي عرفت بالثورة المشروطية، (بنیادگذار انجمن مخفی در عصر مشروطیت)، في كتابه المشهور، والذي عنونه بـ تاريخ صحوة الإيرانيين “تاریخ بیداری ایرانیان”، أن مفردة الأمة الإيرانية سُمِعت للمرة الأولى في الاحتجاجات الشعبية ضد عملية إعدام اثنين من خيرة تجار السكر في طهران، كما يرى “كنت دوغوبينو” ممثل فرنسا في طهران في عام 1850، فإن جغرافية إيران الحالية هي مجموعة شعوب (الفرس والكورد والعرب والترك واليهود).

بعد ظهور رضاخان البهلوي في عام 1920 وإنشاء الدولة الحديثة في إيران، تحول الفرس إلى شعب، وبقت الشعوب الأخرى دون ذلك الحق. هذا التوجه الجديد تم تنفيذه بواسطة الثروة النفطية، والمذهب الشيعي، والقتل الذي مارسته السلطات الفارسية طوال العقود الماضية، ومازالت مستمرة في نهجها العدواني تجاه الشعوب في إيران، على الرغم من تغير النظام البهلوي الملكي إلى نظام جمهوري إسلامي.

هذا التوجه الذي كان الهدف من وراءه التطهير العرقي والثقافي والتاريخي للشعوب، دفع السلطات الفارسية إلى تبني مفهوم “الأمة الإيرانية”، بما لها من دلالات معينة تهدف من خلالها إلى نفي الشعوب كلياً، من خلال منعهم من ممارسة عاداتهم، وتقاليدهم، ورسومهم، وآدابهم، وخاصة منع هذه الشعوب من التحدث والتعلم بلغاتهم التي تعتبر الموروث التاريخي والفكري، والذي من الممكن أن يحافظ على وجودهم في ظل السياسات التعسفية الرامية للتخلص منهم.

يعتبر تأسيس جمهورية كوردستان في “مهاباد” عام 1946، أهم الإنجازات السياسية لنيل الحقوق في إيران، كما كانت أول شرارة للحرب الباردة بين الشرق والغرب حول إيران، على الجمهوريتين أذربايجان الجنوبية وكوردستان، بحيث تصارعت القوى الاستعمارية للسيطرة على هذه الجمهوريات الفتية، مما أضاع حقوقهم نتيجة للصراع بين هذه القوى، والتي أدت بدورها إلى أن تضرب السلطات الفارسية بيد من حديد كافة المطالبات الحقة لهذه الشعوب في فترات متلاحقة، وإلى يومنا هذا.

فالمشكلة الأساسية التي تواجه الشعب الكوردي، هي نفسها التي تعاني منها باقي الشعوب في إيران، فجميع الثروات والسلطات بيد الفرس، كما يسيطرون على كافة الإدارات والمراكز الحيوية للدولة. هذه المشاكل السياسية عبر عنها أحد مندوبي النظام في المجلس الشورى عندما قال: “إن ميزانية محافظة يزد الفارسية، تعادل 300 مرة أكثر من ميزانية محافظة كوردستان”.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن ما يقارب 2 مليون من العمال الأكراد يذهبون للعمق الفارسي بحثاً عن العمل والرزق، بينما أقل من مئة ألف من الفرس يتحكمون بمقدارات الكورد الاقتصادية في موطنهم الأصلي. علماً أن 2 مليون كوردي من أصل 7 مليون في كوردستان الشرقية (كوردستان إيران) يعملون خارج موطنهم وفي المهن متدنية الأجور والصعبة في نفس الوقت. ويشكل هذا الأمر فاجعة حقيقية لهذا الشعب، وله تبعات خطيرة في المستقبل، مما قد يوصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه بين الشعوب والحكومة المركزية في طهران.

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق