عهد جديد يشهده العالم، وبروز قواعد لعبة جديدة

البداية من شبه جزيرة القرم التي احتلتها روسيا في 27 فبراير 2014 بعد ابتعاد أوكرانيا عن روسيا احتلتها من أجل الحفاظ على مصالحها الجيوسياسية خصوصا وأن لروسيا القاعدة العسكرية الروسية الوحيدة التي تتواجد في المياه الدافئة على البحر الأسود، ويوجد بها منتجع يالطا الذي اجتمع فيه في خضم الحرب العالمية الثانية في فبراير 1945 فرانكلين روزفلت، وجوزف ستالين، وونستون تشرشل للتشاور بشأن اتجاه الحرب القائمة في ذلك الوقت، والسلام التالي الذي يعقبها، وكان هناك طرح للرئيس الأمريكي روزفلت حمل عنوان رجال الشرطة الأربعة لرعاية العالم وهو الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وبريطانيا والصين، هدف روزفلت الحفاظ على الأمن الجماعي لأوربا، لكنه فوجئ برد ستالين برؤية مختلفة تماما، وهي أن العالم تشكله مجالات النفوذ، حيث ينقسم العالم بين فلكين وأصبحت عندها أوربا الشرقية تحت هيمنة روسية 45 عاما إلى أن انهار الاتحاد السوفيتي وعادت أوربا الشرقية إلى الاستقلال.

اختار الرئيس هاري ترومان على ضرورة احتواء التوسع السوفياتي وأقام عندها تحالفاته بدءا من أوربا الغربية ثم انطلاقا نحو آسيا، وتولت الولايات المتحدة صياغة المؤسسات الدولية الذي سمي بالنظام الدولي الليبرالي بما في ذلك الأمم المتحدة والمؤسسات المالية من صندوق النقد والبنك الدوليان، وفضلت الولايات المتحدة إتباع نظام العالم المفتوح المتصل بالتجارة وبالسلع والأفكار ورؤوس الأموال والعالم القائم على تقرير المصير وسيادة الأمم والحقوق.

 لكن يبدو هناك نهاية ليبرالية الهوية خصوصا بعد انتخاب الرئيس ترامب الذي نجح في تحويل المشكلات الاقتصادية إلى غضب عنصري، أو بالأحرى فرضية انتقام البيض والدخول في عصر مؤدلج بعدما انزلقت الليبرالية الأميركية إلى نوع من الذعر الأخلاقي من الهوية العنصرية والجنسية التي دمرت رسالة الليبرالية ومنعتها من أن تصبح قوة توحيد قادرة على حكم الجميع بعدما كانت أميركا تحتفي بالتنوع وهو ما كانت تعده مبدأ عظيما من مبادئ علم الأخلاق، بعدما أصبح العالم آسيويا، إلى سنوات قليلة كانت العولمة تعني عولمة أميركية أو الأمركة، ليس فقط في الاقتصاد والصناعات الكبرى، وإنما كذلك في القوى الناعمة مثل الفنون والآداب وحتى مناهج الحياة اليومية مثل الأكلات السريعة الأمريكية التي اجتاحت الأسواق العالمية، لكن معالم الشيخوخة بدأت تظهر في أميركا وأوربا وكأنها اعتبرت العولمة سبب في شيخوختها وهناك انقسام بين الأوربيين حول أيهما أهم اتفاقية اللاجئين أم انضمام تركيا للاتحاد الأوربي، وهناك تخوف ليس فقط في أميركا بأن العالم أصبح آسيويا بل كذلك في أوربا المتضمن في تصريح رئيس المفوضية الأوربية جان كلود يونكر الذي صرح بان خلال 20 عاما لن تكون أي دولة أوربية ضمن مجموعة السبع العظام.

نادرا ما كانت الشعبوية التي استثارت غضب الغرب خلال عام 2016 وهي تشبه الاضطرابات الثورية التي اجتاحت أوربا عام ،1848 رغم أنها انتهت بخيبة أمل مريرة بالنسبة للثوريين مثلما يحدث اليوم للإضطرابات الثورية العربية التي انتهت هي الأخرى بخيبة أمل، لكن الثورة التي اجتاحت أوربا عام 1848 أصابت أسس النظام القديم، كذلك يحدث اليوم خصوصا وأن شعبويين اليوم يستولون على السلطة عبر صناديق الاقتراع كما حصل لدى العرب في العراق وفي مصر وغيرها، ما يعني أن الديمقراطية هي بحاجة إلى مراجعة ،بسبب أن جيل ما بعد الحرب الباردة الذي ركن إلى الاعتقاد بأن النظام والقدرة على التنبؤ هما جزء من حالة الطبيعة، هذا الجيل تعرض لهزة قوية، خصوصا بعدما أخذت الشعبوية تنتشر في العالم الغربي بعدما خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوربي، أي أننا نرى مشهدا آخذ في التشكل ليس فقط في الدول العربية بل كذلك في الدول الغربية.

رغم أن حقبة الحرب الباردة شابها حالات من التوتر إلا أن تلك الحرب تمكنت من صياغة عقود من السلام بين القوى العظمى، ومثلما انهارت ألمانيا الشرقية في ليلة، يمكن للاتحاد الأوربي أن ينهار أيضا خصوصا بعدما صرح ترامب أثناء الانتخابات بأن حلف الناتو عفا عليه الزمن، بينما ترى وميركل أن مهمتها منع ذلك وهي زعيمة تشكلت هي وبوتين على وقع انهيار جدار برلين عام 1989.

وأصبحت الولايات المتحدة تعاني من تحديات جسيمة من قبل المنافسين القدامى وحتى النظام الذي أسسته ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بوتين يحاول استعادة مجال النفوذ الروسي للحياة من جديد قطعة قطعة، فيما تقترح الصين نموذج علاقات القوى العظمى الجديد وتدعو الولايات المتحدة الالتزام بالجانب الذي تسيطر عليه من المحيط الهادئ وإفساح المجال للصين لنيل نصيبها من الأدوار الدولية.

إدارة الرئيس ترامب هي بين رفض مجالات النفوذ أو تقوم باحتوائها، ويبدو الخيار الأخير هو الأقرب على غرار ما اختاره الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان، حيث يؤكد حلف الناتو على أهمية الحوار الأميركي – الروسي.

هناك ظهور مجالات نفوذ جديدة خصوصا بعدما نصح بوتين الولايات المتحدة وقال حري عليها أن تتخلى عن وظيفة الدفاع عن العالم، وطالب اليابان وكوريا الجنوبية الاضطلاع بأعباء الدفاع عن أنفسهم وترسيخ مبادئ الردع النووي.

 لذلك نجد بوتين يبحث مع رئيس وزراء اليابان أزمة أوكرانيا وإحياء المحادثات الأمنية والتي شملت أيضا النزاع على جزر الكوريل والدرع الصاروخية الأميركية، وبدأت اليابان ترى في الهند حليفا استراتيجيا وأبرمت اتفاقا نوويا معها تحسبا للتحولات الدولية والاقتصادية المتسارعة، خصوصا مع عودة التوتر إلى بحر الصين الجنوبي بعد نشر بكين نظم أسلحة متطورة، ما جعل دونالد ترامب يتوعد الصين بإجراءات أكثر تشددا تجاهها.

 رغم أن ترامب تعهد للصين بالتخلي عن اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي متنازلا للصين عن القيادة الاقتصادية والنفوذ الاستراتيجي في قارة آسيا، لكنه قد تكون غير نهائية يمكن مراجعتها وهو ما جعل ترامب يتراجع عن وعوده ويهدد الصين بإجراءات بعد نصب بكين نظم أسلحة متطورة خشية من أن تعود واشنطن إلى شرنقتها في حين تهيمن كل من روسيا والصين في مجالات النفوذ السياسية والاقتصادية في العالم.

العالم يدخل مرحلة نظام سياسي عالمي جديد تعوزه الأناقة، خصوصا إذا ما أبرم بوتين صفقة مع الصين حول الوضع في سوريا وهو ما يجعل الولايات المتحدة تضطر إلى ان تسلم راية النصر إلى إيران نكاية ببوتين، حيث ترى في نفس الوقت الرئيس الصيني تشي جينيينج يتوجه إلى دافوس لحضور المنتدى الاقتصادي العالمي ما يعني أن الصين تستولي على الشاغر.

تنظر الولايات المتحدة إلى أن القواعد العالمية والتحالفات الثابتة شكلا من أشكال الطرح، بدلا من أن تكون شكلا من أشكال الإضافة للقوة الأمريكية، وترى أن التعددية السياسية ليست للأقوياء، وتنظر إلى المسائل الجيوسياسية لا تختلف عن الأعمال التجارية وترى أنه آن وقت إبرام الصفقات.

 حيث لا تزال تعتبر نفسها القوة العظمى الوحيدة، وأنه يجب أن تظل المرجعية السياسية الخارجية الخاصة بالجميع، وهي متأكدة أنه حتى الرئيس بوتين لن يتمكن من تجاهل المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وهي تسدل ستار السلام على الطريقة الأمريكية من خلال تبني سياسات أمنية وتجارية ولكنه تحت شعار أمريكا أولا، ولن تقبل لا من الصين ولا من روسيا أن تقلبا النظام الدولي الذي هو بقيادة الولايات المتحدة.

من يتابع المشهد الجيوسياسي يلاحظ أنه لن يسير في خطوط مستقيمة، حيث هناك ترتيب يتعلق بالتعددية السياسية، وبدأت القواعد المشتركة تختفي وتحل محلها صراعات بين القوى المتنافسة بسبب تصادم المصالح أكثر مما تتزامن، ويدخل العالم في تحالفات متداخلة وأحيانا متناقضة.

النظرية الجيوسياسية التقليدية تفيد بأنه لا توجد أناقة في التحول العالمي الجديد خصوصا عندما  تزعزع الاستقرار القوة المبتدئة، وتوجد حالة وجود تصادم بين القوى الراسخة والقوى الآخذة في الظهور.

تحركات روسيا في إبرام صندوق استثماري روسي – ياباني بمليار دولار يمول مشاريع البنية التحتية والقطاع الصحي، وبدأت روسيا تتقرب إلى العرب وتركيا خصوصا بعد تطبيع العلاقات الاستراتيجية بين روسيا وتركيا والتنسيق في سوريا، وكذلك التنسيق مع السعودية حول إعادة استقرار أسواق النفط عبر خفض الإنتاج المشترك الذي يحدث لأول مرة، ودعوة ملك المغرب بوتين لزيارة المغرب.

 ما يعني أن روسيا لن تمكن إيران من التحكم المطلق بسوريا رغم التحالف الثنائي بينهما، ولكنه تحالف تكتيكي لن يكون على حساب المصالح الروسية، وحتى الهند عالقة في مثلث ود استراتيجي مفرغ بين الصين وباكستان، وهي قلقة من مشروع الممر الاقتصادي الذي تقوده الصين ودخول روسيا على المحور يزيدان من قلقها.

لذلك يشوب الولايات المتحدة قلق من تلك التحركات التي تقودها كلا من روسيا والصين خصوصا بعد تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين بعد مصادرة الصين مسبارا أميركيا، واعتبر ترامب الخطوة عملا غير مسبوق، لكن ردت وزارة الدفاع الصينية بأن الجيش الأمريكي يقوم بعمليات استطلاع، أي أنها قامت بعمل دفاعي وليس اعتداءا.

 لذلك فإن الولايات المتحدة هي في صدد التوجه نحو استراتيجية التوازن الثالثة، حيث شرع البنتاغون في إخطار حلفاء محوريين بخصوص خطط لإنتاج تقنيات أسلحة متطورة لتعويض المكاسب العسكرية التي حققتها روسيا والصين ومع ذلك تقرر تجميد هذه الاستراتيجية في انتظار موافقة الرئيس الأمريكي الجديد ترامب.

ترمي استراتيجية التوازن الثالثة لاستعادة الهيمنة الأميركية على صعيد الحروب التقليدية، حيث تعكس الضغوط التي يمارسها مسؤولو البنتاغون لإقرار مثل هذه الأنظمة الجديدة للأسلحة لتعزيز الريادة الأميركية بمجال تكنولوجيا الكومبيوتر داخل البنتاغون التي تعتمد أسلحة متطورة تقنيا تعتمد أنظمة متشابكة من المجسمات المعتمدة في عملها على الكومبيوتر، وشبكات لإدارة المعارك، وأسلحة ولوجستيات حركية، ويتمثل الهدف الأكبر من وراء هذه الجهود في بناء أنظمة على درجة بالغة من السرعة والانتشار تمكنها من التغلب على قدرة العدو، حيث لا تريد الولايات المتحدة أن تخوض حروب متكافئة، بل تسعى نحو حروب قصيرة وحادة يكون الفوز حليفها، يشبهها البعض بأن تكون أنظمة أشبه بحروب ألعاب الفيديو، بينما البعض يشبهها بروبتات قاتلة أو جحافل من طائرات دون طيار شديد الصغر.

لكن هناك البعض يتساءل هل هذا الجيل الجديد من الأسلحة يتمكن من تحقيق استقرار من خلال تحقيق التوازن من خلال التفوق الأميركي في مواجهة روسيا والصين، أم انه سيسفر عن مزيد من زعزعة الاستقرار العالمي؟ ليس الكل متفق على مثل هذا التوجه إذ لم يرافقه استراتيجية احتواء، خصوصا بعدما أصبحت الولايات المتحدة قوة بارزة بهامش بسيط، ويبدو أن العالم فقد التفكير بأسلوب استراتيجي، خصوصا في ظل رفض الصين وروسيا ميل لقبول القواعد المكتوبة من قبل الولايات المتحدة، خصوصا بعدما كشفت الولايات المتحدة بعد احتلال العراق عام 2003 هيمنتها لكن الأزمة المالية عام 2007-2008 كشفت عن جوانب الضعف في الرأسمالية الليبرالية.

 ما يعني أن العالم يستعجل توزيع السلطة في النظام العالمي، وأن يستبعد العالم النزعة الشعبوية في العالم الغربي ونزعة الانتقام المسلح لدى روسيا، وبدلا من الصراع بين النخب العسكرية والسياسية البحث عن أنموذج جديد من العلاقات الدولية، والاعتراف بأن النظام القديم قد ولى وانتهى وحان الوقت للانخراط والاشتراك مع الصين في تصميم بديل يحل مكانه بدلا من الصراع بين قوة راسخة وقوة صاعدة.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق