صلة إيران الخفية بالقاعدة

في كلمة صوتية مسجلة تم بثها في بعض المواقع يوم الأثنين المصادف 12-5-2014 أعترف فيها أبو محمد العدناني، المتحدث بأسم الدولة الإسلامية بالعراق والشام، أو ما يُعرف بتنظيم “داعش” بالإبتعاد تماماً عن توجيه أية ضربة لإيران إمتثالاً لأوآمر القاعدة. وبما داعش ليست تابعة إلى تنظيم القاعدة، لذا أستجابت لشطر واحد، وهو عدم مهاجمة “الروافض” داخل إيران حفاظاً على المصالح الخاصة بالقاعدة، لكنها لم تستجيب للشطر الثاني المتعلق بالروافض داخل العراق؛ لأن ما يقع تحت حُكم داعش يخصها وحدها. وفي هذا الصدد يقول العدناني لأيمن الظواهري بما يلي:

إن “طبيعة هذه العلاقة (ما بين القاعدة وداعش) بأنها ليست نافذة داخل الدولة مثال ذلك: عدم إستجابتنا لطلبك المتكرر بالكف عن إستهداف عوام الروافض في العراق، بحكم إنهم مسلمون يُعذرون بجهلهم، فلو كنا مبايعين لك لمتثلنا لأمرك حتى ولو كنا نخالفك الحُكم عليهم والمعتقد فيهم. هكذا تعلمنا في السمع والطاعة ولو كنت أمير الدولة لألزمتها بك ولعزلت من خالفك بينما ألتزمنا طلبكم بعدم أستهدافهم في إيران”.

أما أسباب إمتناع داعش عن شن هجمات داخل إيران، فإن العدناني يعترف بكل وضوح قائلاً:

“ظلت الدولة الإسلامية تلتزم نصائح وتوجيهات شيوخ الجهاد ورموزه، ولذلك لم تضرب الدولة الإسلامية الروافض في إيران منذ نشأتها، وتركت الروافض آمنين في إيران، وكظمت جماح جنودها المستشيطين غضباً، رغم قدرتها آنذاك على تحويل إيران لبرك من الدماء، وكظمت غيظها كل هذه السنين، تتحمل التهم بالعمالة لألد أعدائها إيران؛ لعدم أستهدافها، تاركة الروافض ينعمون فيها بالأمن والأمان، إمتثالاً لأمر القاعدة، للحفاظ على مصالحها، وخطوط إمدادها في إيران”.

ويشير العدناني في كلمته على الدور الإيجابي لتنظيم القاعدة تجاه إيران، فداعش التي “كبحت جماح جنودها، وكظمت غيضها على مدار سنين حفاظاً على وحدة كلمة المجاهدين ورص صفهم، فليسجل التاريخ أن للقاعدة ديناً ثمين في عنق إيران”.

رغم أن هذا الإعتراف الصريح بالصلة الخفية ما بين تنظيم القاعدة والنظام الإيراني ليس أكثر من كشف جديد آخر، لكن خطورته تكمن في المصدر ذاته. إذ أن الخلاف الحاصل ما بين التنظيمين: داعش والقاعدة، دفعت بالعدناني أن يقرص الظواهري من خاصرته الضعيفة. فالأخير على الأرجح موجود بمكان ما في إيران، وليست له سلطة ترأسية على داعش قط.

كما وإن الجانب المعنوي لداعش حيال قادة القاعدة لا يتعدى عن رمزية: “تنازل وتواضع وتشريف وتكريم لكم منا” على حد قول العدناني إلى الظواهري، والذي خاطبه بكلمة “يا دكتور”، كونه طبيباً أصلاً وليس فقيهاً متمرساً، وشتان بين المعنيين؛ ولهذا يقول:

أن “هذه هي قاعدة الجهاد التي عرفناها وهذا منهاجها، ومَنْ بدّلها أستبدلناه. هذه القاعدة التي أحببناها وهذه هي القاعدة التي وآليناها، وهذه القاعدة التي ناصرناها وباتت أنفسنا لا تطاوع غير قيادتها.. قادتها هم الرموز ولا نسمح حتى لهاجس في أعماقنا بمهاجمة أو إنتقاص قائد من قادتها، لأنهم أصحاب السبق وأصحاب الفضل، وهذه هي علاقتنا بالقاعدة، ولأجل هذا أرسلت الدولة رسالة عبر أبي حمزة المهاجر لقيادة القاعدة تؤكد فيها ولاء الدولة لرموز الأمة المتمثلين بالقاعدة، وتخبرهم أن كلمة الجهاد في العالم لكم، رغم حل التنظيم على أرض الدولة تبقى لكم حفاظاً على وحدة كلمة المجاهدين ورص صفوفهم، ولأجل ما ذكرناه ظل أمراء الدولة الإسلامية يخاطبون أمراء القاعدة خطاب الجنود للأمراء”.

عندما يؤكد العدناني بأن داعش لم توجه أي ضربات للروافض داخل إيران، وذلك بطلب وتوجيهات من تنظيم القاعدة، فإن الأمر يتعلق أيضاً بقادة التنظيم في السعودية ومصر وليبيا وتونس من أجل ضمان وحدة الصف، وعدم كسر كلمة القاعدة حسب المفهومهم الداعشي. بيد أن الإذعان إلى هكذا قرار إنما ينم عن تناقض سوى مع موقف داعش السلطوي، أو مع القاعدة التي تدير عملياتها وفق مصالحها، وصلتها بالنظام الإيراني. علاوة على تناقضات حُكام إيران أنفسهم في إستغلالهم وتوظيفهم للدين خصوصاً، وللحركات الإسلامية عموماً.

إن حلم إعادة أمجاد الماضي الفارسي على حساب الوجود العربي، يوظف له أركان النظام الإيراني كل شيء من أجل تحقيقه حتى وأن تناقض مع ما يرفعه من شعارات ومباديء. لذلك تجد أن النظام الإيراني هو أول من أستغل هروب عناصر القاعدة من أفغانستان إلى إيران في أواخر 2001، وعندما طالبتهم الإدارة الأمريكية بتسليمهم عناصر القاعدة؛ كان الجواب: من الأفضل أن يكونوا تحت أنظارنا، وتحت النظر تم تجنيد جناحاً قاعدياً تابعاً لهم، أستخدموه بعد توافقهم مع المحتل الأمريكي للعراق عام 2003، وبالتدريج صار تنظيم القاعدة يخضع إلى التوجيهات الإيرانية.

ومن بين الذين جاؤوا من مدينة أصفهان الإيرانية ودخلوا إلى العراق هو أبو مصعب الزرقاوي (1966-2006) الذي شكل تنظيم “جماعة التوحيد والجهاد” في 2004، ثم بايعه أسامة بن لادن (1957-2011)، وصار أسم التنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” في 2005، حيث خدع فيه العرب السُّنة بأن تنظيمه يسعى إلى محاربة جنود الأحتلال الأمريكي. وما أن كسب المزيد من العناصر والأماكن العراقية، حتى بدأ يقتل كل مّنْ لا يوالي تنظيمه، فدخل في مواجهات مسلحة ضد فصائل المقاومة العراقية بكل أطيافها الوطنية والقومية والإسلامية، ناهيك بقتله إلى العرب الشيعة بدعوى أنهم “روافض” كفرة.

وعندما أنشق الملا ناظم محمود الجبوري (1978-2012) عن تنظيم القاعدة في 2007، وتعاون مع حكومة نوري المالكي ضدهم، ثم أدرك بأن هناك جناحاً قاعدياً مرتبط بإيران يعمل وفق توجيهاتها ومخططاتها، وبعدها أيقن أن القاعدة بشكل عام كلامها مخالف إلى أفعالها، ولكن ما أن ألمح إلى هذا الأمر، وبدأ يثيره في خطبه من على المنابر، حتى تم تهديده بالقتل، فإضطر للهرب إلى عاصمة الأردن عمان. ولسبب غامض رجع الجبوري إلى بغداد، وأغتالوه أثناء خروجه من “المنطقة الخضراء” معقل المالكي، ولقد تبنى عملية الإغتيال تنظيم دولة العراق الإسلامية، بدعوى إنه مُرتد كافر.

كان تأسيس “دولة العراق الإسلامية” في 15-10-2006، بعد مقتل الزرقاوي في 7-6-2006، ومن التفسيرات المريبة بمقتل الجبوري ما صرح به مستشار المالكي لشؤون المصالحة الوطنية عامر الخزاعي الذي أكد أن “تحرك الملا ناظم الجبوري بمكان شبه آمن تسبب بمقتله”!

على أي حال، فإن كلمة أبو محمد العدناني التي بثتها مواقع تُستخدم لبث بيانات داعش حسب شبكة الأخبار سي أن أن الأمريكية، والتي هاجم فيها أيمن الظواهري موجهاً له إنتقادات لاذعة عبر بيانه الموسوم: “عذراً أمير القاعدة”، يدل فعلاُ على مدى إتساع الهوة ما بين القاعدة وداعش، وإن قوله: إن “الدولة ليست فرعاً تابعاً للقاعدة ولم تكن يوماً كذلك بل لو قدر لكم الله تطأ قدمكم أرض الدولة الإسلامية لما وسعكم إلا أن تبايعوها وتكونوا جنوداً لأميرها القرشي حفيد الحسين، كما أنتم اليوم جنود تحت سلطات الملا عمر”؛ يعني إن القاعدة لا تمتلك سطوة فعلية على داعش، بل حتى رمزية القاعدة صارت الآن مهزوزة من ناحية، وكشفت أكثر عن صلتها الخفية بإيران من ناحية أخرى.

إن إستفحال الخلاف بين هذين التنظيمين السلفيين سيكشف المزيد من الخفايا والخبايا، لا سيما بما يتعلق بالجانب الإيراني، بل ونتوقع أن تفضح القاعدة بعض صلات داعش أيضاً. فالأخيرة التي تأسست في 9 نيسان/أبريل 2013 سرعان ما أمتدت في غضون ست شهور لتبسط سيطرتها التامة على مناطق واسعة داخل العراق وسوريا، مما يعني بأنها مدعومة من قوة دولية بالمال والسلاح والإستخبارات.

ومثلما كانت سرعة “حركة طالبان” بالسيطرة على أفغانستان، بسبب السلاح الأمريكي، والمال السعودي، والإستخباري الباكستاني، فإن داعش تدعمها إيران وسوريا بشكل مباشر، والعراق بشكل غير مباشر.

ولقد تحدث وزير العدل العراقي حسن الشمري في 6-1-2014 قائلاً: إن رؤوساً كبيرة في الدولة سهلت هروب سجناء تنظيم القاعدة من سجني “أبو غريب” و”التاجي” في بغداد تموز/يوليو الماضي، وأن “الغرض من تسهيل عملية الهروب هذه كانت تقوية النظام السوري من خلال تقوية تنظيم ’داعش‘، وتخويف الولايات المتحدة من أن البديل القادم لنظام بشار الأسد هو ذلك التنظيم”.

وتابع الشمري قائلاً: “أن قوات حماية السجنين أنسحبت قبيل أقتحام عناصر القاعدة لهما وإطلاق رفاقهم”. وأوضح: “إن تسهيل عملية الهروب جاءت قبل إتخاذ الكونغرس الأمريكي قراراً بإعطاء التخويل للرئيس الأمريكي باراك أوباما بتوجيه ضربة عسكرية لسوريا في حينه والتي تم إلغاؤها لاحقاً”.

وإذا كشف العدناني عن الصلة الخفية ما بين القاعدة وإيران، فإن داعش لا يمكنها أن تفرض وجودها المكاني الممتد بين العراق وسوريا من تلقاء قوتها المحلية المحدودة، بل عبر النظامين السوري والإيراني، وما قاله وزير العدل العراقي يؤكد دعم حكومة بغداد المرتبطة بإيران في إسناد القاعدة وداعش. وهذا يعني في نهاية المطاف إن داعش أو القاعدة ليستا أكثر من دوائر مرتبطة بالنظام الإيراني في تنفيذ المشروع الصفوي الجديد في المنطقة العربية. وبالتالي فهما ينسجان على منوال النهج الطائفي الذي تريده إيران، كما هو الحال مع “حزب الله” في لبنان، و”عصائب أهل الحق” و”كتائب أبي الفضل العباس”وغيرها في العراق أو داخل سوريا؛ وكذلك مع الحوثيين في اليمن، والإنقلابيين الطائفيين في البحرين.

وبما أن النظام الإيراني ينتهج سياسة التشيع الصفوي القائم على سفك دماء العرب المسلمين من أهل السُّنة تحديداً، لذا ليس مستبعداً أن يكون التطاحن القتالي المستعر حالياً ما بين عناصر داعش ومقاتلي جبهة النصرة في سوريا أن لإيران يد خفية في إذكاء هذا الصراع الدموي، سيما وأن القاعدة لها صلتها بالنظام الإيراني. ولذلك لا غرابة أن يوجه العدناني نقده الشديد للظواهري قائلاً:

 “لقد وضعت نفسك وقاعدتك اليوم أمام خيارين لا مناص عنها إما أن تستمر على خطأك وتكابر عليه وتعاند ويستمر الإقتتال بين المجاهدين في العالم، وإما أن تعترف بخطئك وزلتك وتصحح وتستدرك”. ويضيف: كان “المجاهدين على كلمة واحدة وقد فرقتها، نمد لك أيدينا من جديد، وندعوك للتراجع عن خطأك القاتل ورد بيعة الخائن الغادر الناكث فتغيظ بذلك الكفار.. أنت مَنْ أيقظ الفتنة وأذكاها، وأنت مَنْ يطفأها إن أردت إن شاء الله، فراجع نفسك وحقق موقفاً لله، وندعوك ثانياً لتصحيح منهجك وتصدع بردة الجيش الباكستاني والمصري والإفغاني والتونسي والليبي واليمني وغيرهم”.

ومن بين المفارقات التي طرحها العدناني في هجومه على الظواهري شخصياً وعن إرتباط القاعدة بالنظام الإيراني، أن يقف على الضد في آن واحد تجاه مُرشح الرئاسة عبد الفتاح السيسي، والرئيس الأخواني المخلوع محمد مرسي، حيث يرى أن الظواهري ليس واضحاً في موقفه تجاه مصر، فهو يتلاعب “بالأحكام والألفاظ الشرعية” عندما يتناول الحُكم الفاسد والدستور الباطل والعسكر المتأمريكين، دونما أن يبت صراحة بالدعوة “لقتال جيش مصر، جيش السيسي الفرعوني الجديد وإلى التبرؤ من مرسي وحزبه والصدع بردته”.

ولعل عبارة: “وكفاك تلبيساً على المسلمين” فيها إتهام صريح ليس للظواهري فقط، بل وإلى النظام الإيراني الذي يتستر بالدين ويتعمد التلبيس السلبي للعرب المسلمين، وإلا ما معنى أن تمد إيران أذرعها الطائفية لإشعال نار الفتنة بالمنطقة العربية؟ ولماذا يسجل التاريخ “أن للقاعدة ديناً ثمين في عنق إيران”؟ وكيف ترضى بقتل العرب الشيعة وهي تدعي حامية المذهب؟ دون شك، إن قادم الأيام سيكشف لنا الكثير عن صلة إيران الخفية بالقاعدة أو غيرها.

 

د. عماد الدين الجبوري

كاتب وباحث عراقي

نقلا عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق