فرضيّاتٌ وأسئلةٌ في الهُويّة السوريّة: (1) تناقضات الهُويّة لدى موالي النظام في حلب

تتطلّب عمليّة إعادة بناء الدولة السوريّة، الاشتغال الحثيث على عدّة مداخل وأسسٍ بنائيّة، تتجاوز الموضوعات الماديّة والإعماريّة، إلى مواضيع إعادة بناء الهويّة السوريّة، بعد التخريبين الكبيرين الذين لحقا بها: التخريب السلطويّ الأسديّ-البعثيّ، في الفترة السابقة للثورة، والتخريب الحاصل إبّان الثورة. إعادة البناء الهويّاتيّ هذه، تحتاج دوماً إلى قراءة مفردات هذه الهويّة وإشكاليّاتها من زوايا عدّة، وإعادة ملاحظتها في أزمنةٍ متفرّقة، وهو ما يساعد على الإحاطة بجوانبها، وتفكيكها.

وتحاول هذه المادّة تقديم بعض الفرضيّات المتّصلة بالسلوك السياسيّ للمجتمع السوريّ فترة الثورة (مع ارتباطها الزمنيّ السابق)، أو لشرائح محدّدةٍ منه، وهو ما يعني أنّ هذه المادة تقع فعليّاً ضمن مجال علم النفس من جهة، وعلم النفس السياسيّ والاجتماعيّ بشكلٍ أخصّ، وحيث أنّ اطّلاعي يبقى محدوداً على هذا الاختصاص، لذا فإنّني لا أفترض أنّ جميع ما سيرد لاحقاً سيكون مكتمل الأركان معرفيّاً، بل أعود للتأكيد على أنّها فرضياتٌ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الاختبار والتدقيق والنقاش العموميّ.

وإن كانت هذه المادة تحاول رصد بعض السلوكيّات المجتمعيّة في سوريّة، إبّان الثورة، إلّا أنّها ترمي إلى محاولة استدراك الإشكاليّات التي ستواجه المجتمع السوريّ في مرحلة إعادة بناء الدولة، بغضّ النظر عن شكل البناء هنا، سواءً مع الحفاظ على شكل الدولة الحالي، أو عبر إعادة رسمه. إذ إنّ الشرائح المقصودة في طيات هذه الصفحات، تمتدّ على كافّة الفئات المجتمعيّة (إثنيّاً، وثقافيّاً، وجغرافيّاً، وسياسيّاً)، ضمن مجموعة فرضيّات، سيتمّ صياغتها بالتوالي.

أي أنّني أتطلّع إلى تناول عدّة إشكاليّاتٍ قائمة في الهويّة السوريّة، عبر عدّة مواد، وتحت ذات العنوان: “فرضيّاتٌ وأسئلةٌ في الهويّة السوريّة”، مع عناوين فرعيّة لكلّ مادةٍ منفصلة.

لتكون البداية، أو الملاحظة الأولى في مشكلة الدراسة (الهويّة السوريّة)، انطلاقاً من مجتمعٍ محدِّد، أو مجتمع الشبيحة/المنحبكجيّة، أي المجتمع الموالي لنظام الأسد، وخصوصاً في مدينة حلب، قبل بناء فرضيّةٍ ومحاولة ملاحظتها في ذات المجتمعات الموالية للنظام خارج مدينة حلب، ومن ثمّ ملاحظتها في الشرائح المجتمعيّة الأخرى (الرماديّة، والمعارِضة/الثوريّة).

وخصوصاً أنّ حلب تحديداً، شهدت انقساماً مجتمعيّاً واسعاً وحادّاً حول الحراك الثوريّ/الاحتجاجيّ، بحيث كان لكلّ طرفٍ جمهوره الواسع، وأثره الفاعل في مسار الثورة والسلطويّة. وللتأكيد، فإنّ هذه المادة ستتناول الجمهور السلطويّ فحسب، أو التناقضات الهُوياتيّة التي حملها هذا الجمهور.

إنّ الملاحظة الأوليّة التي بلورت مشكلة الدراسة –إن صحّت تسميتها بمشكلة دراسة-، قامت في مجتمعٍ من المفترض أنّه مجتمعٌ تمّ تبعيثه –أدلجته وفق مبادئ حزب البعث السلطويّة-، بمعنى أنّه يؤمن –ولو نظريّاً- بالمبادئ القوميّة العربيّة تحت شعار –أمّةٍ عربيّةٍ واحدةٍ ذات رسالةٍ خالدة-، بالإضافة إلى أنّه مجتمعٌ ملتزمٌ بقِيَمِه الدينيّة –الإسلام السنيّ-، وبالتالي فإنّه –افتراضيّاً- كان يجب أن يكون نتاج هذه الولاءات أو الانتماءات البنائيّة الأوليّة، مجتمعاً ثوريّاً يرفض إهانة النظام لهويّاته الفرعيّة الدينيّة والقوميّة، ويصطفّ إلى جانب الحراك الثوريّ، بهدف تنقية هذه الانتماءات (الهويّات) من التخريب السلطويّ الممتدّ لنصف قرنٍ من جهة، وإعادة إنتاجها ببعدها الحضاريّ من جهةٍ أخرى.

وخصوصاً أنّ النظام طالما استخدم الموضوعين الدينيّ والقوميّ (القوميّ بمفهوم البعثيّ الحزبيّ) في قمع المجتمع الحلبيّ، من خلال تخويفه بالسلطة الحزبيّة تحديداً (حظوة الموظّف الحزبيّ (البعثيّ) في حلب التي لم ينخرط أبناؤها كثيراً في حزب البعث)، وارتباط كثيرٍ من رجالات الدين في حلب بالسلطة واستخباراتها ثانياً ودورهم في الترويج السلطويّ من جهةٍ وفي كتابة التقارير في مريديهم من جهةٍ أخرى، واشتراط ترقيتهم الوظيفيّة بالانفكاك عن الحاضن المجتمعيّ الحلبيّ مكانيّاً وحضاريّاً (أحمد حسون مثالاً).

ويُضاف إلى الافتراض السابق، أنّه –المجتمع الحلبيّ- مجتمعٌ حضاريٌّ –يتمايز عن البنية الإثنيّة للسلطة، المتخلِّفة حضاريّاً-، وهنا الحديث عن مدينةٍ تُعتَبر الأقدم تاريخيّاً والأعرق حضاريّاً في مواجهة سلطةٍ تنتمي لما بات يُعرف بالعلويّة السياسيّة التي لم تُقدِّم أيّ منجزٍ حضاريّ، سواء خلال نصف القرن الفائت، أو عبر الامتداد التاريخيّ للجماعة الإثنيّة العلويّة. بل على العكس تماماً، فإنّها قامت على تهديم المنجز الحضاريّ والقيميّ والأخلاقيّ للعموم السوريّ، والاستعاضة عنه بحالة التأخر الحضاريّ والقيميّ والأخلاقيّ لمجتمع “الضيعة المتأخِّرة حضاريّاً بفوارق غايةٍ في الاتساع”، والتي نشأت فيها السلطة (العلويّة السياسيّة).

وتمتدّ المقارنة رابعاً، بين حلب المدينة والسلطة المتخلّفة، إلى البعد الاقتصاديّ، حيث شكّلت حلب مركز الثقل الصناعيّ والتجاريّ، ومنه بالتالي التواصل مع العالم الخارجيّ (التواصل الاقتصاديّ والحضاريّ، بمعنى تصدير القيم الحضاريّة الذاتيّة واستيراد قيمٍ أخرى ترفع مستوى التحضّر الحلبيّ كذلك)، في وقت عمدت فيه السلطة –تحديداً سلطة الأسد الأب- إلى تقويض البناء الصناعيّ السوريّ وتهديمه وإعادة توزيعه زبونيّاً على جماعته الإثنيّة ومجموعته السياسيّة، تحت حجج الاشتراكيّة (الناصريّة)، والتي كانت كسائر الاشتراكيّات العربيّة اشتراكيّةً تهديميّةً وإعادة تدوير رأس المال لصالح القوى السياسيّة المهيمنة. أي أنّ التناقض يتّسع وخصوصاً أنّ الأسد الأب تابع تقويض حضاريّة حلب بحصارها (أو تقزيمها سياسيّاً من خلال ضربها اقتصاديّاً)، والمقصود هنا منع تقدّمها من جهة، ومنع حصولها على أسباب هذا التقدّم (الاقتصاديّ والحضاريّ) على الأقلّ، وهو ما استمرّ حتى عام 2000، حين قرّر الأسد الابن العودة إلى حلب مرة أخرى بحثاً عن شرعيّةٍ لم يستطع نظام توريث السلطة منحها إيّاها (وخصوصاً أنّ الأسد الأب حاز على شرعية انقلاب 1970 من خلال حلب بالأساس).

والتناقض الخامس بين حلب والسلطة، يمكن في الثقل الديموغرافيّ الحلبيّ، سواءً على مستوى المدينة أو على مستوى المحافظة. وخصوصاً أنّ مدينة دمشق، المعادِل والمُوازِن والتوأم الحضاريّ لمدينة لحلب، قد تمّ العبث بتركيبتها السكانيّة إلى درجةٍ فقدت هويّتها الديموغرافيّة، سواءً عبر طرد سكّانها إلى ريفها –طوعيّاً في الظاهر، وقسريّاً حقيقةً ومعاشيّاً-، أو عبر توطين جماعة ومجتمع السلطة فيها بطريقةٍ أشبه بطرق الاستيطان الاحتلاليّ وليس بهدف إحداث تكاملٍ هويّاتيٍّ عبر مزيد من الإدماج الاجتماعيّ، أو سواءً عبر تعمّد سوء تخطيطها عمرانيّاً بما يهدمها ديموغرافيّاً ويقطّعها أمنيّاً.

بالعودة، فإنّ حلب –وفق المعادلة السابقة- كانت تشكّل الثقل الديموغرافيّ الذي يتجاوز بحدود أربعة إلى خمسة أضعافٍ ديموغرافيّاً، السلطة الإثنيّة أو السياسيّة حتّى، بل والحزبيّة البعثيّة كذلك. أي أنّها كان من المفترض أن تكون قاطرة الدولة لا مقطورةً متأخِّرةً في مسار السلطة.

وفيما كانت المدن الصغيرة (دون المليونيّة)، هي الفاعلة الأولى والمطلِقة للحراك الثوريّ/الاحتجاجيّ، فإنّه كان من الطبيعي أن تتأخّر مدينةٌ مليونيّةٌ مثل حلب، إلى حين استنهاضها، في ظلّ ذاكرةٍ جمعيّةٍ سياسيّةٍ تعود إلى ثمانينيّات القرن العشرين –لا تشاركها سوى حماة وبعض مناطق إدلب-، تؤخِّر –لحظيّاً- حراكها، إلى حين التأكّد من مسارات الحراك الثوريّ/الاحتجاجيّ وفاعليه.

ربّما كان الحراك الحلبيّ الثوريّ/الاحتجاجيّ متمايزاً عن باقي الحراكات السوريّة، ففي حين امتدّت تلك الحراكات لتشمل كافّة شرائح المجتمع (الطبقيّة)، فإنّ الحراك الحلبيّ كان أكثر نخبويّة، بل ربّما بالكاد امتدّ خارج الإطار النخبويّ (طلاب جامعات، محامون، مهندسون) من الطبقة المتوسطة والمتوسطة العليا، إلى بعض الشرائح الأخرى الأعلى والأدنى.

وهنا لابدّ من التنويه إلى أنّ مصطلح الطبقة المتوسِّطة والمتوسِّطة العليا، يبقى نسبيّاً، إذ إنّه سبق وتمّ تهديم هذه الطبقة اقتصاديّاً وقِيَميّاً وإعادة إنتاجها وفق توجّهات السلطة من جهة، فيما بدأت تتلاشى(خارج حلب) بشكلٍ متسارعٍ منذ عام 2006، أو مع توسّع الانفتاح النيوليبراليّ الأسد-مخلوف.

وكانت السلطة قد اشتغلت في السنوات الأخيرة على إعادة تأهيل حلب ومكانتها لدى السلطة، وهو ما أنتج حراكاً اقتصاديّاً رفع من مستوى معيشة الفرد (المستقِرِّ في حلب وليس الوافد حديثاً إليها)، قبل أن تُشكِّل منطقة جذبٍ مرةً أخرى للأرياف الشرقيّة التي ضربها الجفاف من جهةٍ أخرى. وذلك بالاستفادة أيضاً من الانفتاح على تركيا. غير أنّ ارتفاع مستوى معيشة الفرد الحلبي –وليس دخله فقط-، كان على حساب مناطق أخرى ترتفع فيها نسب البطالة والفقر، في ظلّ السياسات النيوليبرالية للأسد-مخلوف. أي في ظلّ حالة احتقانٍ معاشيٍّ خارج حلب، لم تستوعبه الثقافة العموميّة في حلب إبّان انطلاق الثورة.

هذا الفارق المعاشيّ، ساعد لاحقاً في رفع مستوى الاستعلاء على الآخر من طرف قاطني حلب من جهة، وجعلها مطمعاً لزبونيّة السلطة، حيث يُنقَل إليها وظيفيّاً من ينال حظوةً لدى السلطة، ضمن آليّة توزيع منافع الفساد، والتي كان أهل حلب –وما زالوا- الأبرع في قراءة مداخلها، واستحداث آليّاتٍ وثغراتٍ في القوانين الناظمة، تُكرِّس الفساد من جهة، وتساعد في حصولهم على مبتغاهم دون الاضطرار إلى الخضوع لذات الشروط التي يخضع لها باقي المواطنين (الإخلال بمبدأ المساواة بالمواطنة).

لست أميل غالباً إلى تناول القضايا السياسيّة بمنظور الاقتصاد الماركسيّ السياسيّ، ولكن في الحالة الحلبيّة، كان للاقتصاد دورٌ مهّمٌ في عدم الانفكاك عن السلطة، وخصوصاً بعد عقود من الإهمال والحصار السلطويّ. بل إنّ ذلك كان المبرّر الأوّل في الإصرار على الارتباط بالسلطة، بغضّ النظر عن أخلاقيّاتها أو هويّتها ولو كانت سلطةً محتلّة (التبشيريّات الإيرانيّة أوّلاً والاحتلال الإيرانيّ لاحقاً، ومن ثمّ الروسيّ)، وهنا الحديث عن الشرائح الحلبيّة التي رفضت الانخراط في الحراك الثوريّ، أو حتّى تأييده ولو سراً.

غير أنّ هذه الفرضيّة (فرضيّة المصلحة الحلبيّة الاقتصاديّة)، ليست مطلَقةً كليّاً، بل هي نتاج فرضيّةٍ أخرى، وهي الخشية من العودة إلى ما قبل عام 2000، بعد تنفّس الصعداء، وما تقترن به الذاكرة الجمعية من طوابير الخبز الطويلة، وقلّة وسائل المواصلات العامّة (فكيف بالخاصّة)، رغم أنّ ذلك كان حال عموم سويّة. أي أنّ السلطة عمدت من خلال فِعلَي المحاصرة/الانفتاح، إلى إظهار نتائج سياستيّ العقاب/الثواب، وهو ما أفسد المنظومة القِيَميّة والأخلاقيّة المحافِظة، وجعلها في موضِع مساومةٍ معاشيّة (والمعاشيّة هنا بما تتضمّنه من حالة استعلاءٍ على باقي شرائح المجتمع السوريّ).

على أنّ الاندفاع نحو السلطة في حلب، لم يكن فعلاً نخبويّاً خاصاً برجال الأعمال، بل حتّى بأصحاب الأعمال الصغيرة، وصولاً إلى أصحاب الدخل المحدود (المحدود مقارنةً بدخل قرنائه في حلب وليس خارجها). وعلى قلّة العاطلين عن العمل، امتدّت إليهم هذه الحالة أيضاً، وأذكر هنا، كيف رفض “مثقفٌ” سلطويّ حلبيٌّ حراك درعا الثوريّ، لا لشيْ، إنّما لمجرد أنّه حراك “فلاّحين”، مُطالباً بتصفيتهم.

ومما عزّز حالة الاستعلاء لدى مجتمع حلب، هو حالة الكراهيّة التي تمّت تغذيتها لدى الآخرين تجاه حلب المدينة والمحافَظَة، حيث دفعت السلطة خلال العقود السابقة إلى تصوير حلب لدى الآخرين من السوريّين، على أنّها (الخليج)، والمقصود هنا أنّها منطقةٌ غنيّةٌ ماليّاً متخلِّفةٌ اجتماعيّاً (وهو ذات رؤيّة السلطة لدول الخليج العربيّ). بل إنّ “مثقفاً” حلبيّاً سلطوياً آخر (من المحسوبين على الثورة اليوم) لم يرَ في حلب سوى أنّها منطقة لممارسة الطعام والجنس فقط.

وهنا لابدّ من التنويه ثانية، إلى أنّ شرط الانفكاك الحضاري والجغرافي عن حلب من قبل أبنائها، كان شرطاً أساسيّاً للارتقاء الوظيفيّ والسلطويّ والنخبويّ.

فعلان متضادّان (الاستعلاء على الآخر حلبيّاً، وكراهية الحلبيّ في عموم سوريّة)، أنتجا بالمحصلة انطواءً حلبيّاً على الذات، دفع شرائح واسعةً للانضمام إلى النظام، والتخلّي عن منظومة القِيَم والأخلاق بل والبعد الحضاريّ، على اعتبار أنّ النظام وحده هو القادر على تأمين هذا الانطواء وعزل حلب عن محيطها (الأدنى منها)، ففي مقابل خصِّها بمنافع زبونيّةٍ عن سواها اندفعت كثيراً في تأييد السلطة.

بالمحصلة، ظهر في حلب (المدينة)، مجتمعان منفصلان فكريّاً وسياسيّاً، متّصلان بكلّ أسباب الاتصال الجمعيّ القرابيّ والثقافيّ. ففي حين أدركت النخب الشابّة تحديداً ما يشتغل عليه النظام وحجم المسؤوليّة الملقاة عليها في تخليص حلب، فإنّها انخرطت مبكِّراً في حراكٍ ثوريٍّ سلميٍّ واعٍ، في حين كان المجتمع الآخر يرفضها قبل أن يحاصرها ويساعد في تقويضها، أو اعتقالها، أو تصفيتها، أو تهجريها قسراً إلى الأحياء الشرقيّة أو إلى خارج المدينة.

هذا الاشتغال السلطويّ لم يكن حكراً على حلب، بل هو كما وصفه أحد طلابيّ، بأنّه اشتغالٌ ذو “عمقٍ تاريخيٍّ لمدة أربعين سنة من الاستبداد راكمت الكثير من الرواسب التي شكّلت أمراضاً اجتماعيّةً سنحت لها الفرصة فظهرت في هذه الظروف”. إلّا أنّ هذه الرواسب كانت ذات نتائج مختلفةٍ بين حلب وسواها، إذ ورغم ظهور جماعات شبيحة/منحبكجية محليّة في عدّة مناطق من سوريّة، أيّ من ذات الحاضن الاجتماعيّ الثوريّ، كما الحال في حلب، إلّا أنّ كراهية الآخر (وهنا الآخر هو الذات، حيث أنّ الآخر هو الأخ والجار)، لم تظهر بشكلها العنفيّ المفرِط سوى في حلب.

إذ ما زال من الطبيعيّ (ليس طبيعيّاً بالحقيقة) مشاهدة منحبكجيّة من مدينة دمشق حتّى الآن، لكن من النادر أن تظهر شماتتهم بما يجري في الغوطة على سبيل المثال، أو مطالبهم بإبادة الغوطة. رغم أنّ ساكني دمشق (من غير أهلها، وتحديداً ساكنيها من جماعة السلطة إثنياً وزبونيّاً) يهلِّلون مع كلّ صاروخ ينطلق باتّجاه الغوطة. إلّا أنّ التشفّي بالغوطة لم يكن فِعلاً دمشقيّاً، كما هو الحال في حلب حيث يتمّ التشفيّ بأحيائها الشرقيّة أو بريفها المعرَّض للقصف طيلة السنوات السبع الماضيّة (وما زال)، وصولاً إلى الاحتفال على أشلاء جثث ربّما كانت لأقارب لهم.

وترافقت الكراهيّة المفرطة تجاه الآخر المُختَلِف سياسيّاً، بإسقاط كلّ الاعتبارات القيميّة والأخلاقيّة، رغم أنّ المظاهر الدينيّة والادّعاءات الأخلاقيّة ما تزال قائمةً لدى هذه الشرائح.

هذه المقدّمة –الطويلة نسبيّاً- تدفع إلى بناء فرضيّةٍ/فرضيّاتٍ خاصّةٍ بحلب، وهي أنّ غياب/تغييب الهويّة الجمعيّة داخل هذه المدينة كان عملاً سلطويّاً تمّ الاشتغال عليه طيلة نصف قرن، بعدّة آليّات، منها آليّات العقاب والثواب بالتناوب بين الأسد الأب وابنه –على سبيل المثال لا الحصر-، وهو ما منع تشكُّل وعيٍ ثوريٍّ حقيقيٍّ (مليونيّ) داخل المدينة، كان له أن يُسقِط النظام في ساعاتٍ لو أنّه انتفض.

يُضاف إليها، فرضيّةٌ أخرى، خاصّةٌ بحلب أيضاً، وهي أنّ السلطة لم تستطع اختراق حلب المدينة (وريفها من باب أولى)، إثنيّاً، كما فعلت في دمشق وحمص، أي أنّها لم تستطع استقطاب الحاضن الإثنيّ العلويّ لها، حيث يتعمّق التضادّ القيميّ والأخلاقيّ (رغم أنّه يتعمّق كذلك في دمشق وحمص، غير أنّ هاتين الأخيرتين أكثر انفتاحاً من جهة، عدا عن تماسِّ حمص الجغرافيّ ومركزيّة دمشق في السلطة، وهو ما افتقدته حلب)، بل طالما شكّلت حلب منطقة طردٍ للعلويّين. فيما انحصرت عمليّات الاختراق الديموغرافيّ بالحالة الزبونية (السلطويّة والحزبيّة)، غير أنّها ظلّت رغم ذلك منوطةً بمناطق محيطةٍ بحلب (إدلب والرقة)، وهي مناطق تُشكِّل امتداداً إثنيّاً وقيميّاً وأخلاقيّاً لحلب، لذا اندمجت بالمدينة حتى غدت جزءً من بنيتها الاجتماعيّة.

تقوم هاتان الفرضيّتان، على مدخل أساسيّ بات جزءً من التاريخ السوريّ المعاصر، وهو أنّ حلب حتى عام 1980، كانت صانعةً رئيسةً للسياسات ومؤثِّرةً فيها، لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، وأنّه كان لابدّ من تهديم أدوارها حتى يتسنّى للأسد الأب تثبيت أركان سلطويّته ومن ثمّ العمل على تقزيم كامل الدولة السوريّة لتتناسب مع حجم سلطته.

يطرح البعض فرضيّةً أخرى، وهي أنّ قلّة من الحلبيين (نخبة)، هم من اعتنق قيم الحريّة والديموقراطيّة، وبالتالي فإنّ الأكثريّة المتبقِّية لم تنفر من جرائم النظام، بل استساغتها، لأنّها أتت متوافقةً مع توجّهاتها السياسيّة. هذه الفرضيّة تقوم على أساس أنّ غالبية سكّان حلب قد استساغوا المهانة التي فرضها النظام عليهم (المهانة السياسيّة والثقافيّة والحضاريّة والأخلاقيّة) مقابل الرفاهيّة الاقتصاديّة، وهي فرضيّةٌ يبدو أنّها مُصاغةٌ في أوساط النظام ذاته، بغية إحداث مزيدٍ من التهديم الحضاريّ لصورة حلب وأهلها، وإحداث مزيد من القطيعة بينها وبين باقي المجتمع السوريّ، وخصوصاً أنّ التاريخ قبل سلطويّة نظام الأسد يدحضها، عدا عن حراك نخبها الذي ما يزال قائماً ومستمراً.

فيما تقوم فرضيّةٌ أخرى، على الفرضيتين الأوليتين، بأنّ الاشتغال السلطويّ على تهديم القيم في حلب، أدّى في المحصِّلة إلى استسهال قيم الفساد والانحطاط التي روّجها النظام (ومجتمعه)، وتخلّي كثيرٍ من أهل حلب عن المسؤوليّة الاجتماعيّة تجاه سوريّة عموماً، مقابل الأمن والاستقرار الاقتصادي. وهو ما غيّر من أولويّات القيم في المجتمع، لترتفع القيم السلطويّة على حساب القيم الإنسانيّة.

من الأكيد أنّ انقلاب الموقف وتغيّره كليّاً واردٌ في الحالة الحلبيّة –وفي غيرها من الحالات- وبما يرتبط بمآلات الوضع السياسيّ والطرف المنتصر في المحصلة. لكن يجب عدم الركون إلى هذه النتيجة المؤكّدة، بل من الضرورة الاشتغال إلى إحداث مداخل حقيقةٍ تعيد بناء الهويّة في حلب، وفي عموم سوريّة، بما يضمن تنقيتها من التخريب السابق، وصيانتها من العبث السلطويّ ثانية، أي البحث عن بناء هويّةٍ متماسكةٍ وحضاريّة، لا متوائمة مع المتغيّر السلطوي فحسب.

أعود للتأكيد على أنّ ما سبق هو مجرّد فرضيّاتٍ مفتوحةٍ للنقاش العمومي، بناءً وتفكيكاً، بهدف استكشاف ما سنواجهه في مرحلة إعادة البناء، وتحضيراً فكريّاً مسبَقاً لتلك المرحلة، لربّما نمتلك من خلاله أدوات إصلاح المجتمع السوريّ وهويّته قبل أن نبلغ ذلك الاستحقاق فارغي الأيدي.

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق