فرضيّاتٌ وأسئلةٌ في الهويّة السوريّة: (2) مشقّات تجاوز التهديم السلطويّ للهويّة السوريّة

تتنوّع الإشكاليّات التي تقوم في بنية الهُويّة السورية، أو إبّان محاولة إعادة ترميم وبناء هذه الهوية، إذ تضمّ شروخاً أفقيّةً حضاريّةً وقِيَمِيّةً وجهويّةً وسياسيّةً وإثنيّة، ساهم نظام الأسد بتعزيز تنافرها. وهو ما يتطلّب إبرازها تماماً وتكراراً لعموم المواطنين؛ لبناء وعيٍّ عامٍّ بحجم التخريب أولاً، وبضرورة إعادة بناء الهويّة بالتمسك بمداخلها الأساسية، وعدم الانسياق للمداخل التي كرّسها نظام الأسد طيلة العقود الماضية. وهو مشابهٌ للحالة التي حصلت إبّان التخلّص من الإرث الشموليّ للشيوعيّة وتخريبها للهويّات المحليّة في دولها، وأنقل هنا عن كريستيان تيليغا الذي يقتبس من ياكوب:

“يفتقر الجمهور إلى فهمٍ ناضجٍ لـ “المقاساة/المعاناة” التي وقعت في ظلّ النظام الشيوعيّ، ويحتاج المرء إلى أن يشرح، حتى يتوافر، لديه هو، فهمٌ للطبيعة الإجراميّة للدكتاتوريّة … فتصوّر المرء لنفسه ضحيّةً لنظامٍ شموليّ، يُسفِر عن تفهّمٍ كاملٍ للفاعليّات الداخليّة للنظام … وهناك خطر تخليق ذاكرةٍ انتقائيّةٍ عن الشيوعيّة، تقوم على الخبرة الشخصيّة في المقام الأول، ولا تُلقِي بالاً للطبيعة القمعيّة للنظام (1)“.

في هذا السياق، تأتي هذه المادة في محاولة إبراز بعض أشكال التخريب الذي ألحقته السلطة الأسديّة بالهويّة/الهويّات السوريّة، حيث يمتدّ التخريب السلطويّ (الأسديّ/البعثيّ) للهويّة السورية طيلة العقود الماضية، إلى تحويل هذه الهويّة إلى مستوعَب هويّاتٍ متنافرةٍ إثنيّاً وسياسيّاً وجهويّاً، وذلك من خلال تعزيز خطوط الفصل الهوياتيّة بين المجتمعات/الجماعات المحليّة، ففيما كان التنافس الهوياتيّ قائماً، بل وسمةً أساسيّة بنّاءةً في التاريخ السوريّ –ومنذ تاريخ الدول المدن-، بل وشكّل محرِّكاً حضاريّاً للهويّة السوريّة قبل الانقلاب البعثيّ ثمّ الأسديّ.

إلّا أنّ السلطة الأسديّة عمدت إلى تحويله إلى حالة كراهية، وتغذية أسباب الكراهية فيما بين هذه الهويّات المحليّة أو القَبْلِيّة، وإعمال آليّات المحاصصة في الإدارة الزبونيّة للمجتمعات/الجماعات المحليّة، وهو ما أكّد الانطباع الذي كرّسته السلطة، بأنّ المجتمع السوريّ هو عدّة مجتمعات/جماعات/هويّات، تمّ تحشيدها خلف هويّةٍ سلطويّةٍ مفروضةٍ من الأعلى (اعتقاد أنّها هويّة وهميّة تتمثّل في الهويّة العربيّة الإسلاميّة لا قواعد لها في التاريخ السوريّ، رغم أنّ السلطة تعمّدت فرض شكلٍ مشوّهٍ من هذه الهويّة يوصل إلى هذا الاستنتاج، وكأنّها تدفع الناس رغماً عنهم وبشكلٍ غير مباشر بعيداً عن هذه الهويّة). وهو ما سيكون مبرِّراً لظهور دعوات الانفكاك عن الهويّة العربيّة والإسلاميّة (حيث ستزداد هذه الدعوات بعد الحراك الثوريّ/الاحتجاجيّ، سواءً ضمن مجتمع السلطة أو مجتمع الثورة)، بحجّة أنّ هذه الهويّة (السلطويّة) ما عادت قادرة على التعبير عن حقيقة الهويّة السوريّة.

وإن كانت مطالب الانفكاك الحضاريّ والقيميّ عن الهويّة العربيّة الإسلاميّة قائمةٌ لدى الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ منذ النصف الأول من القرن العشرين، إلّا أنّها كانت قائمةً إلى جانب الهويّة العربيّة-الإسلاميّة التي تدافع عن عمقها الحضاريّ بكل حريّة. غير أنّ الاشتغال السلطويّ الأسديّ قام بعد استبعاد كل مدافعٍ عن الأصاليّة الهوياتيّة (استبعادٌ عنفيٌّ قهريٌّ تصفويٌّ)، ما يجعل من الاشتغال السلطويّ أكثر خطورةً من طروحات القوميّين السوريّين، والذين لولا هذا الاشتغال السلطويّ لما بقيَ من مشروعهم سوى مخطوطات أنطون سعادة وتلامذته.

وهنا الحديث عن هويّةٍ قبل إسلاميّةٍ وقبل عربيّة، أي البحث عن هويّاتٍ افتراضيّةٍ ما عادت موجودةً إلّا كآثارٍ حضاريّةٍ موغلة في القدم (من مثيل: الكنعانيين والآراميين والفينيقيين والكلدانيين وسواهم)، على شكل بعض التماثيل والرقع الكتابية وأدوات معاشيّة بدائيّة. فيما يتمّ محاولة استحضار هذه الهويّة (البدائيّة) بشكلٍ عصبويّ تظهر فيه جليّاً محاولات الانتقام من الذات التاريخيّة، عبر إنكار تاريخ أكثر من 1500-2000 عام متّصلةٍ حتى الآن (باعتبار أنّ العرب جزءٌ رئيسٌ من سكّان المنطقة قبل الإسلام، وليس كما يروّج بعض مثقّفي السلطة (بل وحتّى بعض الخارجين عليها) بأنّه ليس للعرب من وجودٍ في سوريّة قبل الإسلام، في تزييفٍ صبيانيٍّ مفضوحٍ للتاريخ).

محاولات استحضار هويّاتٍ موغِلةٍ في القدم تتشابه مع محاولاتٍ في مناطق عربيّةٍ أخرى (الأمازيغ والفرعونيّة مثلاً)، لكنّها تبقى متخلِّفةً للغاية عنها، فعلى الأقل استطاعت بعض النخب الأمازيغيّة استحداث لغةٍ يمكن تعليمها (على المدى البعيد) للجمهور الأمازيغيّ في عمليّة تحشيد وبناء أمّةٍ/جماعةٍ أمازيغيّة واحدة، بعد أن استطاعت تكريس وجود هويّةٍ أمازيغيّةٍ متمايزة، ومن ثم استخدامها في التحشيد الإثنيّ للانفكاك الحضارّي عن البعد العربيّ والإسلاميّ للمملكة المغربيّة وعموم شمال إفريقيا. على أنها تظل حامِلَةً لحالة العداء والحقد التاريخيّ والتهديم تجاه كلّ ما هو عربيّ وإسلاميٌّ في عموم شمال إفريقيا.

غير أنّ الأمازيغية (كدعوةٍ أو جماعة)، وكذلك الكرديّة على سبيل المثال، هي بالأساس حالةٌ إثنيّة (عرقيّة) قائمةٌ حتى بالمعنى البيولوجيّ، بخلاف الإثنيّة السورية المفترَضَة وغير الواقعيّة سياسيّاً أو بيولوجيّاً أو هوياتيّاً. لذا فإنّ الدعوات المبعثرة في سورية للانفكاك الحضاريّ لم تقم سوى على فكرة العداء والحقد التاريخي والتهديم، ولم تحمل أيّة محاولات بناء هويّة بديلة بالمطلق (لأنّه لا توجد مقوِّماتٌ لهذه الهويّة)، بل إنّها تقوم على ما يمكن اعتباره مازوخيّةً هوياتيّةً سوريّة (فرديّةً يتمّ الاشتغال على تحويلها إلى مازوخيّةٍ هوياتيّةٍ جماعية) ، من خلال اعتبار الذات السوريّة (بالمعنى الإثنيّ) واقعةً تحت احتلالاتٍ وظلمٍ يمتدّ لخمسة عشر قرناً، وأنّ هذا الاحتلال (العربيّ-الإسلاميّ) أفقدها هويتها، وجعلها في حالة ضياعٍ كليّ، بحيث لم يعد بالإمكان البحث عن هويّتها الأصليّة إلّا من خلال الانفكاك الحضاريّ أولاً، بل والتخلّص من كل العرب والمسلمين في سورية بالنتيجة.

هذا المنطق يجد صداه في آخر خطابٍ قدّمه الأسد الابن عبر مفهوم المجتمع المتجانس، والمقصود هنا بالطبع التطهير العرقيّ والمذهبيّ بكل صفاقته السياسيّة، بما يُشكِّل إدانةً واضحةً ومباشرةً لا تحتاج إلى أدلّةٍ أكثر من هذا الخطاب، في حال توفّر نيّةٍ دوليّةٍ لمحاكته ورموز نظامه عمّا ارتكبه (ويرتكبه) من جرائم تجانس (جرائم إبادةٍ وتهجيرٍ وتطهيرٍ إثنيّ).

وربّما تكون السلطة ذاتها من سعى لترويج هذه الرؤية في الانفكاك الحضاريّ عن البعد العربيّ-الإسلاميّ، بغية انفكاكٍ عن الامتداد الهوياتيّ (عربيّاً وإسلاميّاً) من جهة، وبالتالي الانفكاك عن الشرعيّة التي يوفِّرها هذا الامتداد (أو بالأصحّ التي يحجبها هذا الامتداد في عدّة مناسبات عن نظام الأسد). وهو ما سيمكِّنه من ربط الهويّة السوريّة بأيّة امتداداتٍ هوياتيّةٍ أخرى قد تكون أكثر نفعاً لتكريس سلطويّة النظام (أكثر شرعيّة)، كما ظهر من خلال سعي الأسد الابن إلى ربط الهويّة السوريّة بالاحتلال الإيرانيّ وهويّته (سواء عبر تقنين فعل التبشير المذهبيّ أو من خلال استقدام الاحتلال بشكلٍ مباشر).

وذلك ربّما يقوم لأسبابٍ تتعلّق بالطبيعة الإثنيّة للسلطة (العلويّة السياسيّة) التي لم تجد في الهويّة العربيّة-الإسلاميّة مكاناً لها من جهة، عدا عن حالة الحقد التاريخيّ-الحضاريّ التي تحملها هذه الجماعة تجاه عموم تاريخ المنطقة، وبالتالي سعت لنقل حالة الحقد/الكراهية للتاريخ العربيّ والإسلاميّ، بل وتشويه كثيرٍ من هذا التاريخ المُدَقَّق والمُنَقّح والمُتاح لكلّ مهتّم، وتسويق هذه الرؤية المشوّهة بين شرائح عدّةٍ من السوريّين، الذي واجهوا حالة صدمةٍ حضاريةٍ (أو معرفيّةٍ بالأصحّ) بعد خروجهم من سورية (قسراً أو طوعاً)، من خلال اكتشاف حجم الزيف الذي بثّه النظام في المنظومة التاريخيّة. بالتأكيد فإنّ هنالك شرائح ورغم إدراكها لحجم هذا الزيف، إلا أنّها لم تجده زيفاً بل اعتبرت ما لدى الآخرين (كلّ العرب والمسلمين) زيفاً في مقابل الحقيقة (الأسدية/السورية).

محاولة ضرب ركنيّ الهويّة السوريّة (العربيّة والإسلاميّة)، أو أحد هذين الركنين، هو سعيٌ يتجاوز السلطة الأسديّة، بل يمتدّ إلى كلّ فاعلٍ سياسيٍّ يتطلّع إلى فرض رؤيته الخاصّة على كافّة الرؤى الأخرى، سواءً أكان بهدفٍ تهديميٍّ أو بهدفٍ تسلطيّ (من خلال فعل الإلغاء الهوياتيّ وإعادة التوجيه، وبالتالي إقصاء كلّ مخالفٍ بمختلف أشكال الإقصاء، بما فيها التخوين والتكفير). ومن ذلك بعض جماعات الإسلام السياسيّ، التي تجاوزت موضوع عروبة سوريّة أو حاولت التقليل من شأنه، أو إبراز أدوارٍ غير عربيّة للتقليل من شأنه، بل وأحياناً ربط حالة التأخّر “الإسلاميّ” بالارتباط المباشر بالعروبة، والمطالبة بالانفكاك عن العروبة والاحتفاظ بالبعد الإسلاميّ فقط في الهويّة السوريّة، وهو انفكاكٌ غير ممكنٍ إذ إنّه يشطر الهويّة الواحدة ويفقدها مقوّمات التوازن فالاستمرار. وهو ما تتطلّع إليه هذه الجماعات، بغية بناء هويّة تتناسب مع توجّهاتها الدينيّة-السياسيّة، والتي تُقدِّم لها –إن تمّت- شرعيّة التسلّط هي الأخرى على المجتمع السوريّ.

وفي مقابل انشطارٍ ما يزال يتشكّل في الهويّة السوريّة حول بُعدها الحضاريّ والقيميّ (عربيّ-إسلاميّ في مواجهة ما قبل عربيّ وما قبل إسلاميّ)، يظهر الانشطار السياسيّ الواضح جليّاً منذ عام 2011، حول البعد السياسيّ (الثوريّ/الاحتجاجيّ)، والذي قسّم المجتمع السوريّ إلى مجتمعين: مجتمع/جماعة الثورة ومجتمع/جماعة النظام، وهنا الحديث عن مجتمع بمعناه السياسي وجماعة بالمعنى الإثنيّ. حيث أنّ الموقف السياسيّ تجاه الحدث الثوريّ/الاحتجاجيّ تداخل بشكلٍ قويٍّ مع الانقسام الهويّاتيّ الإثنيّ لعموم الجماعات الإثنيّة في سوريّة.

وخصوصاً أنّ المجتمع السوريّ مجتمعٌ مركّب الهُوِيّة إثنيّاً، إذ يشتمل اجتماعه الأهليّ على المستوى المذهبيّ/الدينيّ على ما لا يقلّ عن 17 مجموعةٍ فرعيّةٍ، وإن كانت تجتمع عموماً في فضاء الدينين الإسلاميّ والمسيحيّ، لكن سياسات الانتداب الفرنسيّ حاولت لدواعٍ استعماريّةٍ وبهدف تقويض إرث الحركة العربيّة في عهد الملك فيصل (1918-1920)، أن تقوم بما يُصطَلح على تسميته بعمليّة “قومنة” على أساسٍ هُوِيّاتيٍّ طائفيٍّ ودينيّ، بل وحتّى محاولة “اختراع” قوميّاتٍ إثنيّةٍ على أساسٍ دينيٍّ طوائفيّ، مع أنّ ما لا يقلّ عن 90% من سكان سوريّة عرب، مسيحيين ومسلمين (2).

إذ تشكِّل سوريّة نموذجاً مرشِداً للدولة المشرقيّة لناحية التركيب المعقَّد إثنيّاً، ورغم غياب تحديدٍ دقيقٍ لهذا التركيب، إلّا أنّه باعتماد معدل وسطي بين عدة مصادر، يُقسِّم سورية قبل ثورتها وفق النسب التالية: مذهبيّاً: السنّة 75%، العلويّون والشيعة والمرشديّون 10% حيث يُشكِّل الشيعة أقل من 0.5% فيما يشكل المرشديّون نسبةً أقلّ من ذلك بكثير، المسيحيّون 7-10%، الدروز 3%، الإسماعيليّون 1%، آخرون أقلّ من 1%.  عرقيّاً: العرب 85-90%، الأكراد 6-8%، الأرمن 2-3%، التركمان 2-3%، السريان والآشور والكلدان 1%، الشركس 0.5%، آخرون أقلّ من 0.5%.

وقد شكّلت الثورة السوريّة عامل افتراقٍ مجتمعيٍّ واسع على مستوى الهُوِيّات الفرعيّة، ففي حين غدا غالبيّة المجتمع السنيّ حاضناً أساسيّاً للثورة السوريّة، فإنّ المجتمع العلويّ بدوره -ومعه الشيعيّ- وفي غالبيته كذلك، كان الحاضن الرئيس لنظام الأسد. وعلى أطراف هذين المجتمعين تباينت الولاءات/الهويّات السياسيّة للجماعات الأخرى وفق معادلة الثورة/النظام.

إضافة إلى ما عُرِف بالهُوِيّة الرماديّة التي لا تنتمي إلى أيّ منهما، رغم أنّها حقيقةً تميل إلى النظام أكثر منه إلى الثورة، أو إلى استعادة الوضع كما كان عليه بغضّ النظر عن التكلفة الاجتماعيّة والتاريخيّة والبشريّة، فهي حريصةٌ على السكون الحضاريّ وعدم إحداث تغييراتٍ كبرى في مسار المجتمع السوريّ، ترى أنّها غير جاهزةٍ أو غير راغبة بها، أو أنّه لا ضرورة لها، وتكتفي بقيام تغييراتٍ طفيفة.

وحيث من المعروف سوسيولوجيّاً –بالمعنى العلميّ وليس المعياريّ- في شروط الأزمات الكبرى والشدائد، أن تصطفّ الأقليّات الطائفيّة على نحوٍ متراص، إذ تتميّز الأقليّات عن الأغلبيّة، في مراحل انحطاط الهيئة الاجتماعيّة، بوجود شعورٍ داخليٍّ يوحِّدها في مواجهتها. فإنّ هذا ما يُفسِّر أنّ الأقليّات متراصّةٌ في الحالة السوريّة، بينما الأغلبيّة السنيّة منقسمةٌ حولها، فيبرز سلوك الأقليّة الطوائفيّ المرتاع، وسلوك الأغلبيّة المنقسِم بسبب عدم شعورها بأنّها أقليّة، مع انبعاث الترابطات العشائريّة والطوائفيّة والمناطقيّة، وحضور الوعي الأيديولوجيّ الزائف والمقلوب والعصابيّ، بالتناقض مع النظام، بوصفه تناقضاً طوائفيّاً، وكنايةً عن ذلك مع حزب الله وإيران، كمؤشِّر انحطاطٍ اجتماعيٍّ وسياسيّ، يشير إلى إخفاق عملية التكامل الاجتماعيّ أو الوطنيّ في سوريّة، نتيجة الاستبداد (3).

وقد اعتبر النظام الطوائف المسيحيّة حليفةً له تنتمي إلى الأقليّة وتبحث عن الشرعية، وحظيت برعايته وفق منطق “تضامن الأقلّيات” بين العلويّين والمسيحيّين في السلطة، حيث كان يخشى المسيحيّون من أن يصبحوا مهمَّشين –نتيجة تخويف النظام لهم- إذا تغيرت الأوضاع السياسيّة ووصلت الغالبيّة السنيّة إلى الحكم. في المقابل، أعرب النظام عن امتنانه لهم من خلال إعطائهم تمثيلاً سياسيّاً يتجاوز كثيراً حجم طائفتهم الحقيقيّ، فقد قدَّرت السلطات عددهم بأكثر ممّا هو عليه، بينما أساءت تقدير إمكاناتهم وقدراتهم الحقيقيّة. ورغم أنّ الحكومة والبرلمان يضمّان مسيحيّين، وخُصِّصت لهم مناصب في الجيش، إلّا أنّ ذلك على المستوى الفنيّ فحسب، فهم غائبون تماماً عن أجهزة الاستخبارات (4).

وقد كسر واقع الثورة هذا التضامن، من خلال حضورٍ نخبويٍّ بارزٍ من قبل الأوساط المسيحيّة إلى جانب الثورة، وفي مراكز قياديّةٍ منها، اتّسع ليشمل حراكاً داخل المجتمع المسيحيّ إلى جانب الثورة، وعليه فقد انقسم المجتمع المسيحيّ ولائيّاً ما بين النظام والثورة، خصوصاً عقب هجرة ونزوح كثيرٍ من المسيحيّين سواءً من المناطق الخاضعة لسلطة النظام أو لسلطة القوى الثوريّة إلى خارج سوريّة.

أمّا على مستوى الإسماعيليّين، فقد شهدت الثورة انخراطاً واسعاً لهم منذ الأيام الأولى، وخاصّةً في مدينة السلميّة، التي تشكِّل التجمّع الأكبر للحضور الإسماعيليّ في سورية، فيما شهدت التجمّعات الإسماعيليّة الأخرى حراكاً محدوداً؛ حيث تتميّز تلك التجمّعات بحضورٍ علويٍّ كثيف، وتاريخٍ من الصدام ما بين الطائفتين لغير صالح الإسماعيليّين (5)، قبل أن يتراجع الحراك الإسماعيليّ تحت القمع السلطويّ العنيف.

وقد سهّل تركّز الدروز في محافظة السويداء (جبل العرب)، النأي بالذات عن مجريات الأحداث، ورفض تحوّلهم إلى طرفٍ في مواجهة آخر، وخاصّةً أنّ النظام لم يقدِّم للدروز طيلة سنوات حكمه ما يُذكَر، فظلّت البنى الخدميّة متردّية، وظلّت حصّتهم من نظام الزبائنيّة محدودةً جداً، رغم تنسيب كثيرٍ من أبناء الدروز في حزب البعث. بل عمد النظام إلى عدّة محاولات ترهيبٍ للطائفة من محطيها السنيّ أولاً، وعبر ميليشيات الشبّيحة (الدرزيّة) داخل محافظة السويداء، أو في حيّ جرمانا في ريف دمشق، والذي كان يتميّز بكونه حيّاً درزيّاً، قبل أن يُعاد تشكيله بتوطين الشيعة العراقيّين عقب عام 2003. فيما تشهد محافظة السويداء محاولة توطينٍ جديدةٍ للميليشيات الشيعيّة العراقيّة واللبنانيّة والإيرانيّة، وهو ما شكّل دافعاً للابتعاد أكثر فأكثر عن سلطة النظام، ورفض التعاون معها، ورفض انخراط الشباب الدرزيّ في التجنيد الإجباريّ.

فيما مالت الأقلّيات السنيّة غير العربيّة، كالتركمان والشركس وسواها، إلى المجتمع الثوريّ، وإن كان لها بعض الحضور في أوساط النظام عبر أشخاص وليس كأقلّيات أو طوائف. وبالمقابل، كانت الأقلّيات المسيحيّة غير العربيّة، أقرب إلى النظام منه إلى الثورة، كالأرمن والآشوريّين والكلدان والسريان، وقد تعرّضوا لعمليّة تهجيرٍ واسعة ٍمن محافظة الحسكة، باتّجاه المدن التي تخضع لسيطرة النظام، أو إلى خارج سورية، سواءً من قبل القوى الكرديّة المسلّحة أو من قبل تنظيم الدولة الإسلاميّة.

فيما احتفظ الأكراد بنمطٍ هويّاتيٍّ وسياسيٍّ وعسكريٍّ خاصٍّ بهم، رغم تقاطعه مع الثورة والنظام معاً.

بالمحصلة، فإنّ الهويّة السوريّة في هذه اللحظة التاريخيّة، لم تعد قائمةً بذات المعنى الذي كان موجوداً قبل الفعل الاحتجاجيّ/الثوريّ، ويمكن ملاحظة ذلك بتشظيّ الطروحات والتطلعات حول مستقبل سورية وهويّتها إلى حدّ تأسيس مداخل صراعيّةٍ/نزاعيّةٍ-هوياتيّةٍ مستقبليّة أخرى. بل إنّ هذه الهويّة طالها كثيرٌ من التخريب المستحدَث إلى جانب التخريب الأسديّ، سواءً أكان هذا التخريب المستحدّث منهجيّاً ومقصوداً أم أنّه تابعٌ للمأساة التي يمرّ بها المجتمع السوريّ دون إسنادٍ/إنقاذٍ خارجيّ (أو بالأصحّ، هو إسنادٌ مشوّهٌ تابع لمصالح الدول العربيّة بشكل فرديٍّ لا رؤية استراتيجيّة فيه لمستقبل الأمّة العربيّة، ساهم في رفع مستوى المأساة السورية من جهة، وتاركاً إياها لتكون مأساةً تاريخيّةً لعموم الشرق الأوسط من جهةٍ أخرى، ولعموم العرب من جهةٍ ثالثة، ولعموم المسلمين من جهة رابعة، وللحضارة العالميّة المعاصرة كذلك). وهو ما يجعل مهمّة إعادة بناء الهويّة السوريّة بعمقها العربيّ والإسلاميّ، مهمّةً غايةً في المشقّة، تحتاج إلى أفعالٍ سياسيّة واجتماعيّةٍ وفكريّة ممنهجةٍ، لن تقوم قبل الدخول في مرحلةٍ انتقاليّةٍ تقصي وبشكلٍ نهائيٍّ وجود النظام الأسديّ ورموزه، وتهدّم بناه الهويّاتيّة، وتحقّق بيئةً مستقرّة (أو شبه مستقرّة) تسمح بهذا الاشتغال الهوياتيّ.

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

هوامش:

(1) كريستيان تيليغا، علم النفس السياسي: رؤى نقدية، ترجمة: أسامة الغزولي (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، سلسلة عالم المعرفة، الكتاب رقم 436، أيار/مايو 2016)، ص 35.

(2) محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2012)، ص 389.

(3) المرجع سابق، ص 393-394.

(4) كارولين دوناتي، الاستثناء السوري بين الحداثة والمقاومة، ترجمة: لما العزب (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 2012)، ص 451.

(5) يقول مثقف من السلمية: “إن الشباب يشعرون بأنهم إسماعيليون لأنهم بحاجة إلى الإحساس بالانتماء إلى هوية ما. ومع غياب الحركة السياسية أو الشعور بالانتماء إلى الدولة السورية، فإنهم ينطون على الطائفة”. انظر: المرجع السابق، ص 459.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق